يختزل فيه عقلك الجمال في الموجودات الصغيرة والتفاصيل الكثيفة والسريعة، عالق بين محاولة السينما في القبض على الزمن و التجسيد الكربوني للواقع وبين عوالم الرحم الرئيسي للتجسيد وآلته الأقدم، ففي الشارع مسرحة الأشياء وقوانينها تختلف وكأن رجلك لم تطأ خشبة من قبل وعينك لم ترى الفرجة بمفهومها الأول، “بريخت” لم يكسر الجدار الرابع ولم يكشف كواليس الممثلين للنظر علناً في العلبة الإيطالية، كل تلك القوانين المسرحية المسنونة استرجعها العقل اللاواعي للمخرج الألماني على شكل فكرة من وحي الشارع ومن النظر والتأمل المباح فيه.
يمكنني القول أن تجربة العمل الفني في الشارع تكاد أن تفقد خصوصيتها الفنية فطبيعة المكان ووِزْنَة إيقاعه الذهبية المتفردة، ترفض التحكم في الأحداث و نمط الأفكار، بل حتى المشاعر تقترب لتندمج سواء وتتحد كلياً مع الحياة، لكن ليست الحياة التي نظن أننا ألِفنا علاماتها حد الملل، تعيد تعريفها فهي حياة بديهية المنطق غير بديهية التوقع لتحرض فيك التلقائية في التعايش والارتجال وتسحبك مجريات ما ترى أمامك، فتنساب من بين أصابعك بكل رضا رؤيتك الإخراجية، دون إرادة وبكل براعة تتركها ببطء متناقض مع سرعة المكان، لتكسر قرارتك قيد الفكرة الأم للعمل الفني.
هذه العوالم الجديدة تحرر وعيك من منظوره الأحادي ودون جلب انتباه تصبح ومن معك من طاقم وممثلين من جمهور التجربة، في دائرة رصيف صغيرة ومكان واحد لا أحد يكترث ويلحظ مصدر الضوء فوجوه الناس وأمنياتهم حقاً منيرةُ لنصبح جميعنا جمهور واحد يصنع و يشاهد مسرحيته، وإن عاندت فلا لذة لمعاند.
هنا في مسرح الشارع سيتخلى عنك أبو الفنون ليحتفل مع الجموع ويشهد أيضاً على تجربته بنفسه، ستبحث عن الفكرة رغم أنك الفكرة، وتضحك على النكتة والمفارقة رغم أنك صانعها، سيتسلل لك شك لعين إن صدقته، صادق إن لعنته تتساءل فيه بخجل بأنك وجهت مسرحيتك للكبار فلما تبدو طفولية؟! وبالرغم من ذلك تبدو أعمق من الروح، هزلية دون تكلف تُعاضِدُ المنطق!؟
يصفعك مسرح الشارع ببساطة لم تعهدها فتخبرك أعين الجمهور المشدوهة بالدموع بأن جميع البشر أصلاً أطفال ما هرموا في حضرة الصدق، أطفال إلى أن يكتشفوا ذلك، أطفال وكل طرق قلوبهم تؤدي إلى البراءة، لم تسقط أوجاعك وأوجاعهم بالتقادم وها أنت تغني معهم من على مسرح يمكن له أن يكون في كل مكان لكنه اختار قلبك المطل على البحر، وصوت الفنان الشجي أحمد الحمدان وهو يجلس على صندوق آلة الكاخون يترنم “يا ما أحلى الفسحة يا عيني على رأس البر والقمر نور عيني عيني عيني على مو علي موج البحر.” بينما تلتقي أنظار أغلبهم لأول مرة بأنظار المتألق المخضرم حسن العلي ليجمع أُمنِياتهم يصغي إليها برُوحِه دون بوحٍ منهم ويلقي بها في قعر قبعته.
هكذا كان وصفك للحدث تماما في أول صفحة في النص هكذا تركت أناملك المترددة جملة الوصف هذه بعد توقفها لبرهة أثناء كتابتها وقد كادت أن تمسحها بحثاً عن فكرة جادة تُقدم فيها شخصياتك أمام جماهير الشارع، بيد أن الأنامل ترتبك لكن لا تسهو، وأي جدية يا مغفل حين تقف الجوارح أمام أمنيات بعضها البعض، عندها فقط يستطيع كل منا أن يؤمن بالآخر دون معرفة سابقة، نستطيع كلنا حتى أن نحشِر آلاف الأماني في بالونة هيليوم ليُودِعها صديقي حسن نجمة في السماء.
“أبكيتمونا من الفرح” تقول إحداهن. وأنا أقول: في مثل هذه التجربة من مسرح الشارع ستعيدك القصة لكتابتها كل مرة وفي كل مرةٍ تكتبها ستكتبك من جديد وأنت تبكي من كل قلبك حقاً لكن بفرح. و كأنك للتو اكتشفت يُتم المسرح، كأنهم كَذِبوا فلا مأساة ولا قسوة في أب.
هنا اكتشفت أننا لسنا نخبة وأن المسرح “المفتوح” في مهرجاناتنا كان مغلقاً، وجائزة الأداء الجماعي يستحقها الجمهور، هنا تُلهمني وتأسرني اللحظة وهناك تكسرني الأنا وهم ونحن والآخرون وألف خِطة، هنا أدفع عجلة الإبداع أكثر لمناطق احتمالاتها مفتوحة غير متناهية تستحق الانتباه أكثر، من هُنا في هذه التجربة وجدت الجواب على إحدى أهم تساؤلاتي “لما يا ترى التجربة الفنية التي لا أندفع لها بعنف في التفكير والتخطيط تحظى بتفاعل مجنون وتحقق نجاحاً غير مسبوق في تاريخ تجاربي؟!!”، لا يوجد قوة ولا اندفاع يمكن أن يجابه عفوية وصدق المشاعر.
فصناعة الفن الغير مُعلب والمختوم بوجهة محددة والمرهون بتاريخ صلاحيته، مهمة شاقة ومرهقة تستهلك الكثير من صدق المشاعر، القليل من الفهم ذاك لأن الشعور أهم من الفهم وأبقى، فنحن نشعر بالألم لكن لا نفهمه نشعر بالصدق دون إشارات أو تحليل، كل شيء يمضي ويتلاشى قابل للجهلِ حين يُفهَم. وحدها المشاعر لا تفاوض على أحقيتها تختبئ تراوغ تتمحور لكنها لا تحتمل غير الصواب، وغاية الفنان جُلها التعبير بصواب عن ما عجزت عنه كل الكلمات واللغات وبات من الصعب شرحه، كان لا بد لي من العودة حتماً والتوقف قليلاً للتأمل في مثل هذه التجارب نادرة الحدوث متفردة الأحداث، قبل المضي قدما لتجارب فنية أخرى أين ما كانت وبأي وسيلة سأختار سينما أم مسرح، أثق أني لن أعجز ما دام وعيي مر من هنا والتقطت ذاكرتي صوراً للناس في الشارع مصدر الإلهام العذب وبئره الخام للقصص.