مجرد رسالة من عجوز

0 500

حسين السنونة – السعودية

لا أعلم، هل ستصل رسالتي لك أم لا؟ إن وصلت اذهبي في الصباح الباكر جدًا إلى غرفتي، وافتحي النافذة، وانظري إلى السماء، وقولي: صباح الخير يا خالق الجمال، ثم أطلقي نظرك إلى الأمام، إذا كانت الأرض كما هي خضراء وطيور تغني بصوت خفيف قولي: سبحان الخالق، ثم اذهبي للدولاب الأزرق وافتحي الدرج الأسفل سترين صورًا لي، من بينها صورة لي وجدتك أيام الشباب كنا في حديقة تتوهج بالورد، وكانت أجمل وردة فيها هي جدتك، عودي بعد ذلك إلى النافذة وانظري إلى الأمام؛ إلى البيوت التي في مواجهتك مباشرة؛ ثم ابدئي العدّ من اليمين ثلاثة بيوت. البيت الثالث صاحبه هو من أبلغ عني الأمن المركزي. كنت على وشك الاعتقال بتهمة الخيانة العظمى، ولكن صاحب المنزل الرابع أخبرني قبل وصولهم، فكان أن هربت، وعلمت بعد سنوات أن الذي بلغ عني اعتقل ومات بعد خروجه من السجن بأيام. انظري إلى البيت الذي على اليسار؛ في ذلك البيت فتاة هي الآن عجوز مثل جدك، كنت أحبها من طرف واحد، بكيت عندما تزوجت، علمت فيما بعد أن الشعور نفسه كان موجودًا لديها، ولكن لم تكن هناك خطوة من أي طرف، سلمي عليها جدًا، وانظري إلى عينيها إن رأيت بريقًا، فاعلمي أن هناك آهات قلبية مكلومة من زمن ماض.

صغيرتي مريم، التي لم أرها إلا عبر صورة مرسلة، انظري إلى الشارع الذي يفصل ما بين البيت الذي أنت فيه والبيوت التي أمامك، هذه الشارع كنا نجتمع فيه؛ نحن شباب المدينة؛ نلعب ونرقص ونسمع موسيقى ليست صاخبة. كانت مجموعة من الألعاب نمارسها دون توقف حتى يتسلل الليل خانقًا النهار، ونعود إلى المنازل. كانت أجمل الأيام عندما تمطر أو تقترب الامتحانات، يزداد اللعب جمالا ولذة، لكن نصائح وإرشادات الكبار التي محل التقدير كانت تحول دون استمرارنا. كنا نعتقد أن أي شيء يقوله الكبار هو علم ومعرفة، وصواب ينبغي سماعه وتنفيذه، ولكن عندما كبرنا وتعلمنا اكتشفنا أن ليس كل ما يقولونه وينصحون به صوابًا وأحيانًا نكتشف أنهم كانوا مجرد تماثيل صنعت بأيدينا.

من بين الصور هناك صورة شاب وسيم جدًا وأنيق جدًا، أعتقد يلبس كرفته حمراء، وقميصًا أبيض، كان يقول إنه شيوعي، فكنت أناديه “شيوعي”، وهو يناديني “قومي عربي”، ونضحك. كان الشعار هو الاحترام والتقدير، سمعت فيما بعد أنه مات تحت أقدام ضابط لم يحصل على الشهادة الابتدائية، كانوا يريدون منه معلومات عن اللون الأحمر، وأسباب ارتدائه لرابطة عنق الحمراء. هل تعلمين أنه أوصى أحد زملائه في السجن أن يبلغني سلامه، “بلغ سلامي للقومي العربي مجيد، وقل له أخوك الشيوعي الأحمر مات دون أن …”

لو خرجت خارج البيت وجعلت ظهرك للباب، واخترت المشي إلى اليمين؛ سترين بعد مائتي متر عمارة، أعتقد أنها من خمس طوابق. كان ممنوع البناء أكثر من خمس طوابق وقت بنائها، حيث كان المسؤولون يخشون أن يصعد الفقراء إلى الأسطح ويشتكون لله ما يتعرضون له من أذى بني البشر. هذه العمارة يسكنها مدرس من إحدى الدول العربية كان دائما يحدثنا على فلسطين، وحروب 1948 و1956، وعبد الناصر، العيون الوقحة بلغت عنه وتم طرده من البلد، وتحت العمارة هناك بقالة أعتقد أنها تبيع الصحف والمجلات، كنا نحجز عندها مجلات العربي والحدث والمستقبل وغيرها من المسموح بيعه، كنت أسرق مبلغًا من جيب أبي واشتري هذه المجلات وأقوم بقراءة بعض الأخبار له، وبعدها كان يعطيني مبلغا تشجيعا ولكني أعتذر منه، فينظر لي نظرة أعلم ويعلم أنه يعلم من أين حصلت على المبلغ لشراء الصحف والمجلات.

في مقابل حينا، سترين ما يطلق عليه الآن الحي الجديد الذي أقيم للأسف على أنقاض بيوت قديمة كانت تعد جزءًا من آثارنا؛ ولكن نحن في عالم لا يحترم الماضي ولا آثاره ولا تراثه؛ تم بيعها بثمن بخس. المضحك أن بعض التجار كان يعلم “بالقص” لتوسيع الطريق، فاشترى من الفقراء بيوتهم، ثم باعها هو على أصحاب “القص”. المضحك أكثر أن بعض هؤلاء يتكلم عن الفساد والإنسانية، وكيف أنه عصامي قام ببناء نفسه من الصفر، ولا أعرف أي صفر يعني، وسمعت أنه قبل أشهر ألف كتابًا ضم مذكراته، ولكن للأسف لم يذكر قصة “القص”، لربما خاف من الحسد.

أعلم أنك تفكرين باستغراب وأنت عائدة إلى المنزل، أني لم أحدثك عن المنزل الكبير المتميز في آخر الشارع، هو منزل عائلة تسمى عائلة “الكهرباء”، وهي تتوارث المناصب والمسؤولية في المدينة، حتى أن جدهم يقال أن مؤخرته ضخمة جدًا بسبب جلوسه لسنوات طويلة على كرسي المسئولية، لدرجة أنه عندما تقاعد وحل ابنه محاله؛ يقال إن الكرسي تنفس.. وقد اقترح أخيرًا أحد أبناء العائلة تغيير اسم العائلة من “الكهرباء” إلى “كرسي”.

خلف البيت، توجد حديقة صغيرة في آخر الشارع، وفيها شجرة وارفة الظلال تتميز بطولها وقربها إلى الأرض بشكل قريب من الدائرة، بجانبها شجرة صغيرة وأرض شاسعة؛ لا أعلم هل الأرض مازالت موجودة أم أن مسؤولًا سرقها، وقسمها ليبيعها على عبابيد الأرض. الشجرة مكتوب على جذعها كلمات وأشعار وأسماء لمجموعة من الشباب. هل تصدقين حفيدتي مريم، مكتوب أيضا أسماء من أحببناهم ونحن صغار، ومكتوب حوار بيني وبين أعز إنسان وصديق لي، كنت أقول له وهو يجيب، هل تتمنى أن تكون ضابط مخابرات؟

ـ لا

ـ لماذا؟

ـ لربما أعذب بشرًا مثلي أو أرفض فأكون مفعول به.

ـ إذن لتكون عضوًا في البرلمان

ـ لا

ـ لماذا؟

ـ أخاف أن يشتمني الجيران، ويسخر مني كبار السن أو أكون محترف تطبيل!..

ـ إذن ماذا تريد أن تكون؟

ـ أريد أن أكون إنسانًا.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.