تمام التلاوي- شاعر سوري- سماورد
كانت السنة الأولى من امتهاني للجراحة خاويةً تماماً من الشعر. لم أستطع كتابة سطر واحد خلالها. كانت سنة شابت بها رقّةَ الشاعر قسوةُ الجراح، وشكلت تحولاً كبيراً في طبيعتي وطبائعي. لم أستطع التأقلم مع مشرطي إلا بعد سنة كاملة من الأخذ والرد بيني وبين البطن المفتوح أبداً على أحشاء الإنسان وعلى مصائر الروح. لكن الشعر ظل طوال تلك الفترة شرياناً نابضاً بقوة تحت أصابعي، ورائحة نفاذة في غرفة العمليات. كانت عدم قدرتي على الكتابة مصدر قلقي الدائم، وسبب انزعاجي من الوضع الجديد الذي لم أرَ فيه سوى الوحشية المفرطة والاستلاب الروحي الحاد.
الكثير من أصدقائي الموهبين في الكتابة بأنواعها وفي الموسيقى والرسم وغيرها، تساقطوا واحداً واحداً من على صهوات الموهبة، ونحن نشق دربنا المضني في دراسة الطب. هذه الدراسة هي الأنثى الأنانية التي لا تترك مجالاً لأخرى تزاحمها على وقتك. ولولا اصراري على أنثى الشعر لما طال أمد دراستي الجامعية إلى سنتين إضافيتين. كذلك الحال في مرحلة العمل، فهذه المهنة الضرورية لكسب العيش، في غياب الوارد المادي من الشعر في أيامنا، هي مهنة شاقة وسارقة ماهرة للوقت وللجهد، لكنني في الواقع لا أستطيع التخلي عن لذة الشعر. وأظن أنه ابراهيم ناجي الذي قال: الطب هو الزوجة التي ترعاني، والشعر هو عشيقتي السرية التي أستمتع معها.
’’لا أدري إن كان الشعر قد أضاف شيئا ما إليّ كجراح، ولا أدري إن كانت الجراحة قد أضافت شيئا ما إليّ كشاعر، لكن ما أنا متأكد منه، هو أن كل واحد منهما قد سلب أشياء من الآخر’’
في العام الأول من حياتي الجراحية كتبت مقالاً على الإنترنت سمّيته: “ما لا يدركه سوى الأطباء والمومسات”. كان مقالاً بالغ القسوة وشديد الخيانة لأسرار الطب. لكنه عبر على ما أظن عن تلك المعاناة التي خضعت لها في مواجهة الدم.
اليوم أصبحت أكثر تأقلماً مع نفسي، وأكثر حيوية على العيش ضمن الحالة الفصامية التي أعيشها بين الشاعر والجراح. صرت قادراً على التحول إلى شاعر بمجرد مغادرتي مسرح العمليات، وعلى التحول إلى جراح بمجرد إمساكي بالمشرط. وأقول “الحالة الفصامية” هنا، لأنني لم أجد في الحقيقة سوى ذلك التناقض الصارخ بين الجهتين، فعلى الجراح أن يكون شديد الإنضباط، قادراً على التحمل، دقيقاً في عمله، لا يسهر ولا يدخن ولا يشرب، ويمتلك أعصاباً حديدية ومعدةً فولاذية لا تعرف الجوع ولا العطش. هذه الصفات التي تتناقض مع فوضوية الشاعر ونزوعه إلى الحرية. لكنني مع الوقت أوجدت صيغة مقبولة (إلى حدٍّ ما) أستطيع من خلالها التنقل بين الضفتين.
لا أدري إن كان الشعر قد أضاف شيئا ما إليّ كجراح، ولا أدري إن كانت الجراحة قد أضافت شيئا ما إليّ كشاعر، لكن ما أنا متأكد منه، هو أن كل واحد منهما قد سلب أشياء من الآخر.
عندما أمسكت المشرط لأول مرة لشقّ البطن، لاحظ معلمي رعشة المشرط، ولأنه كان يتمتع ببديهة بالغة الظرافة قال لي: “أمسك المشرط كقلم الكتابة، وتخيل أنك تهم بكتاية قصيدة، كل ما عليك فعله هو أن ترسم هنا خطاً مستقيماً”.. هكذا أعادني إلى شخصيتي الأكثر توازناً مع ذاتها، وهكذا استكانت رعشة المشرط الذي شرع برسم خطه الأحمر على الجسد الحيّ.
لا أستطيع هنا تقييم نفسي إبداعياً، فهذا أمر منوط بالقارئ وبالزمن، وكما وُجِد شعراء وأطباء مبدعون في كلا المجالين، وجد العكس كذلك. وأذكر هنا مقولة أحد الشعراء -وهو جراح فرنسي قليل الموهبة في الشعر- التي قالها عن نفسه والتي لا أتمنى أن تنطبق على حالتي يوماً: “أنا الشاعر الأبرع بين الجراحين، والجراح الأبرع بين الشعراء”..