إدريس بوسكين – الجزائر
سمحت فترة الحجر الصحي للكثيرين بالتوجه لمشاهدة الأفلام والمسلسلات، وقراءة الكتب والروايات، والاستماع للموسيقى؛ ليس فقط لكسر الممل والروتين اليومي، وإنما أيضاً لاستثمار كل ذاك الوقت الضائع داخل البيوت. ولعل من أبرز الأفلام الجزائرية التي شاهدتها عبر الانترنت العمل الروائي الطويل “بابيشة” لمنية مدور.
يعتبر هذا الفيلم من أكثر الأعمال إثارة للجدل في الفترة الأخيرة؛ نتيجة منعه من العرض في قاعات السينما الجزائرية. سبب المنع هو “وقوف فريقه العلني” مع الحراك الشعبي في الجزائر (رغم أن وزارة الثقافة ساهمت في إنتاجه). الموقف/المنع جعله ينال نوعاً من الثناء الإعلامي وخصوصا في فرنسا.
الاهتمام الفرنسي كان لأسباب أيديولوجية بحتة، غير أنها لا تتعلق فقط بوقوف طاقمه إلى جانب الحراك ضد النظام الجزائري (مهما كانت صفة هذا النظام)، ورفعه لشعار “جمهورية ثانية” من محفل سينمائي دولي بفرنسا (مستعمر الأمس)؛ وإنما أيضاً لأن الفيلم مليء بصور الاستلاب الثقافي والأحكام النمطية المحقرة لثقافة الإنسان الجزائري.
يعود هذا الفيلم الروائي الطويل المنتج في 2019 إلى التسعينيات من القرن الماضي، وهي الفترة التي دخلت فيها الجزائر في عشرية من الإرهاب أتت على حياة آلاف من الأبرياء. الفيلم يحكي قصة شابة جزائرية من ولاية داخلية (البليدة) تدعى “نجمة” تدرس بمدينة الجزائر وتحلم بأن تصبح مصممة أزياء.
“نجمة” رفقة صديقاتها “وسيلة” و”سميرة” و”كهينة” و”ليندا” وأخريات تحاولن كسر جدار الخوف من حولهن، ومحاربة التطرف الديني بالجمال والأناقة، والحلم بحياة أفضل من خلال إصرارهن على تنظيم عرض أزياء رغم المحن التي يمررن بها والتهديدات المستمرة بالقتل.
غير أن ما يلاحظ على هذا العمل -وهو من إنتاج مشترك جزائري فرنسي بلجيكي قطري- أنه جاء مليئاً بالصور النمطية المسيئة للمجتمع الجزائري. إذ يمكن ملاحظة بسهولة ذاك الحشو الهائل من الكليشيهات السلبية المرتبطة به، وبثقافته المحلية مثل: التكرار المتعمد لصوت الآذان عند كل جريمة قتل، أو لحظة رعب وربط لباس الإنسان المتدين سواء كان رجلاً أو امرأة بالإرهاب، بالإضافة إلى وصم العربية الفصحى والعامية الجزائرية بالتعصب والتخلف.
طبعاً، كل هذه الصور النمطية جاءت كتضاد لصورة بطلات العمل؛ الفتيات المتفرنسات “المتحضرات”، فهن متمردات ومستقلات، يقصدن المراقص الليلية، ويلبسن القصير، ويتحدثن الفرنسية بطلاقةٍ وفخر، بل ولا يستعملن العامية إلا نادراً، كما أنهن متحررات يدخن ويرقصن ويبرزن مفاتنهن ويدخلن في علاقات جنسية عابرة. أيضاً، لم تغفل المخرجة عن تسليط الضوء في عملها على “العنف اللفظي” لبعض الجزائريين، وكذا “تحيزهم الجندري”؛ إذ تظهر بوضوح في تصرفات حارس الإقامة الكهل الذي يتحرش مرارا وتكرارا بـ “نجمة”، ويحاول الاعتداء عليها في الأخير. هذا، من دون إغفالٍ للسلوكيات المهينة نحوهن من قبل واضع الملصقات، وبائع الأقمشة وآخرين.
لقد جاء نص الفيلم مبتذلاً إلى حد ما. إذ يمكن ملاحظة أن عبارة “إن الله غفور رحيم، وهو أيضاً شديد العقاب” قد ذكرت سابقاً في فيلم “رشيدة” ليمينة بشير شويخ الذي يتحدث بدوره عن الإرهاب، وبنفس الطريقة تماماً. بالإضافة إلى ذلك، التكرار الممل لعبارة “أفونسي لاريير!” (تقدم إلى الوراء!) التي يستعملها كثير من قابضي الحافلات في الجزائر، وصارت موضوعا للتندر بين الجزائريين.
صحيح أن للفيلم الحق في نقد مجتمعه، وأن الكثير من هذه السلوكيات السلبية لصيقة بهذا الأخير، إلا أنها موجودة أيضاً في الكثير من المجتمعات الأخرى، وليست محصورة عليه وإن بدرجات متفاوتة، ثم إن استغلال هذا الواقع في كل مرة (مهما كان مأساوياً) لكسب ود الآخر الفرنسي رغبة في جوائزه وتكريماته ومهرجاناته؛ لا يمت للكرامة بشيء، خصوصاً، وأن فرنسا هي مستعمر الأمس، وجرائمها في حق الجزائريين إبادات رهيبة قلما عرف مثلها التاريخ الإنساني.
