يعتبر مسرح ماسيمو بمدينة باليرمو الإيطالية أكبر مسرح في إيطاليا، وأحد أكبر المسارح الغنائية في أوروبا، والثالث في الحجم بعد مسرح أوبرا باريس الوطني ومسرح (staatsoper) بفينا، وهو الأشهر في العالم في تقنية الصوت بقاعاته الفسيحة الفنية.
مدينة بالرمو بايطاليا هي عاصمة صقلية، والمدينة الخامسة في إيطاليا، وهي تقع وسط البحر المتوسط، وتعد مهداً لحضارات قديمة جداً؛ حيث كانت منذ القدم تعتبر ملتقى الثقافات بين الشرق والغرب، وتعتبر مكان عبور استراتيجي، ومحطة متميزة لتبادل البضائع والتجارة. تعتبر بالرمو نقطة تصادم بحرية للشعوب والأعراق واللغات والأديان المختلفة، فهي من المدن القليلة التي حافظت على الشهادات الثقافية لغزاتها: من الرومان إلى البيزنطيين، إلى الفتوحات العربية وغزاة النورمند، ومن السواف إلى الفرنسيين، ومن الأسبان إلى النمساويين، حيث ترك هؤلاء جميعهم آثاراً لا مثيل لها، وشهادات ذات قيمة رفيعة. التقى الشكل بالطراز من شمال أوروبا إلى أفريقيا، ومن القرون الوسطى إلى العصر الباروكي، على نحو أدى إلى خلق ابتكارات فنية وهندسية وترويضية غير مألوفة.
لقد حافظت باليرمو على خصوصيتها وهويتها، رغم اختلاط الثقافات الموجودة فيها؛ هوية المدينة العاصمة التي عرفت عبر العصور كيف تمزج بين إيجابيات الآخرين وتصورها للحرية.
هذه نبذة بسيطة عن مدينة باليرمو، المدينة التي يوجد بها مسرح ماسيمو فيكتور إيمانويل الثاني، موضوعنا الذي نتحدث عنه.
يوجد هذ ا المسرح بساحة جوزيبي فردي (Giuseppe Verdi)، على مساحة ما يقرب من سبعة آلاف وسبعمائة متر مربع. في الفترة التي شُرع فيها في تصميمه، علقت بعض الصحف الإيطالية في السادس من يونيو 1897 تقول: هل باليرمو تحتاج إلى مسرح بهذا الاتساع والكبر؟
وضع حجر الأساس للمسرح في الثاني عشر من يونيو سنة 1875، واستكمل سنة 1897، وقد استغرق اثنتين وعشرين سنة؛ ليضع حداً لاضطرابات بدأت منذ عشرات السنين، حيث كانت هناك مشادات كلامية وعنيفة، تتعلق بموقع المسرح الجديد، حيث لزم لتشييده هدم الحي الداخلي لسان جوليانو (San Giuliano)، وهدمت بورتا ماكيدا (Porta Maqueida)، وكنيسة ديللي ستيماتي (delle stimati) مع الدير الملحق بها، وأثناء الأشغال والعمل وقع نزاع على سلسلة المصاريف غير المتوقعة. وفي سنة 1881 تم إيقاف الأشغال. بعد مرور ثماني سنوات، قرر المجلس البلدي وضع حد لتلك المشادات الكلامية، واستعد لمواصلة العمل؛ وكان لهذا القرار أهميته السياسية والاقتصادية.
صمم هذا المسرح جوفاني باتيستا بازيلي (Giovanni Battista Basile)، الذي توفي قبل أن يكتمل المشروع، فكُلّف ابنه أرنستو سنة 1891 لمواصلة العمل به، الذي احترم مشروع أبيه، ووضع الهياكل وأثراها بالأبهة التزويقية، وقد التف حوله أكبر فناني ذلك العهد، وتم التنسيق بين أعمال الرسامين المزوقين والحرفيين. كما طور الهندسة المعمارية والفنية التي لم يكملها الأب، متابعًا مع ذلك أسلوبًا وشكلًا معقدًا. من الأسماء المهمة التي شاركت في المشروع: روكو لنتيني (Rocco Lentini) وإتوري دي ماريا برجلر (Ettore di Maria Bergler) وميكيلي كورتيجاني (Michele Cortegiani)، ولويجي دي جوفاني (Luigi di Giovanni). ولو نظرنا نظرة عامة في الصورة الأوروبية فان مسرح ماسيمو ببالرمو يشكل ذروة التطور الهندسي للمسرح على النمط الإيطالي في الأوبرا. وفي نهاية المطاف أسند إلى مقر العرض الغنائي صيغة نخبوية، شبه مقدسة، تعتمد طريقتين للبحث تتعلقان بالمشروع: إحداهما فرنسية لشارل فرني، الذي أدى إلى إرساء الهندسة المعمارية لأوبرا باريس، والأخرى ألمانية عن طريق كارل فردريش شنيكل وجوتفريد سمبار، قادتا إلى إرساء الهندسة المعمارية لمسرح بيروت لريشارد فاغنر.
