المرأة في عروض مسرح الشارع….  التمرد وانبثاق الذات

ورشة فن - مسرح

0 1٬072

الدكتور عقيل ماجد الملا حسن – العراق

توطئة:

لطالما تمتع المسرح منذ الازل بقانون الحضور / الغياب / التمرد / التحول عبر تلك المفاهيم الأيديولوجية والسياسية والدينية، فهناك معطيات لعبت دوراً في تأسيس وبناء منظومة متكاملة من الخاصية الإنسانية في التعامل مع القوانين الاجتماعية، سواء على المستوى تشكيل القدر بوصفه اللبنة والجوهر الذي تفاعل معه الفرد داخل بيئته، أو على مستوى الغياب الذي يعّد أحد المرتكزات الذي حاول قراءة الذات وتحريرها من القيود، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي لم يرضى أن ينصاع نحو الاستكانة او وسعى نحو الأفضل بعبارة أخرى نحو ذلك التمرد والعصيان على مر العصور، فهو متمرد بشكل مستمر من أجل أن يكون ومتمرد على ما هو كائن، فهناك صنع لنفسه لحظات انبثاقيه نحو عالم التمرد.

ونحن حينما نسمع كلمة او فعل التمرد تظهر جلياً في ذاكرتنا تلك المعاني الفعالة والنشطة نحو المفاهيم الحياتية وصيرورتها سواء على المستوى السياسي او الاجتماعي فهناك تمرد نحو للوصول للحرية والمساواة وحتى الحوار والكلمة، فالتمرد هو الرفض الكامل لكل تلك الأوامر التي لا تنسجم مع تطلعات الانسان وحريته الفكرية وحتى الجسدية، فهناك مجموعة من الأنماط السلوكية الاجتماعية التي شكلتها السلطة بكافة مستوياتها نحو تحقيق النفوذ، فيعمل ذلك التمرد على الخروج من تلك القيود وإعادة تنظيمها وتحديد سمات اشكالها نحو الشكل الذي يخدم الفاعلين وبناء أهدافهم، ويأخذ التمرد أشكاله من محيطه وفي بعض الأحيان يصل الى ما يعرف بالثورة على الرغم من اختلافه عنها، بيد أن تلك الانطلاقة تبدو ذات المفهوم فهناك تمرد على الذات والمجتمع والسياسة، فضلا عن ما تقوم به جماعة من الافراد التي تسعى لربط ايدولوجيتها مع مجموعة أخرى لتكون أكثر فعالية وتنظيم وهذا ما يسمى بالثورة الاجتماعية او التمرد الاجتماعي.

1ـ الوعي والتمرد:

عندما يظهر الوعي بكامل فاعليته ونشاطه تتشكل للفرد تلك الاحداث التي عاشها وهو خاضع لمجموعة من الأفكار البليدة نحو عبثية ذلك الوجود، وليس لديه إدراك لمصيره وسط ذلك الظلم الذي عاشه، مما يشكل تلك اللحظة الانفجارية للوعي بهدف تحقيق التغيير. ولو عدنا بذلك الزمن لوجدنا إن لفعل التمرد الذي نشأ في حضن الفلاسفة أمثال (هيغل و ونيتشه) وغيرهم بوصفهم من الأوائل الذين تمردوا على تلك الميتافيزيقية في دراستهم للنصوص التي استندت اليها البشرية، وتشكلت على وفقها المبادئ والنظم الدينية والسياسية والاجتماعية من بداية تأسيس الفلسفة في أثينا مروراً بروما والعصر الوسيط والنهضة، وهناك المتمردون التاريخيون، الذين هدفوا نحو تحقيق مبادئ الحرية والمساواة والعدل، وهذان الصنفان، تمردوا على القديم وتحريك الراكد في الحياة عن طريق فعل العقل والشك فبمجرد الشك بتلك المسلمات والمعتقدات، تتهيأ لحظة التمرد وتبدأ بالتغيير بيد أنه يظل أسير التجريب والتجريد، وقد تمخضت عمليات التمرد العقلي والوعي لأجل إلغاء ذلك العالم اللاعقلاني للوصول الى لحظة كاملة من الوعي كما حدث من النظرية الماركسية في تجديد ذلك الخطاب الاجتماعي وعلاقاته، وهنا لا يبقى المتمرد وثورته الذاتية منغلق على أفكاره، وانما يسعى الى التعاقد بين ذلك الفكر المتجدد وتلك الثورات الداخلية التي يحملها المجتمع بوصفها متمرداً داخلياً، مما يجعل العقل الجامد الى عقل مبدع وفاعل ومؤثر في خطاباته وطروحاته.

