المسرح رسالة فنية وثقافية وإجتماعية وتعليمية نستقي منها تاريخ الحضارات والثقافات. المسرح أجمل الفنون وأقواها أثرا بتكاملها وتفاعلها اللامحدود مع الإنسان وتعزيزها للقيم والأخلاق. هذا الركح بكل ألوانه المسرحية يهدينا البهجة والدهشة ومشاهدة تحكي مشاهدنا وقصصنا وكأنه حياة ضمن حياة.
يقول بيلي “أينما كان هناك مجتمع إنساني تتجلى روح المسرح التي لا يمكن كبتها”، حين ينجح المسرح في رسم حالاتنا الإنسانية بكل ألوانها، حينها تكتمل هذه الرسالة. حين يصبح المسرح وسيلة تفاعلية مع الإنسان، وحين يتكامل العرض المسرحي بأسس فنية صحيحة سينجح في رسالته المنشودة في الوصول الى الإنسان.
يشرح لي قائد الدورة المسرحية (من النص إلى الخشبة) التي حضرتها في مسرح شكسبير الملكي في بريطانيا أن عرضا مسرحيا واحدا يستغرق أربعة أعوام من وقت كتابة النص إلى يوم العرض. هي إستراتيجية تقوم عليها الفرق المسرحية في هذا المسرح كي ينتجوا عرضا مسرحيا متكامل العناصر بحيث يترك أثرا فنيا وثقافيا وحتى اجتماعيا عند المتلقي، يؤثر في فكره وثقافته وحتى قراراته. هناك ركائز أساسية يقوم عليها العرض المسرحي وهي النص والممثل والإخراج وتصميم الأزياء والديكور والخشبة بما فيها من فضاء مسرحي، فتتحد كل هذه العناصر لتعزز الرؤية المسرحية للعمل ككل. وهنا ليس كافيا أن تجتمع كافة العناصر كي يضمن العرض نجاحا تقنيا وفنيا، بل الأهم من ذلك هو أن تجتمع هذه العناصر وتوظف بطريقة فنية مدروسة تخدم الرؤية المسرحية للعمل وهذا ما وجدته في مسرح شكسبير الملكي حيث دقة التحضير تبدأ من النص مرورا باختيار المخرج والممثلين واختبارات الأداء التي تشمل حتى كبار الفنانين للتأكد من مناسبة الدور والشخصية مع الممثل المقترح. ومن أهم عناصر إنتاج العرض أيضا هو تعيين متخصصين في إدارة الفريق المسرحي وتكثيف الجهود في اللقاءات الفنية والبروفات التي تخصص لها أدوار وقاعات خاصة بالإضافة إلى قسم تصميم الأزياء المسرحية الذي تعد فيه الأزياء الملائمة للشخصيات وانتقالا لقسم الإضاءة والصوت والتقنيات التي تساعد في تشكيل الهيكل المسرحي للعرض.
مغزى طول مدة التحضير لعرض واحد من قبل هذا المسرح ليس إنتاج عرض ضخم التكاليف يبهج الجمهور بصريا فقط بل الدقة في إنتاج عرض متكامل العناصر برؤية مسرحية واضحة وهادفة تبهج الجمهور وتثقفه في وقت واحد. مسارح وفرق مسرحية كثيرة معروفة باهتمامها بتكاملية العرض المسرحي، أحد أهم العروض المسرحية التي نجحت في تعريف التكامل المسرحي للعرض في نظري هي مسرحية (جين إير) من إنتاج المسرح الوطني في لندن حيث اتحدت فيه كل العناصر من نص وإخراج وأداء تمثيلي وفضاء مسرحي مدهش وموسيقى، كل هذه العناصر عززت الجو المسرحي المراد إيصاله والفرجة المسرحية للجمهور. يجب التأكيد هنا أن كل رؤية لعرض بعينه لها اتجاهاتها الخاصة في توظيف هذه العناصر أو الاستغناء عن بعضها. الشرط في نجاح أي عرض مسرحي هو إيصال الفكرة المنشودة خلال العرض إلى المتلقي.
هناك أعمال مسرحية كثيرة استغنت عن عناصر مسرحية مهمة ونجحت في ذلك وهناك آراء فنية كثيرة تجد أن الممثل دون فضاء مسرحي متكلف ومعقد يستطيع أن يحمل على عاتقه تكاملية العرض ونجاحه. هنا أذكر الفنان المسرحي والسينمائي نصر الدين شاه وهو أحد أهم المسرحيين في الهند، فهو لا يؤمن بالتكلف في الفضاء المسرحي، في الديكور، في الإضاءات وفي الأزياء ويؤيد فكرة أن الممثل يستطيع إنجاز المهمة المسرحية وحده على الخشبة دون سينوغرافيا ضخمة كي يحكي عرضا مسرحيا بصوته وموسيقاه وبفضائه الخاص وبجمالية أداءه.
