الدكتور مبارك الخالدي – السعودية
مما دونه هاريسون ويليام شبرد في مذكراته تحت التاريخ الرابع والعشرين من ديسمبر 1946، ما صرح به للسيدة فايوليت براون عن برنامجه لعشية عيد الميلاد بقوله: “من المحتمل أنني لن أنجز شيئا، شكرا لكومة الكتب التي جلبتيها من المكتبة. سأذكي النار وأقضي عيد الميلاد مع السيد هاردي والسيد ديكنز. ما أفضل من ذلك؟ وترسترام شاندي. القطط تلمح إلى أنه ينبغي أن أطبخ فخذ حمل. لذا قد أفعل ذلك. أنا متأكد أن إدي كانتور ونورا مارتن سوف تغنيان لي بعض ترنيمات عيد الميلاد مساء الثلاثاء”(ص341- ترجمتي).
ماعلاقة هاريسون ويليام شبرد وقراءته للروائيين الإنجليز تشارلز ديكنز وتوماس هاردي ورواية (ترسترام شاندي) للورنس ستيرن في عشية عيد الميلاد بموضوع المبدع وأبيه الإبداعي؟. ثمة علاقة أتمنى الاّ أخفق في إيضاحها في الآتي من الكلام.
هاريسون ويليام شبرد ليس إنسانا حقيقيا؛ إنه الشخصية الرئيسة في رواية (الفجوة، 2009) للروائية الأمريكية باربرا كينغزولفر، التي فازت بجائزة (أورانج، 2010) لأدب المرأة. وعلاقته بالموضوع هو أنه ليس مجرد عاشق من عشاق الرواية يفضل قضاء وقته مع صحبته المحببة من الروائيين. ولكنه روائي متخيل أصدر روايته الأولى (خادمو العظمة) فحققت رواجا كبيرا، وكتبت عنها مراجعات ومقالات في بعض الصحف الأمريكية وقد ضمنتها باربرا كينغزولفر في (الفجوة)، وكان قد فرغ لتوه من مراجعة ألواح طباعة مخطوطة روايته الثانية، التي إستأجر لطباعتها ناسخة الآلة السيدة فايوليت براون. سيقضي هاريسون شبرد عشية عيد الميلاد بصحبة روايات (آباء) حقيقيين في عالمه المتخيل. بكلمات أخرى، في علاقته بديكنز وهاردي وترسترام شاندي، يظهر هاريسون شبرد مثل أي روائي حقيقي كان له أولئك الروائيون آباء وملهمين.
أ ’’أرى أنه ليس منطقيا الإصرار على أن الأبوة أو الأمومة الإبداعية مسألة قطرية في ظل انفتاح العالم عبر غير جسر من جسور الاتصال الثقافي’’
إن قضاء عشية عيد الميلاد مع إبداعات آبائه الثلاثة أو ثلاثة من آبائه يبدو من وجهة نظري ثمثيلا لما يحدث في الواقع، حيث أن المبدع/المبدعة هو “إبن أكثر من أب”، و “إبن أكثر من أم”، فعلاقة التأثير والتأثر لا تأخذ دائما وأبدا شكلا فرديا، أو بالتعبير الأدق، ثنائيا بين أديب سابق ولاحق أو كبير وصغير، كما لا تنحصر داخل الأطر الجندرية، أو تصطبغ بصبغة ذكورية كما في كتاب الناقد الأمريكي هارولد بلوم (قلق التأثير: نظرية للشعر)، الذي يظهر خلاله تاريخ الشعر الإنجليزي سلسلة علاقة أبوية بين شاعر سابق وآخر لاحق، ابتداء من جون ميلتون الذي أنجب شعريا ويليام ووردزوورث، الذي أنجب بدوره بيرسي بيش شيلي وجون كيتس، ومن عباءة الأخير خرج روبرت براوننغ ثم ويليام بتلر ييتس، وفي الولايات المتحدة امتدت السلالة من رالف والدو إمرسون إلى ولاس ستيفنز. القصة التي يرويها بلوم في كتابه هي قصة سلالة الشعراء الإنجليز الفحول التي لم تحظ المرأة بفصل قصير من فصولها، فـ(قلق التأثير) يعرف الأدب كما تقول نينا بيم بـ”أنه صراع بين آباء وأبناء، أو نضال الأبناء للهرب من الآباء” Melodramas of Beset Manhood,78)). وتنتقد بيم، أيضا، إدوارد سعيد الذي أقترف إقصاء المرأة في دراسته للرواية البريطانية في القرن التاسع عشر، التي صدرت موسومة بـ (بدايات)، وفيها يرصد تاريخ رواية القرن التاسع عشر البريطانية كتمثيل على مايسميه البنوّة (filiation).
من جهة أخرى، أرى أنه ليس منطقيا الإصرار على أن الأبوة أو الأمومة الإبداعية مسألة قطرية في ظل انفتاح العالم عبر غير جسر من جسور الاتصال الثقافي الذي يجعل إطلاع من هم في الداخل على إبداعات الآخرين والتأثر بها أمرا بديهيا وعاديا. من هذا المنطلق لا أتفق، على سبيل المثال، مع من يقول إن الروائيين السعوديين الأوائل كانوا جيلا بلا “آباء” أو ن الروائيات السعوديات مبدعات بلا أمهات، لما ينطوي عليه هذا القول من فهم ضيق ” للأبوة أو الأمومة الإبداعية”، فهما إن وجدتا لا تعترفان بالجنسيات والفواصل الحدودية بين الأقطار، فربما يتأثر كاتب ناشئ هنا بكاتب كبير هناك، ولا يتأثر بكاتب كبير يقيم معه في نفس الحي.
لا أعير مسألة الأبوة الإبداعية اهتماما ولا أشغل بالي في السعي لاكتشاف من تربطه علاقة بنوة إبداعية بمن أو العكس، وأرى أن مفهوم “التناص” جاء لينقل الاهتمام إلى النص أو النصوص. فكل نص حسب جوليا كريستفا هو مركب فسيفسائي من نصوص أخرى، وكل نص لاحق يدخل عبر التعاليات النصية في علاقة تناص مع نص سابق أو نصوص سابقة، فكأن النص، وفق هذا التصور، هو ابن لنصوص أخرى إذا صح التعبير، وسيكون بدوره أبا/نصا سابقا لنص أو نصوص لاحقة في المستقبل. إن تركيز الاهتمام على النصوص وعلى العلاقات التناصية بينها هو ما نحتاج إليه-هكذا أرى!!