وقد كان لحث بازيلي العديد من نقاط تواصل بالحركتين، ولكنه اتجه خاصة نحو إتقان الصنف الكنسي الإيطالي، مطورًا بذلك مبادئ العقلية الوظيفية (استعمال المواد التقليدية والأنظمة الجديدة للبناء) المرتبطة بمسرح لاسكالا بميلانو (la scala Milano) لجوزيبي ماريني (Giuseppe Marini) ولاجئًا خاصة إلى العناصر الكلاسيكية.
لقد استخلص بازيلي قانون التناغم والتوازن في تقاريرٍ وأبعادٍ، ترتكز على هندسة تعتمد على العدد الذهبي، وضم الدراسة الهندسية الكلاسيكية وأشكالًا من الهندسة الصقلية، وتجارب علمية تقنية، فواجهة المسرح الخارجية تبين الدور الأساسي لإيطاليا وصقلية في تاريخ الهندسة المعمارية الغربية. استلهم منه جوفاني باتيستا المعالم التي أنجزها تيفولي وخاصة التي انجزها سولانتو، أما أعمدة المسرح الخارجية العملاقة فقد اقتبس سولنتو التيجان الكورنثية “لسولانتو” من حجر طباشيري؛ واستوحي في نهاية المدرج بهو رائع يعكس الطابع الرمزي والقدسي للمسرح من جهة، والمتساكنين وحضارتهم من جهة ثانية. يحرس هذا المسرح أسدان صنعا من مادة البرونز، وجهاهما وجهان أنثويان، يرمز الأول في الجهة اليمنى للتراجيديا، وهو من إبداع الفنان بنديتو سيفليتي (Benedetto Siveletti)، ويرمز الثاني في الجهة اليسرى لغناء المبدع ماريو روتالي. ولم يكتف ارنستو بازيلي بهذا، بل أغنى العمل أيضاً بتهيئة الساحة المقابلة؛ إذ أعد لها مصابيح من الحديد المسبوك لإنارتها، كما وضع حذاء المدرج تمثال جوزيبي فردي الذي نحته انطونيو اوقو.
يتمتع مسرح ماسيمو مانويل الثاني ببالرمو، أيضًا، بمجموعة من المداخل الأخرى، تتيح دخول الرواد من أصحاب العربات والأسياد والمبدعين وفناني الجوقة، إضافة إلى مدخل يؤدي إلى الركح. بعد البهو، يجد الداخل أمامه مجمعاً شاسعاً، يتبعه ممر مربع الشكل، يفتح على قاعة العرض وعلى المدارج المؤدية إلى البرج وإلى مختلف المقصورات. يحتوي مسرح باليرمو في مدخله طنفاً فخمة، ومصابيح كبيرة، وأعمدة عملاقة أنيقة، وتمثالي جوفاني باتيستا وفليبو بازيلي المهندس المنفذ، من نحت للفنان انطونيو اوقو، ثم يفتح المجمع على الأروقة والحجرات المؤدية إلى المقصورة الملكية.
قاعة مسرح ماسيمو ببالرمو صممت في شكل هلال (19،75×26،50 متراً)، يذكر بالشكل الهندسي لقاعة الأوبرا بباريس وأوبرا فينا ومسرح كارلو فيلبس يجنوا، بصفوفها الخمسة للمقصورات والأروقة. في البداية، كانت القاعة تتسع لاحتضان ثلاثة آلاف مقعد. وبعد التعديل، صارت تسع خمسمائة مقعد أرضي، وألف ومائتي مقعد في صفوف المقصورات الخمسة، وخمسمائة مقعد في الرواق، وألف وثلاثمائة مقعد إضافي، وحالياً سوف تسمح بحسب الترتيبات الجارية بحضور ألف وثلاثمائة وخمسين متفرجاً، وقد تمت تغطية القاعة بواسطة قبة حديدية يبلغ قطرها أكثر من 28 متراً، وقد وظفت لأجل ذلك تقنية راقية لافتة للانتباه.