كل حركة مسرحية يؤديها الممثل على الخشبة هي نتاج حالة ذهنية في عقل الممثل وخياله تخرج لنا على هيئة أداء حركي وتمثيلي يصف لنا فعلا ودافعا وحالة نشاهدها خلال العرض. تتوالى هذه الأفعال المسرحية طوال العرض لتتغير وتتطور فتعبر لنا ما يدور في عقل الممثل ووجدانه من تغيرات نفسية يشعر بها المتلقي ويتفاعل معها لتحرك في نفسه ذاكرة أو موقف أو تساعده في الوصول إلى فكرة أو حل. هاملت بشكه ويقينه وحواره الداخلي بينه وبين نفسه ورغبته القوية في الانتقام لقاتل أبيه، كل هذه الحرب النفسية أخرجت لنا أفعالا مسرحية على الخشبة لتقود العرض إلى أحداث وأفعال مسرحية متتالية من لحظة ادعائه بالجنون الى المسرحية التي عرضها أمام عمه وحواراته القوية التي ما زال الجمهور يتذكرها ويتفاعل معها عبر التاريخ ثم نهاية بقتل عمه.
في مسرحية (نعش) للكاتب إبراهيم الحارثي، تفاعل الموتى مع النعش وارتباطهم بهذا الرمز على الخشبة في كل مشهد وحوار وتغير هذا التفاعل مع النعش ومواجهة الأفكار والعواطف وتعبيرهم بأفعال مسرحية ظاهرة تقرب معنى هذه المواجهة مع الموت والحياة بداخلهم .ثم أخيرا تنحية النعوش جانبا، هذا الفعل المسرحي الظاهر أمام المتلقي كناية عن رغبتهم في الحياة من جديد بروح جديدة ورؤية مختلفة “لنعود ..نعود للحياة نبضًا، و نكون نحن الحياة”، فيتفاعل الجمهور بالتصفيق والتفكير في الحياة والموت ليحقق العرض تواصله المستمر في الأثر حتى بعد إسدال الستار، وهنا منتهى التكامل والتفاعل الذي ينشده فن المسرح.
يقول جيريش جرنارد “إن المسرح يوقع وثيقة موته حين يحاول أن ينشد لنفسه السلامة”، ومن هنا أرى أن التجريب طوق نجاة للمسرح كي يستمر وينمو كطاقة مسرحية متجددة تلبي فكر المتلقي وتعبر أكثر عن التغيرات الاجتماعية والفكرية للإنسان في كل زمان ومكان. شهد المسرح عبر التاريخ ألوانا متعددة من التجريب وبدأت بشكل قوي على يد الكاتب المسرحي ألفريد جاري، وقد تعددت سبل التجريب في المسرح فهناك من يتخلى عن النص كليا ليعتمد على الممثل في خلق حالة أدائية تحمل على عاتقه إيصال الرؤية المسرحية للعرض.
لممثل الانجليزي ديفيد جاريك يتناول نصوص شكسبير فيحذف مقاطع منها ليضيف من خياله وفكره ويصوغها برؤيته بإضافة أو دمج أفكار من نصوص مختلفة فيخلق نصا آخرا، وهنا رأينا منه التجريب في النص من خلال الارتجال بشتى فنونه. التجريب طال كل عنصر من عناصر المسرح، ففي مسرح شكسبير الملكي امتدت خشبة المسرح لتتوسط مقاعد الجمهور الذي يتفاعل مع الشخصيات عن قرب ويتبادل الممثلون بعض الحوارات المرتجلة مع الجمهور لنرى عرضا تفاعليا إيجابيا ومدهشا في الأثر المتبادل بين الطرفين. سعد الله ونوس بفرقة المسرح التجريبي، لوسيان بورجيني بفرقته وبيتر بروك في التجريب المسرحي وخاصة تجاربه في مسرح شكسبير الملكي، هؤلاء أثبتوا أن كل عرض مسرحي جميل لابد وأن يكون نتاج تجريب في عنصر من عناصر تكوين العرض.
الممثل ركيزة العرض المسرحي مهما اختلفت مذاهب العرض، ولا أرى بديلا عنه من بدائل التكنولوجيا كي يحل محله. لكن تقنية الهولوجرام يمكن أن تستخدم كأداة مساندة لفكرة ما أو مشهد بعينه أو رمز لشخصية مسرحية كما في مسرحيةThe Tempest العاصفة
التي عرضت عام ٢٠١٦ من انتاج RSC، استخدمت فيها تقنية الهولوجرام كي تمثل شخصية (آريل) فنرى حوارات ومشاهد (بروسبرو) الممثل وآريل كصورة متحركة ثلاثية الابعاد عن طريق الهلوجرام الذي أثرى الجمهور بمغامرة بصرية وصوتية وحسية.