2ـ الوعي العلمي:

كان للتمرد نصيب من ذلك التطور العلمي الذي احدثه مجموعة من العلماء والمصلحين الذين قدموا تجاربهم وحطموا تلك الهالات المقدسة عن طريق فعل الفكر والسلوك، وبخاصة في العصور الوسطى وسطوة الكنيسة على الانسان وحريته وفكره، فهناك (غاليليو) الذي تعرض لأشد انواع التعذيب من أجل تحقيق أفكاره التمردية، يقول غاليليو:( لابد من الفصل بين اللاهوت والعلم، لانهما مختلفان موضوعا ومنهجا وغاية، حتى لا يتصادمان ولا يتعارضان ) ومن هنا تتضح تلك الروح التمردية للوعي العلمي الذي اصر على إلغاء تلك التبعية والخروج بثورة علمية خالصة، لان التمرد هو رد الفعل الغريزي المحمول من روح المتمرد ذاته.

3ـ المرأة.. روح التمرد / المسرح.

تشكل حركة تمرد المرأة في المسرح في اللحظات الأولى للنص المسرحي عن طريق تلك الشخصيات التاريخية التي انبثقت من حركة التاريخ وشكلت انعطافه مهمة في تحريرها من القيود التي تكبلت بها، بيد أن تلك الحركة النسوية وروح التمرد لم تتشكل بشكل واعي لأن السلطة الذكورية لم تزل تسيطر على مجريات الاحداث فالكاتب الاغريقي على الرغم نصوصه التي تسعى للتمرد الانثوي كما في نص انتيجونا و ميديا وبنات دانوس، وغيرهم من تلك النسوة الثائرات بقت أسيرة ذلك القناع الذي سيطر على الذات، لقد أعطى يوربيدس المرأة حقوقها وخرجت على المجتمع الاثيني والاثني وتمركزت تلك الشخصية من الناحية الفكرية والأخلاقية عن طريق اخراج التعاسة التي يعيشونها التي اتسمت بها واستخراج تلك الأفعال على المستوى النفسي بغرض الإصلاح الاجتماعي، بوصف المرأة ذات التأثير في بيئة المجتمع وتستطيع أن تلعب الدور الفاعل في تقديم مشاكلها أمام الجماهير، وفي مسرحية (ميديا ) تلك الشخصية النسائية التي تعاني من صراعات نفسية ناتجة من دافع الغيرة على زوجها الذي تركها وتزوج (جلوكي) التي عملت جاهدة من أجل كسب رضاءه، حيث سرقت ذهب ابيها وقتلته وقتلت اخاها لاعتراضه على الزواج، في حين تمثل حضور المرأة في مسرحيات (ارستوفانيس) في مسرحية (ليستراتا) التي قدمت مشاكل المرأة في المجتمع وتأثيرات الحرب على النساء التي تقدمنّ فلذات اكبادهن و أزواجهن للحرب، و(ليستراتا) هي المرأة القادرة على تخليص المجتمع من ويلات الحرب بعد أن عجز الرجل في أن يجد حل لتلك الحروب، وقدمت البطلة الحلول العلمية عن طريق تقديم المرأة ليتسلّمن الحكم بدلا عن الرجال، فضلاً عن امتناعهّن عن ممارسة الحياة الزوجية بشكلها الصحيح من أجل تحقيق مبدأ العدالة والمساواة والسلام، أي : أن المرأة لعبت دوراً سياسياً واجتماعياً غير تلك الأمور المنزلية كتربية الأطفال والانجاب.. وغيرها.

مسرحية روميو وجولييت في بغداد
مسرحية روميو وجولييت في بغداد

أما في العصر الشكسبيري الذي أخذت المرأة تنحو منحاً آخر في لعب الصبية مكان تلك الشخصيات النسائية وارغامهن على الابتعاد عن الظهور بوصفهّن مقدسات ولا يجوز العمل في المسرح فغيبت المرأة بشكل نهائي على الرغم من تأثيرها الفعلي في النص مثل مسرحية (عطيل، وهاملت، روميو وجولييت) وغيرها التي كانت المحرك الأساسي لبنية النص المسرحي والحدث، فهناك غياب وحضور في ذات الوقت، غياب المرأة بصورتها الإنسانية المجسمة الحية ذات المشاعر والاحاسيس، التي تنقل معاناتها الى المجتمع بشكل واقع ملموس ومؤثر، وحضور في النص المسرحي مكتوبة حية داخل الاوراق، فلا يوجد تعادلية موضوعية بين النص والعرض. فهناك اصبح للغياب الانثوي سلطة قصدية، وحضور الذكر وسطوته المهيمنة على سير الدراما، ونرى في مسرحية البطة البرية وشخصية (نورا) تلك الشخصية التي خرجت من سلطة المجتمع وصفعت الباب بقوة ذات التأثير الفاعل في نقطة التحول في حضورها الفعلي ومدى قوة الشخصية التي سطرها (أبسن) لتحقيق تلك الذات المُغيبة للتخلص من القيود المجتمعية.

