تحت المطر

0 465

عبد القادر وساط – المغرب

 (1)

اكتشفتُ منذ صباي الأول أني أستطيع المشي تحت المطر، دون أن تبتل مني شعرة واحدة!

حتى حين يكون المطر شديد الغزارة، أمشي ببطء وهدوء تحت المياه المنهمرة من السماء، لا يصيبني بلل، ولا تعتريني رعدة؛ شعري ناشف، وملابسي جافة؛ فكأنني أمشي تحت سماء صافية، في يوم ربيعي جميل!

ناس كثيرون لا يصدقون قصتي حين يسمعونها؛ أما الذين سبق لهم أن رأوني رأي العيان، تحت وابل من المطر، فقد صاروا يتوجسون مني، ويتفادون مصافحتي حين نلتقي بالصدفة، في الشارع أو في المقهى أو في أي مكان.

والحق أني عانيت الكثير، منذ طفولتي، بسبب هذه الظاهرة الغريبة. كَمْ سخرَ مني التلاميذ وكَمْ شكَّ في أمري المدرسون وتجافاني الأقارب!

وهأنذا اليوم في الرابعة والثلاثين من عمري، قد شَحَّتْ مواردُ رزقي، بسبب هذه اللعنة التي تلازمني، وإذا حدثَ أنْ وجدتُ عملًا مثل سائر الناس، فإني لا أنعم به طويلًا، إذ سرعان ما يصل خبري إلى رب العمل، فيطردني دون رحمة!

وقبل شهور، هجرتني زوجتي لأنها لم تعد تحتمل ما يقوله الناس عني، ثم أجبرني أهلها على الطلاق، ولم نكن قد أنجبنا أطفالًا لحسن الحظ.

إثر ذلك، قام جيراني بطردي من المسكن الرخيص الذي أكتريه، بعد أن انتشرت بينهم إشاعة بأن أمي جنية! وسمعتُ بأذنَيَّ هاتَين إحدى الجارات تقول لصاحبتها: “رجُلٌ لا يبلله المطر! هذا ليس مخلوقا بشريًا!” هكذا اضطررتُ للانتقال إلى غرفة بائسة، في سطح بناية متهالكة.

صحيح أني أنعم بشيء من السلام في الفصول غير الممطرة، ويُخيَّل إليَّ آنئذ أن الناس قد نسوا حكايتي بالمرة، ثم يأتي الفصل الذي أكرهه – فصلُ الشتاء – ويحدث أن يباغتني المطر في الشارع، فأتمنى عندئذ أن أبتل كما يبتل الناس، لكن اللعنة القديمة تَحُول دون ذلك، فلا يبقى لي سوى أن أتحمل النظرات المليئة بالكراهية والمشحونة بالقسوة والعدوانية.

(2)

ثم حدث شيء لم يكن في الحسبان، وبَدَا لي أن النقمة سوف تتحول قريبًا إلى نعمة.

كنت في مقهاي المعتاد، حين قرأتُ في الجريدة إعلانًا عن منصب شاغر بشركة (إيڤرارو) للإشهار. شعرتُ بفرح غامر، فهذه الشركة تبحث تحديداً- ويا للصدفة العجيبة! – عن شخص يمشي تحت المطر ولا يبتلّ! قرأتُ الإعلان عدة مرات، ووجدتُ صعوبة كبرى في تصديقه. تساءلتُ عن السبب الذي جعلهم يرغبون في شخص لا يبلله المطر، غير أني لم أتوقف طويلًا عند هذا السؤال. كل ما كان يهمني هو أني سأجد عملًا، بعد شهور من البحث واليأس والإحباط. نعم، ستقبلني شركة (إيڤرارو) للعمل لديها دون شك. أوَ لستُ المخلوق الوحيد الذي لا يبلله المطر في هذه المدينة، وحتى في باقي المدن؟ ثم إن الشروط الأخرى كلها متوفرة فيّ: رجُل بَيْن الثلاثين والأربعين من العمر، غير متزوج، مستواه الباكالوريا أو ما فوق، وليست له سوابق عدلية.

اتصلتُ فورا بالهاتف المشار إليه في إعلان الجريدة، فأجابتني امرأة ذات صوت عذب وأعطتني عنوان الشركة وطلبت مني المجيء في اليوم الموالي، في الثامنة صباحًا.