لا يكتمل عرض بدون نص فهو الركيزة التي تقوم عليها كل عناصر العرض والخيط الذي يشدنا من أول مشهد إلى آخره، حتى في عروض المسرح الارتجالي التي تخلو من النص المكتوب وتعتمد على الممثلين على الخشبة لا بد من وجود نص يؤلفه الممثل في اللحظة التي تقترح فيها الفكرة؛ عليه أن يختلق نصا ويمثل مشاهد النص المكتوبة في عقله أمام الجمهور. هناك نصوص عميقة تترك لنا كجمهور مساحة للتفكير وللخيال ولتغيير نظرتنا وحتى قراراتنا في الحياة.
“أنت ميت ضمن إطاراتك التي تحددك فقط، لكنك حي في اطارات أخرى”، “نحن موتى في شرايين هذه الحياة، تطاردنا الأزمنة ونقع في فخ السيطرة”، “كنا موتى في شرايين الحياة، اليوم نعود أحياءً في أروقة هذا الوجود”. هذه مشاهد قوية من نص مسرحية نعش للكاتب إبراهيم الحارثي، حين نعيش مفاهيم أخرى للموت والحياة من خلال مشاهد كتبت بروح عميقة لا يفهمها إلا الإنسان المدرك، مشاهد توقف الزمن في قلوبنا كي ننصت ونعيد النظرة الى حياتنا ونعيد تعريف الموت في مفاهيمنا وكتبنا واعتقاداتنا. حين نتمسك بالحياة من خلال مشاهد الموت و(النعش) ولا نخاف الموت من مشاهد تدعو الى الحياة من جديد. بلاغة التضاد في المشهد والمعنى والدلالة.النص المسرحي يظل حيا حين تجتمع كل هذه البلاغة في المشهد والمعنى والسرد لتعيد صياغة فكر المتلقي نحو الحياة والموت ونحو المسرح ايضا.
فكرة البث المباشر من قبل المؤسسات المسرحية فكرة بناءة إن استخدمت في مسارها المدروس والصحيح. في ٢٠١٠ بدأت في بريطانيا تجربةNT live screening في عرض المسرحيات سواء عن طريق صالات السينما أو عن طريق البث المباشر عبر منصة اليوتيوب أو غيرها. نشأت هذه المبادرة في أوج ازدهار المسرح البريطاني وهي ليست بجديدة، حينها انقسم المسرحيون الى مؤيد ومعارض بحكم أن المسرح هو التواصل الحقيقي بين فريق العرض والجمهور. من ٢٠١٠ الى ٢٠١٤ عرض المسرح الوطني في لندن ٣٠ مسرحية وأثبتت هذه المبادرة نجاحها. وازدات عروض البث الى يومنا، حيث أقبل المجتمع أكثر على فكرة العروض المسرحية وبالتالي ازدادت نسبة الحضور في المسارح.
حين يكون المجتمع مثقفا مسرحيا بطبيعته سيكون على وعي تام في التمييز بين البث المباشر عبر وسائل التواصل وصالات السينما وبين حضور العروض في مسارحها. البث المباشر من قبل المؤسسات المسرحية مهم جدا حين يكون المجتمع متعطشا للعروض المسرحية، البث المباشر هنا يخدم المثقف المسرحي كثيرا ولو لفترة مؤقتة.
مسرحية (1441) وهي مسرحية افتراضية سعودية كان اليوتيوب منصة عرضها عبر البث المباشر، خطوة جريئة في فكرة المسرح الافتراضي أتت بصدى كبير بين مؤيد ومعارض وتعريفات كثيرة لماهية المسرح. كل هذه الدلائل ماهي إلا سمة نجاح عمل فني مهما اختلفت الآراء، إن تصالحنا مع فكرة أن المسرح الرقمي او الافتراضي ليس بديلا عن المسرح بمفهومه الحقيقي المتكامل وإن أخذنا هذا النوع من المسرح الافتراضي كمذهب جديد من مذاهب المسرح فإن العرض أثبت نجاحه في عناصر متعددة.
مؤخرا أقام مسرح old vic عرض lungs وشاهده الجمهور بتذاكر رمزية على منصة زووم. كان عرضا ناجحا بكل المقاييس ولاقى استحسانا من الجمهور الذي انقطع عن المسرح ووجد غايته في عروض تبث إلكترونيا.
في الختام، سر المسرح في جماله وقوته وأثره وتفاعله مع الحياة في كل زمان ومكان، المسرح أكبر من العقبات والأزمات، يجد طريقه إلى الناس بشتى الطرق والوسائل. المسرح سهل يصل للجمهور أينما يكون وكيفما يكون. المسرح صعب بتاريخه القديم وفنونه المتجددة المسرح أكبر الفنون وأعمقها أثرا في نفس الفرد والمجتمع. المسرح رسالة فنية جادة الخطى تهدف الى تقدم الإنسانية بمفهومها الصحيح.