عبداللّطيف الوراري-شاعر مغربي-سماورد
دائماً ما كان يُطْرح سؤال الجدوى من الشّعر، لكنّه يطرح اليوم بحدّة واطّراد شديديْن في ثقافتنا المعاصرة، لسببيْن: الأوّل، لكون الشّعر يشغل حيّزاً مهمّاً من شواهد إرثنا الثقافي والجمالي الضارب بأطنابه في أعماق التاريخ والحضارة، والهاجع في اللاوعي الجمعي. والثّاني، جرّاء الخوْف من التّقنيّة الّتي تسبّب للشعر مغْصاً عسيراً، وللشّعراء تيهاً في المجهول، وللذّائقة اغتراباً متصاعداً. بالكاد، داخل الثّرثرة الكونيّة الّتي تروّجها وسائط الميديا المختلفة والضاجّة، يصل صوت الشّعر الأجشّ والمبحوح، حتّى اعتقد الكثير، بما فيهم الشّعراء أنفسهم، أنّ زمن الشّعر ولّى، وأنّ الوظائف التّقليديّة الّتي ارتبطت به وتقول بخلاص الكائن صارت مضحكة، وأنّ قوله بات ضرباً من العبث، وأنّ جماله يائسٌ لا طائل منه. لكن يبدو لي، اليوم، أنّ المشكل الحقيقي للشّعر هو مشكل تاريخيّته الّذي لا يمكن أن يُطرح بهذه الصيغة من الاختزال والتّبسيط، فليست تاريخيّة الشّعر اختزال الشّعر إلى تاريخه، بل الحركة الّتي تحمل على أن يكون نفسه الرّاهنية الدّائمة للُغته الخاصّة الّتي تعِدُ بالمعنى، وتستأنفه. من هُنا، يرتبط السّؤال بسؤال القيمة والأثر، أي بالمستقبل الّذي يتمّ فيه فهمنا للشّعر كخطابٍ نوعيٍّ تغدو فيه القصيدة والذّات وفعّالية المعنى عناصر متحوِّلة، باستمرار.
إنّ الوضعيّة الّتي يمرّ منها/ بها الشّعر راهناً تحتاج إلى شيء من الرويّة، وإلى إعادة وضع سؤال الجدوى في سياق التحوّلات المتسارعة، ومشاغل الكائن الجديدة. بدل أن نسأل هل تراجع دور الشّعر في حياتنا، يجب أن نعرف هل هناك شعرٌ أم لا؟كما يجب أن نعرف هل أدرك الشّعراء سياسات القصيدة في زمنها، بمعنى هل انتبهت إلى الحاجات الرّوحيّة والجماليّة للإنسان المعاصر؟وهل ذهبوا هُمْ أنفسهم إلى أمكنة أخرى لبحث الشّعر ومقاربته؟ نطرح هذه الأسئلة من ضمن أخرى متشعّبة لنؤكّد ضرورة َالشّعر، وكتابتَه الّتي تتوجّه إلى المستقبل وتُصغي إليه، وأهمّية أن يستبدل الشعراء مفاهيم وآليّات عمل الشّعر وترهينه. ثمّة مستقبل للشّعر يصير بين شرائط ثقافيّة جديدة وعابرة للذّوات والخطابات والأزمنة، بما في ذلك غير الشّعرية الّتي تُشيعها وسائط العولمة. يفرض علينا الفضاء الاتصاليّ المعولم الوعي بلحظتنا الرّاهنة، من حيث التعاطي مع معادلات وسائطية ومفاهيمية جديدة كالفضاءات الافتراضيّة، والنشر الإلكتروني، والأقراص الممغنطة، الّتي يقابلها اهتمامُ الذّائقة الجديدة بالنصوص الإبداعية المتعالقة ومن ضمنها النصّ الشعري.
’’إنّ الّذين يرْبطون الشّعر بحالة الطمأنينة، وببلوغ الخلاص إنّما يتحاملون على الشّعر، ويكرّسون فهْم العامّة له كشيْء ساذج وعديم الجدوى.’’
في الظّروف الراهنة، من عديم الجدوى أن يبحث الشّعر عن دوْرٍ جماهيريّ، أو بالأحرى يُبْحث له عن مثل هذا الدّور، ولا وهم التّمثيل والمحاكاة، ولا عن خطاباتٍ تعزّز الإجماع الكاذب. إنّ الّذين يرْبطون الشّعر بحالة الطمأنينة، وببلوغ الخلاص إنّما يتحاملون على الشّعر، ويكرّسون فهْم العامّة له كشيْء ساذج وعديم الجدوى. قوّة الشّعر في هشاشته الّتي لا تُزهرُ إلاّ في العتمة، وترقص على حوافّ الكارثة. وتنبت في الشّقوق، وتدبّ بين تصدّعات الرّوح. إنّه لا أقلّ من هذا السّفر العابر في الجوهريّ، وفي الشعائر الهامسة، وفي طقوس الحبّ والجمال والغناء ولحظات التأمّل والإصغاء وسخاء الطّبيعة، وفي تنْبيه النّاس إلى عدم الانتقاص من الشعريّة المتناثرة في الحياة أنّى كانت، وفي حفظه لغة الحلم والمجاز والعمق الّتي تنعش في الإنسان قوّة الذّاكرة ورهافة الإصغاء وسماحة التّأويل، وفي بثّه المعاني الوجودية الأساسيّة.
هو ذا مستقبل الشّعر الّذي تُراقبه سياسات القصيدة. نقصد بسياسات القصيدة معنى الاستراتيجيّة الّتي تترك القيمة والأثر في حالة اشتغالٍ وانْدفاعٍ وتيقُّظ، وهي قويّة الإصغاء لما حولها، ومتحوّلة في داخلها. أمّا إيقاعها، إيقاع ذاتِها فإنّه يهجع في لاوعيها حيث يحفُز الشعراء، ويرعى اليائسين منهم، متوتّراً بين القول بـ”فضل قول الشاعر وصدعه بالحكمة فيما يقوله” والاعتقاد بـ”أن الشّعر نقص وسفاهة”. كما أخبرنا بذلك حازم القرطاجني في زمنٍ من الشّعر سحيق. ولنا أن نُشير، وسط الضّجيج حتّى باسم الشّعر، إلى أنّ هناك نماذجَ قويّة ولافتة داخل الشعريّة العربيّة المعاصرة تصنع عبورها الخاصّ، وتقدِّم للمستقبل شهادات حياةٍ، وعلامات عافيةٍ وصحّةٍ روحيّةٍ تليق بالجوهريّ في الإنسان وعداه، حتى وإنْ طغى على الرّاهن سمات العزلة واليأس والخراب. إذا كان الأمر يتعلّق، هنا، بالقصيدة، بسياسات القصيدة، فلأنّ ثمّة ما يُظهر أنّ المغامرة الشعريّة والمغامرة الذّاتية متداخلتان تقتسمان التّاريخ نفسه، والعمل نفسه. ويأخذ الشعريّ في سياسات القصيدة صفة غير المكتمل نظريّاً، لأنّ الأخيرة تتضامن والخطاب في أن تظلّ القصيدة تطفح بالأدلّة دائماً. بهذا المعنى، تعرض علاقات القصيدة، بطريقتها المميّزة، الرّهان الابستيمولوجي للشّعر كـ”عمل فنّي مفتوح” على المجهول. وعليه، فليس الرّهان شعريّاً فحسب، بل أيضاً سياسيّ، من معنى إلى معنى. فافْهَمْ !