لقد أحدثت الثورات الفنية والمسرحية المتسارعة خلال الأعوام السابقة التي تلت مرحلة الوعي والتمرد منذ الطليعية وثوراتها على التقاليد التقليدية، متغيرات في البنية الفكرية والجمالية والادائية مما انعكس على بيئة وفكر المجتمع بشكل عام وهذا ما نجده في عروض مسرح الشارع التي أعطت مساحة مفتوحة وحرية دون قيد في تقديم المنتج الفكري أمام المتلقي دون حواجز او أضاءه وديكورات ضخمة تبهر الابصار، فالشارع هو مكان الناس التي تجتمع فيه كل المستويات والأفكار، لقد قدمت عروض مسرح الشارع تجارب نسائية متنوعة تمردت على تلك السلطة / الجنوسة، وتحرير الفكر قبل الجسد من مزاياه الثقافية والاجتماعية، وتحققت تلك الإنبثاقية في الذات التي لطالما سعت لها المرأة عبر حضورها الفعلي وطرح المشاكل التي تعيشها، فهناك فترات سعت الى إظهار الجانب الذكوري عن طريق تحريك مسارات النقد نحو الرجل وما يمثله من سلطة في المجتمع، ظهر التناقض الظاهري في انحسار تلك الأضواء على المرأة، فكان لابد من التمرد على تلك الصور والأفكار واثبات أن الأرضية الثقافية للمرأة تعمل على اثبات الذات واكتساب عنصر التحدي للحضور ومغادرة مرحلة الغياب أي: أن السلطة للجنوسة عليها أن تغادر معطياتها وأرضيتها التي انطلقت منها وحققت حضورها في مرحلة ما من مراحل الكتابة والتأثير وتحقيق فاعليتها لحضور المرأة التي لطالما تحاول ان تكون ضمن اطار المعادلة الموضوعية مع الرجل، ونرى تلك اللحظات التمردية أخذت بالانطلاق في المجتمعات الأكثر انفتاحاً وحرية ودون قيود ويتساوى فيها المجتمع، فانتعشت الحركة النسوية الثقافية وبرزت المرأة وهي تقدم نشاطها الفني عبر تلك الفعاليات والاحتفالات المنفردة والمختلطة في الشارع وتقدم مشاكلها وأيضا الحلول التي يمكن الاستعانة بها للوصول الى مجتمع مثالي، ويتأتى ذلك عبر تلك العروض التي يحملها مسرح الشارع.

وفي المجتمعات الشرقية والعربية نرى بأن فعالية المرأة أخذ بالتوسع عبر مشاركتها المستمرة في عروض الفضاءات المفتوحة او المغلقة، وتقديم حضورها الفعلي الفكري والادائي، التي لطالما كان منكمشاً بعيداً عن العيون، إذ يلعب الشارع ومسرحه دوراً في الانفتاح على تلك الطروحات عبر حرية التعبير وكشف المكبوت، وقد قُدمت عروضا في صعيد مصر تلك المنطقة المغلقة بأعراف وتقاليد مقدسة عروضا شاركت النساء بشكل واسع في عرض مشاكلهم الاجتماعية والنفسية التي تعاني منها، واصبح لها كلمة مسموعة في الأوساط الشعبية والفنية، كذلك العروض المسرحية التي قدمتها تجارب تونس والجزائر التي كانت لها الأثر الكبير والواضح في حضور الذات الانثوية وهي تقدم موضوعات خاصة وعامة تتشارك مع الذكر في معالجتها.

الخلاصة:

  1. تحولت المرأة على مر التاريخ من الحضور الى الغياب ومن الهامش الى المركز بحسب المعطيات الاجتماعية والسياسية والدينية والنفسية، وشكلت حضورها الفعلي عبر تلك التحولات مما جعلها تأخذ دورها سواء على المستويين النصي والعرض.
  2. عملت شخصية المرأة على تقديم ذاتها بمعطيات متعددة أخذت على عاتقها مصارعة تلك المسارات واثبات حضورها وتحرير القيود التي لطالما تكبلت بها.
  3. تبنت شخصية المرأة الطروحات الفكرية وحملت على اثبات قيمة ذاتها في تطبيق تلك الأفكار ومدى تحولها من الشك والمسلمات الى قدرتها على التجريب والمحاولة.
  4. تتمركز شخصية المرأة في ذاتها المتمردة التي شكلتها من صراعاتها الداخلية، وقدرتها على تبني موضوعات ذكورية قابلة للتحقيق بعيداً عن التناقض في شخصيتها المركزية.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.