فيلم I’m thinking of ending things رحلة بداخل عقل بشري

ورشة فن - سينما

0 291

رقية النمر – السعودية

أفكار غير واضحة، خيالات حالمة، هواجس غامضة، ندوب ماضية وجروح ما تزال متقرحة تُعرض في ثيمة ضبابية موحشة ومثقلة بالكآبة والقلق واللامنطق. يصنف فيلم I’m thinking of ending things كرعب نفسي، أغلب المشاهدين اعتبروه مربكاً وغير مريح وصعب الفهم. الفيلم مقتبس عن رواية بنفس الاسم صدرت عام 2016 مع إضافة اللمسات السحرية لمؤلفه ومخرجه تشارلي كوفمان، من شاهد فيلمه Eternal Sunshine سيلاحظ أنهما يتشاركان الثيمة ذاتها. الفيلم المقلق بعبقريته ورهافته، الغني بالحوارات الفلسفية العميقة، يجري في داخل عقل رجل عجوز يعيش وحده يعمل في تنظيف مدرسة ثانوية.

رغم أن الأحداث تدور في رأس العجوز إلا أن المونولج يمثل الصوت الداخلي للحبيبة/الأحلام الهاربة التي تحمل أكثر من إسم. فتاة ذكية ومثقفة وموهوبة لكنها قلقة ومتصنعة وتفكر دائماً باللاجدوى، تحاول إنهاء كل شيء ولا تحسم شيئا. تتعرف على جاك/الماضي، شاب بسيط، خجول، حساس وصامت اغلب الوقت باستثناء بعض ردات الفعل المفاجئة.

يبدأ الفيلم ولوسي تنتظر جاك ليأخذها للتعرف على والديه في منطقتهم الريفية، ينطلقان بالسيارة في جو مثلج. ويمكن محاولة فهم الأحداث اللاحقة من خلال محاورتهما طوال الطريق. تبدو لوسي احيانا كذات مؤنثة منفصمة عن جاك وفي الوقت ذاته هي أحلامه البعيدة. تُحدث نفسها في السيارة عن مزاياه ينما تفكر بهجرانه ” انه متعلم وفضولي ومطلع ومهتم بي، وسيم على نحو طفولي ينظر لنا الناس حين نكون معا فقط، يعتقد جاك أنه غير مرئي حين يكون وحده” لوسي هي الحلم الذي لطالما تمناه العجوز الذي يعاني الانطواء والقلق الاجتماعي. هي الحبيبة المثالية، الجميلة، الموهوبة والملفتة لحد يجعلها تضفي عليه من بريقها فيصبح مرئيا للناس معها. لكن وبسبب اضطراب ثقته وتصاغر ذاته أمام لوسي/حلمه فإنه يفترض حتمية رحيلها عنه/عدم تحققه.

 تظهر لوسي متخصصة في عدة مجالات دقيقة هي المجالات التي اهتم بها العجوز ولم يتمكن من دراساتها، ولها مواهب فنية متعددة، هي ذات الفنون التي حفرت عميقا في نفس العجوز، وتمتلك روح شعرية رقيقة متوافقة مع روح العجوز المحطمة. في الطريق وتماشياً مع المنظر البارد الحزين للجو تبدأ لوسي بإلقاء قصيدة بعنوان “ضياع” تجسد فظاعة الرجوع للمنزل القديم، للماضي وندوبه وجراحه وهواجسه التي تختلط بنحو شاعري بالواقع عبر هذه الرحلة. “أنها رائعة وكأنك كتبتها عني” يقول جاك تعبيرا عن انسجامه مع القصيدة المنبعثة من عالم الواقع.

يصلان أخيراً لمنزل والديه، تلوح لهما الأم ما أن ينزلا من السيارة لكن جاك يصر على زيارة حظيرة الحيوانات أولاً وهناك يبدأ بتعريف لوسي على الحيوانات التي تواجدت فيها ويخبرها بحزن أن خنازير تواجدت سابقاً في الحظيرة لكنهم اضطروا لقتلها حرقاً بعد أن لاحظوا عجزها عن الحركة ولما اقتربوا منها اكتشفوا ان الديدان تأكل أجزاءها السفلى. هذه الصورة المأساوية تمثل ندبة في طفولة جاك المضطربة، وَجب المرور بها قبل الدخول للمنزل. وفي واقع مواز تلك الخنازير التي اُكلت وهي على قيد الحياة تمثل العجوز الذي يتآكل يوميا دون أن يلحظ أحد ديدان الفقر والشيخوخة والوحدة والقلق التي تلتهمه إلى ان يسقط ويتم حرقه. في مشهد لاحق يظهر الخنزير ببياض وشفافية ملاك تتساقط الدماء من أسفل جسده، ينادي العجوز فيتبعه كالممسوس.

يدخلان للمنزل وفي انتظار استقبال الوالدين تنظر لوسي لباب في الممر عليه آثار خدوش تسأل جاك عنه ويجيبها أنه باب القبو الموصد معظم الأحيان، يتحدث عن محتوياته بتلعثم واضطراب وهو مستمر بالتراجع للخلف ثم يعترف “أكره القبو إن كنت مصرة، في طفولتنا تخيفنا الأقبية”.