يبلغ عرض الركح (الخشبة) 28،50 متراً، وعمقه 38،80 متراً، وهو بذلك يفوق كل المسارح، عدا أوبرا باريس، أما الستارة التي تغطي الركح فيبلغ طولها أربعة عشر متراً، لذلك يعد المسرح من أكبر المسارح في أوروبا.
لقد وظف بازيلي كل طاقاته لتكون الرؤية والمشاهدة أكثر وضوحاً من كل الأركان، كما أنه ابتكر تقنيات صوتية جديدة، لتحسين جودة الصوت التي تعد إلى اليوم من أحسن التقنيات.
لقد اعتمد في تزويق القاعة على تبني تقنيات لونية، تقوم على تمازج لوني بين الأحمر والمذهب، وتوظيف أشكال خشبية طليت بماء الذهب الخالص، ولوحات رائعة للفنان سالاتور فالنتي، رسمها عبر كامل صفوف المقصورات، وهي تعرض باقات زهور وطباقًا من الغلال وأقنعة مسرحية، إضافة إلى رسوم رائعة على السقف لروكو لانتيني، ترمز لانتصار الموسيقى.
أما الستارة فهي 12 × 14 متراً، تولى جوزيبي سيوتي (Giuseppe sipotti) تزويقها، فهي تعرض مراسم اعتلاء روجي الثاني في باليرمو سنة 1130. المقصورة الملكية والبيت محاطان بأعمال مذهبة، ومكسوان كلياً بخشب الاكاجو، والسقف فهو من صنع برجلر(ettore de Maria Bergler) ، بينما الكوات من رسم فرانشسكو بادوفانو (Francesco Padovano) .
بالنسبة للمقصورات التي تسبق المداخل الصغيرة، فهي أكثر اتساعاً من مثيلاتها في المسارح الأوروبية، حيث يبلغ عرضها 1.96 متراً، أما داخل المسرح فتبرز بالطابق الأول القاعة البوبينية (أو قاعة المسارح العمومية) زوّقها على الطراز البوبيني إتوري دي ماريا برجل، وبها حزام من الضفائر البارزة والمطلية بمسحوق المرمر الفاتح، على قاع أحمر اللون. وبين القاعة البوبينية والمقصورة الملكية توجد قاعة “ديللي ستيمي” التي تتميز كذلك بأبهة تزويقية على الطراز البوبيني، بينما توجد قاعة القهوة في الطابق الأرضي، وبها مدخل مستقل من الساحة يطل على حديقة صغيرة، وتميزت هذه القاعة بتزويق ثري من منقوشات وردية والغلال وبأقنعة مسرحية، أما أعلى الباب فهو مزين بأشكال رمزية من صنع انريكو كفالارو.
لقد كان بناء مسرح ماسيمو ايمانويلي ببالرمو مجازفة تعود إلى سيباستيان دي ستافان، وهو باليرمي غني جدًا، ومتزوج من إحدى العائلات الغنية التي تعود أصولها إلى النبلاء.
هذا المسرح يقدم حاليًا أكبر الأحداث الثقافية، من باليهات لفنانين مشاهير، وكنشيرتو وأوبرات غنائية أيضًا، كما تقام به معارض فنية وملتقيات لأكبر فناني الموسيقى المعاصرين. وفي عام 1990، كان مسرح ماسيمو بباليرمو أحد المواقع التي صورت فيها بعض مشاهد فيلم العرّاب الجزء الثالث، من بطولة ال باتشينو (Al Pacino) واندي جارسيا (Andy Garcia) وصوفيا كوبولا (Sofia Coppola).
في واجهة هذا المسرح كتب: “إن الفنون هي التي تجدد روح الشعوب وتظهرها”.
*هذه المادة ترجمة لمقالتين باللغة الايطالية هما:
-” Storia del teatro Massimo di Palermo”، تاريخ مسرح ماسيمو بباليرمو، بقلم باولا باندياني.
– ” Il Teatro Massimo”، مسرح ماسيمو، بقلم جاني بيروني.