روجر إيبرت – ترجمة فاطمة مصطفى – السعودية
أول فيلم تذكرته في اليوم الذي توفيّ فيه “إنغمار بيرغمان“، من بين كل أعماله كان “ضوء الشتاء”. أمرٌ غريب، لأني لم أعد مشاهدته منذ تدريسي فصلًا عن الأفلام في السبعينات. وبعد عدة أسابيع، وجدتُ الفيلم عالقًا في ذهني، ينتظرني أن أعيد مشاهدته. ما الذي تذكرته عن الفيلم حينها؟ أنه كان جزءاً من ثلاثية بيرغمان “صمت الإله”، عن قس لم يستطع تعزية رجلٍ تملكته الرهبة من المحرقة النووية، وأن هذا القس رفض امرأة كانت تنشد مؤازرته. وأن بيرغمان ومصوره السينمائي “سفين نيكسفت” جلسا في كنسيةٍ في يومٍ شتوي ليراقبا كيف يتحرك ضوء الشمس عبر المكان.
باختصار، بالكاد تذكرت شيئًا عن الفيلم، لأن هذه الذكريات الشحيحة لم تكن كافية لأن تشعل فيّ حاجةً لمشاهدة الفيلم مرة أخرى، ومع هذا شعرت بها.
أخيرًا، أنزلت علبة الفيلم من الرف وشاهدته. طاقة الفيلم الكئيبة وجرأة قوته أصاباني بالذهول.
الأهم قبل كل شيء، أنه أعمق من الحدود الفسيحة لذكرياتي عنه. إنه أكثر من كونه عن الرب، سواء كان صامتًا أو لم يكن. إنه عن صمت رجل، القس “توماس إيركسون” (جونار بيورنستراند) الذي تحدث كثيرًا خلال الفيلم، لكنه غي قادر على قول ما يقدم نفعًا لغيره أو حتى لنفسه. وهو أيضًا عن رجل ثاني: “جوناس” صياد السمك (ماكس فون سيدو)، الذي هاجسته شرور العالم، وقام بعد ذلك بمواجهة الرب (وفهم خدعته كما يزعم) وقتل نفسه. وعن “مارتا” (إنغريد تولين)، المعلمة التي يهمها أمر القس، تحبه وتقلق عليه، ويقابلها هو بعدائيةٍ وبرود. ويتضمن أيضًا مونولجين يفصح فيهما القس والمعلمة عن مشاعرهما الحقيقية ويجرحا بعضهما بعمق.
لكنه عن الإيمان أيضًا. هناك رجلان يقومان بمساعدة القس في تأدية واجباته في الكنيسة. الأول، عازف أورغان، يتفقد ساعته كل دقيقة، بحماسٍ ينتظر انتهاء المراسم، يلملم دفتره الموسيقي قبل أن ينهي المقطع الأخير من المعزوفة. الثاني، “آلجوت” (آلان إدوال) رجلٌ تشوه جسده نتيجة تعرضه لحادثٍ في خط سكة الحديد، ويعمل كقندلفت (خادم) في الكنيسة. يرن الأجراس ويشعل الشموع ويساعد القس في ارتداء ثوبه. لدى “آلجوت” مونولجه الخاص عن آلام السيد المسيح. وهو الشخصية الوحيدة في الفلم الذي يبدو أنه تأثر بقصة المسيح وصارت جزءًا من أفكاره اليومية.
يتسم أسلوب الفيلم من ناحية بصرية ببساطةٍ حازمة. لا يستخدم “نيكفست” كاميرا متحركة لإحداث تأثيرات. تريد عدسته أن تراقب ما تراه وتعرضه فقط. تركيبه للصورة ثابت في معظم لقطات الفيلم، عدا بعض الأحيان حين يميل إلى جانب درامي. تقترب عدسته وتنسحب ببطء لتعزز حدة الحوارات وتؤكدها.
نظرته لا ترف لدرجة قد تجعل تتابع اللقطات مملًا. كالمشهد الافتتاحي على سبيل المثال، عند مراسم القداس، حيث وزع الخمر وخبز القربان. لكنها لم تكن مملة بل جذابة وآسرة لدرجة تجعل منها موضوع دراسة مهم للسينما.
القس “توماس” لا يبتسم أبدًا. إنه مريض (يقول “بيتر كاوي” أن الممثل “بيورنستراند” كان فعلًا مصاب بالزكام وقت تصوير الفيلم). لكن أكثر من هذا فهو يتسم بالبرود، منفصل عن الواقع، غير قادر على الاهتمام بأي شيء. وعلى النقيض الآخر هناك “مارتا” التي ترتجف بحزن وحنان مكبوتان. والممثلة الشابة “غانل ليندبلوم” بهشاشتها وحيرتها، بالإضافة إلى زوجها الصياد الذي يبدو أنه شهد نهايته قبل أن يموت فعلًا.
القندلفت، الرجل الصغير ذو الجسد الملتوي يحمل على محيّاه ذهولًا أمام لغز الإيمان وحيويته. طبقًا لما يقول، فهو يقرأ الإنجيل كثيرًا، ويظن أن اختزال معاناة المسيح في صلبه مسألة خاطئة في أصلها. المسيح عانى لساعاتٍ قليلة فقط، أما هو “آلجوت” فقد عانى لمدةٍ أطول بكثير، ولم يكن الأمر سيئًا بالنسبة له. كلا، فمعاناة المسيح الحقيقية كانت عندما خانه أصحابه في بستان جثسيمانى”، وعندما صاح مناديًا على أبيه الذي تخلى عنه دون أن يجيبه. عانى لأنه كان خائفًا من أن أحدًا لم يسمعه أو لم يفهم رسالته. المسيح عانى أيضًا لأن صمت الرب روّعه.