ينزل والدا جاك الغريبان لاستقبال لوسي وفي وقت الزيارة يتراجع الزمن بهما ليظهرا شابين ثم يمر عليهما كاشفا عن عجزهما الشديد. لاحقا يتحدث مونولوج بصوت لوسي “يحلو للناس الاعتقاد بأنهم نقاط تمضي عبر الزمن، لكني أعتقد أن العكس هو الصحيح، نحن ثابتون والوقت يمضي عبرنا، يهب كرياح باردة تسرق حرارتنا يتركنا مشققين ومجمدين أشعر أني كنت الرياح هذه الليلة، التي مرت على والدي جاك”. فجأة يختفي الجميع من المنزل وتجد لوسي نفسها وحيدة فتبدأ بمناداة جاك، يجدها والده وقد أصبح أكبر سناً. ثم والدته وقد أصبحت أقل عمراً، تتعمد معاملتها بقسوة وتجبرها على دخول القبو لغسل ثوب متسخ بطعام الأطفال الخاص بجاك معربة عن انزعاجها من العناية الدائمة بهذا الطفل وتحملها مسؤولية انطواءه وتوتره، وإحساسها الدائم بالذنب تجاه حالته، تقول الأم بتكشيرة من نفذ صبره ” قلت خذي الثوب اللعين إلى القبو واجهي مخاطرك” هنا تظهر لوسي بصورة جاك في طفولته حيث الأم القاسية ولوسي/العجوز مجبرة على مواجهة الحلم/الواقع أسفل القبو. تنزل لوسي بالثوب المتسخ وتجد غسالة الملابس تعمل فتفتحها وتخرج قميص أخضر بشعار (RHS) إشارة لشركة النظافة التي يعمل فيها العجوز، تخرج قميصا ثانيا وثالثا ورابعا، كلها بنفس اللون والشعار، تغرق في تلك الغسالة/العمل، أقمصة/أيام متشابهة وغير معدودة. ترمي القميص الأخضر بفزع وتبتعد عن غسالة الملابس، يدور في بالها اقتباس “من المأساوي أن قلة من الناس يمتلكون أرواحهم قبل ان يموتوا، لا شيء اكثر ندرة في أي انسان من أن يفعل شيئاً بنفسه. معظم الناس هم اشخاص آخرون أفكارهم آراء شخص آخر حياتهم محاكاة وشغفهم اقتباس”

 تخشى لوسي منذ قدومها أن تعلق السيارة في الثلج وهي ملتزمة صباح اليوم التالي، تستمر بتذكير جاك بوجوب عودتها ويطمئنها بأنه يمتلك سلاسل في حال علقت السيارة، أخيراً يقتنع بالخروج والسيارة عالقة فعلاً فيربطها بالسلاسل الحديدية، يعاني حتى يخرجها من الثلج. السيارة العالقة في الثلج أمام باب المنزل هي العجوز العالق في ماضيه طفولته المضطربة، أمه المختلة، خنازيره المحترقة، حساسيته ووحدته المتمثلة في أرجوحة وحيدة في منزل بارد وموحش. أظن ان هذه الفكرة مقتبسة من واحدة من كوابيس كافكا في رواية “الطبيب الريفي” الذي ذهب لمعالجة جرح طفولته في جو عاصف ومثلج وعلق في الثلج عند محاولته الرجوع لواقعه.

في طريق العودة يتوقفان عند متجر مثلجات وبعد أكله في السيارة يصر جايك على التوقف لرميه في أي حاوية قمامة ولأن العاصفة تعيق رؤيتهما يتوقف عند مدرسته الثانوية وينزل رغم معارضة لوسي، يتأخر في القدوم فتنزل هي للبحث عنه داخل المدرسة وهناك تقابل لوسي/الحلم العجوز/الواقع لأول مرة وجهاً لوجه. يسألها العجوز عمن تبحث فتجيبه “عن حبيبي” وحين يسألها عن شكله تقف متحيرة “لا أتذكر شكله، لم أتذكره؟ أظن أنه كان أحد العلاقات غير التفاعلية في حياتي، كيف أتذكر بعوضة لدغتني منذ 40 عام ” تتنكر لوسي له، تنكر الحلم لصاحبه.

 لكن سرعان ما تعيد لوسي البحث عن جاك في المدرسة. يظهر أخيراً كشاب وسيم -يتم استبدال الممثل- يأخذ لوسي في رقصة رومانسية تحاكي الرقصات المسرحية الغنائية وتتوج بطقس زواج. وفجأة يتدخل العجوز/الواقع بملابس عامل النظافة ويخطف لوسي/الحلم ويتصارعان إلى أن يتدخل الشاب الوسيم لقتال العجوز/الواقع ويتمكن العجوز من قتله وكنسه من أرض المسرحية.

“أحياناً تكون الفكرة أقرب إلى الحقيقة” عاش العجوز وحيدا بداخل لوحة سريالية، تقمص الحياة كقصيدة مجازية وودعها كرقصة مسرحية أخيرة.

يصور الفيلم عزلة الإنسان في عصر التلفاز والميديا، ومحاولاته الفاشلة للحصول على حياة حافلة ومثيرة كالتي يتابعها في الأفلام، جاك هو الإنسان البسيط الذي يشاهد العالم من خلال هذه الزجاجة، ويحشو دماغه بالأكاذيب لتمضية الوقت، الى ان يمضي العمر وأحلامه ما تزال حبيسة عقله.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.