إخفاق متوقع في الأوسكار
رغم التوجه الأيديولوجي لطاقم العمل، وكل تلك الصور النمطية التي عكسها عبر ساعة و46 دقيقة من الأحداث، إلا أن “بابيشة” لم يحقق النجاح المرجو. فنياً، لا جوائز ولا احتفاء، باستثناء تتويجه بجوائز في بضع مهرجانات لا أهمية لها على المستوى الدولي، أو حصوله على جائزتين من جوائز سيزار الفرنسية، والذي جاء أساساً في سياق سياسي ودعائي بحت، عكسته عداوة باريس للنظام الجزائري الجديد الذي “خرج عن الطاعة”، خصوصاً أن الفيلم كان قد شارك قبلها بمهرجان “كان” السينمائي الدولي وخرج بخفي حنين.
أما ترشيح هذا العمل لجوائز الأوسكار (فئة أفضل فيلم أجنبي) حمل بدوره صبغة سياسية؛ إذ أن قواعد الدخول إلى هذه المنافسة تشترط في الفيلم المرشح أن يكون عرضه الشرفي الأول في بلده الأصلي، وأن تنظم له عروض تجارية لمدة أسبوع على الأقل، وهو ما لم يحصل مع “بابيشة”. كما أن احتمالات فوزه بذاك الأوسكار كانت معدومة تماماً، خصوصاً وأن تنافسه كان مع أفلام أكثر وزناً بكثير من ناحية القيمة الفنية والرؤية الإخراجية وأداء الممثلين، وفي مقدمتها الكوري الجنوبي “طفيلي”، الذي توج بعدها بتلك الجائزة؛ والبرازيلي “حياة خفية” الذي كان قد تنافس أيضاً مع “بابيشة” على جائزة مسابقة “نظرة ما” بمهرجان كان السينمائي وتوج بها أيضاً.
الانبطاح وجلد الذات
لقد صار الانبطاح، وجلد الذات، و”تقديس الآخر” (الفرنسي)، توجهاً بارزاً في العديد من الأفلام الجزائرية منذ التسعينيات من القرن الماضي، حيث تعود أساساً لمخرجين ومنتجين جزائريين واقعين تحت هيمنة الثقافة الفرنسية النيوكولونيالية، كغيرهم العديد من سينمائيي تونس والمغرب وباقي بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، الذين كانت بلدانهم ضحية للاستعمار الفرنسي؛ وصاروا هم بعدها ضحايا امبرياليته الثقافية التي غرتهم ببعض الجوائز والتكريمات، والاهتمام الإعلامي الزائف. يمكن ملاحظة هذا الأمر في أفلام العديد من المخرجين والمنتجين الفرنكوفيليين كنذير مخناش، ومرزاق علواش، وريحانة وبلقاسم حجاج (منتج فيلم “بابيشة” في الجزائر) الذين مازالوا يعتبرون في عقولهم أن العالم هو باريس؛ وكأن “سينما البور” (Le cinéma beur) المنحطة التي حقرت الجزائريين لعشريات في فرنسا، وانطفأ بريقها اليوم، قد اتخذت من الجزائر مستقراً لها. كما لا يصعب ملاحظة هذا الخضوع المذل من خلال أعمال مثل: “تيمقاد” الذي صور الجزائريين كشعب عديم الحضارة، و”في هذا العمر أختبئ لأدخن” الذي ربطهم بالإرهاب والهوس الجنسي.
هذا التوجه الإنبطاحي لم يقدم حقيقة شيئاً للسينما الجزائرية، بل بالعكس ساهم في تقهقرها أكثر وأكثر مقارنة بما كانت عليه في السبعينيات، العصر الذهبي للسينما الجزائرية، وهي الفترة التي قدمت روائع عالمية تمثل تاريخ وروح المجتمع الجزائري بعيداً عن أي دعاية أو هيمنة فرنسية، ومقارنة أيضاً بسينماءات دولية “حرة” صار لها اليوم وزن كبير في العالم كالإيرانية والتركية والكورية الجنوبية. غير أنه ليست كل الأعمال الجزائرية بهذه الصفة. هناك أفلام ينأى أصحابها بأنفسهم عن الغوص في هذه المقاربات برؤاهم الإخراجية، وتوجهاتهم الفنية التي استلهموها من قضايا إنسانية مختلفة على غرار “رشيدة” الذي يبقى إلى اليوم أحسن فيلم عن “العشرية السوداء” و”143 شارع الصحراء” لحسان فرحاني، المخرج الشاب الذي يعد بالكثير.
يقول الفيلسوف اليهودي التونسي ألبير ميمي أن المستعمر الفرنسي كان يهدف أساساً إلى أن يفرض على من استعمرهم قبول صورة الإنسان الأدنى، ومعايشتها بدرجة ما؛ وقد نجح إلى حد ما في ذلك وخصوصاً في الجزائر، إذ يمكن ملاحظة هذا الانبطاح واحتقار الذات ليس في السينما فقط وإنما أيضا في الأدب. أصحاب هذه الأفلام يستحقون بحق الانضمام إلى مجموعة “زناة التاريخ” كما سماهم الروائي المبدع رشيد بوجدرة.