القس “توماس” يتلو الوعاظ بجمودٍ وجفاف وقت القداس. يمثلُ أمامه حشدٌ من ثمانية أشخاص. اثنان منهم يتلقون أجرًا لتواجدهم، و”مارتا” التي لا تؤمن يوجود الرب أصلًا. بعد القداس، يتصرف القس دون بخشونة مع الكل دون اكتراث. لكن عندما تطلب منه “كارين” أن يتكلم مع زوجها الذي أرهقته مخاوفه، يوافق القس على طلبها؛ سيوْصِل “جوناس كارين” للمنزل أولًا، حيث ينتظرها أطفالها الثلاث ثم يعود للكنيسة. “آمل حقًا أن يعود” يردد القس توماس.
يقرأ القس رسالةً تركتها “مارتا” له، يصوّر “بيرغمان” “ثولين” وهي تقرأ الرسالة في لقطةٍ مقربة لوجهها مدتها ست دقائق. تقرأ رسالتها الصادقة، الحزينة، والقاسية على كاتبها، ولكن ضمنيًا ليست رحيمةً “بتوماس” أيضًا.
لاحقًا، عندما يعود جوناس ويشرع في الإفصاح عن مخاوفه بشأن حقيقة أن العالم سينتهي في دمارٍ نووي، وكل ما يستطيع توماس قوله هو “يجب علينا أن نضع ثقتنا في الرب”، ثم تطأطئ كاميرة “نيكفست” لتركز على أصابع القس المترددة، والمرتجفة، وهي موضوعة على المكتب. بعد أن يعترف “توماس لجوناس” أنه قسٌ فاشل، وأن صمت الإله أربكه لحدٍّ فقد معه إيمانه. يغادر “جوناس”، وبعد وقتٍ وجيز يصل القس خبر أن “جوناس” توقف عند نهرٍ قريب، وأطلق النار على نفسه ببندقيته.
يقرر “توماس” زيارة كارين وعائلتها. تقله “مارتا” هناك، لكنهم يتوقفون عند منزلها لتعطيه دواءً لزكامه، ثم تقترب منه، فتضمه وتحثه لقبول حبها. يرد عليها “توماس” بالرفض مشيرًا إلى أن حبه الوحيد كان زوجته التي توفيت قبل أربع سنوات. بعد ذلك، في خطابٍ طويل من القسوة والتجريح يحصي “توماس” كل ما يثير إشمئزازه بشأن “مارتا”: نواحها وتأففها، الالتهابات والتهيجات التي على ظهر يديها ورأسها، إنه عديم الرحمة. ثم يخرج غاضبًا، يتوقف مترددًا، ثم يدعوها بصورة غير متوقعة لمرافقته للذهاب لمنزل أرملة الصياد.
هناك صمتٌ بجانب صمت الإله. زوجة توماس يلفها صمت القبر، صمت توماس وهو غير قادر على الرد أمام حاجة الصياد، وعدم استجابته لحب مارتا، بتجهمٍ صامتٍ يرفضها. فريدريك (عازف الأورجان) صامتٌ في تملله للقداس، ينتظره أن ينتهي وحسب دون أن يكترث لفحواه. الوحيديّن الذي لم يسيطر عليهم الصمت هما الصياد وزوجته، لكنهم عندما يطلبون المساعدة والعون ترد استغاثتهم بالصمت.
لكن أيضًا هناك “آلجوت”، الخادم الأحدب، الوحيد الذي يبدو أنه أمعن التفكير في معاناة المسيح أكثر من معاناته الشخصية. تبصره في آلام المسيح ينم عن اقتناعٍ وتعاطف. لكن القس لا يستطيع الإنصات إليه، فهو مشغولٌ بلامبالاته الباردة.
تحدث “كاوي” عن المشهد الذي يتوقف فيه “توماس” و”مارتا” أمام قطارٍ مار. “توماس” يخبر “مارتا”: “لطالما حلم والداي بأن أصبح واعظًا”. يظن “كاوي” أن القس هنا يمثل “بيرغمان”. “بيرغمان” ابن “لوثريٍ” متشدد، استمع لمواعظ في الكنيسة تدعو للورع ثم يعود للمنزل ليواجه عقوباتٍ قاسية.
أتساءل إن كان “بيرغمان” يشير إلى جوانب أخرى من حياته عبر القس في مقاطعَ أخرى. نحن نعلم أنه تزوج كثيرًا، وأعطى نفسه الأولوية قبل نسائه. في فيلم (Faithless 2000)، من إخراج “ليف أولمان”، والنص من تأليف “بيرغمان”؛ يلعب “بيرغمان” دور مخرجٍ مسن يقوم بتوظيف ممثلة لتساعده على تشكيل قصة، قصة تحكي كيف أساء هذا المخرج معاملة امرأة ويريد الآن أن يطلب منها المغفرة والصفح. أوليس “ضوء الشتاء” عن رجلٍ أساء معاملة امرأة؟ امرأة لم ترد إلا أن تحبه وتساعده؟ أليس هذا نداءٌ من فنان خاف أن أحدًا لم يسمع رسالته؟ هل يمثل فنه الأب الذي تخلى عنه؟ هل كان قليل الحيلة أمام من طلب منه المساعدة؟ هل تجاهلهم وركّز فقط على مهنته وسمعته؟
إلى أي حد يمكننا اعتبار” ضوء الشتاء” سيرةً ذاتية؟ هذا سؤال لن نتأكد من إجابته أبدًا، إلا أننا على الأقل يمكننا اعتباره صورةٌ لرجلٍ حسبَ أنه ربًا، وخان نفسه.
المصدر:
https://www.rogerebert.com/reviews/great-movie-winter-light-1962