(3)

رغم وصولي إلى مقر الشركة، بشارع صلاح الدين، قبل الموعد المحدد، فوجئت بأن هناك ثلاثة أشخاص قد سبقوني إلى قاعة الانتظار. كرهتهم من الأعماق حين عرفت أنهم هم أيضًا يمشون تحت المطر ولا يبْتَلُّون، وأنهم جاؤوا طمعًا في المنصب الشاغر، وسمعتُ كل واحد منهم يحكي عن متاعبَ شبيهة بمتاعبي، فازددت كرهًا لهم وضيقًا بهم.

جاءت السكرتيرة وأخبرتنا أننا سنخضع للفحص الطبي الأولي. وزّعَتْ علينا استمارات، فملأناها بسرعة وأعدناها إليها. ثم نودي علينا واحدًا بعد الآخر، إلى مكتب الطبيبة.

كان دوري هو الأخير، وحين سمعتُ اسمي نهضتُ مسرعًا وقد ساورني قلق عميق.

كانت الطبيبة رائعة الجمال. شابة دون الثلاثين من العمر، استقبلتني بابتسامة لم أر مثلها قط. أمرتني أن أنزع ملابسي كلها وأن أتمدد على ظهري، على طاولة الفحص، فامتثلتُ دون كلام. ورأيتها تتقدم باتجاهي والسّمّاعة حول عنقها، والابتسامة لا تفارق وجهها الجميل.

كانت تشبه الدكتورة (سارة تانكريدي)، في مسلسل (بريزون بريك)، وكنتُ أنا من الحرج في حال، وهي تتفحص عُرْيي، وتجسُّ حتى أعضائي الحميمة بيديها الرقيقتين، بل إني شعرت بالغيرة حين تخيلتها تقوم بالشيء نفسه مع الثلاثة الذين سبقوني، ثم رأيتها تنزع القفازين وتطلب مني ارتداء ملابسي، والابتسامة هي هي، تضيء وجهَها الفاتن، والعينان السوداون تبتسمان أيضًا، والشعر الأسود الناعم ينساب شلالاً من الضوء والحرير.

(4)

في اليوم التالي، كان لنا، نحن المرشحين الأربعة، موعد مع المسؤول الأول عن الشركة. ولما جاء دوري ودخلت مكتبه، وجدته يجلس متعاظمًا في مكتبه الفخم وفي يده اليمنى سيگار ضخم. كانت تبدو عليه الرفاهية والترف، أما ملامحه فتشي بالقسوة وازدراء البشر.

لم يأمرني بالجلوس، فبقيت واقفًا لا أنبس بكلمة، إلى أن سألني عن اسمي فأجبته بصوت متلعثم. سمعته يقول لي بعنجهية وهو ينظر إلى الاستمارة الموضوعة أمامه:

-إذن فأنت أيضًا تدعي أنك تمشي تحت المطر ولا تبتل. الثلاثة الذين سبقوك يزعمون كلهم نفس الشيء، لكننا سنعرف كيف نمتحنكم بطبيعة الحال.

اقتادونا – نحن الأربعة – إلى قاعة كبيرة، في حجم ملعب لكرة السلة. كانت قاعةً معتمة، دون نوافذ، وخالية من أي أثاث. كان المسؤول الجهم يراقبنا من داخل خلوة زجاجية، وبجانبه الدكتورة (سارة تانكريدي)، وثلاثة من الحراس. أمرونا بالوقوف جنبًا إلى جنب قرب مدخل القاعة، ثم أشعلوا الأضواء الكاشفة وبدأ مطر اصطناعي غزير ينهمر من السقف، مصحوبًا بموسيقى، مثلما يَحدث في السينما. أشار إلينا المسؤول، من خلف الزجاج، أن نمشي تحت ذلك المطر الكثيف، بخطى بطيئة، بينما الأضواء الكاشفة تتحول من الأحمر إلى الأزرق ثم إلى الأخضر والأصفر.

عندما بلغنا منتصف القاعة، وجدت نفسي مبتلًا من رأسي حتى قدمي، بينما الثلاثة الآخرون مزهوون بشعورهم الناشفة وبثيابهم الجافة، ينظرون إليّ نظرات السخرية والتشفي.

جاء الحراس لإخراجي من القاعة، تنفيذًا لأوامر المسؤول المتعجرف. حاولت أن أقاومهم، لكن دون جدوى. كنت متأكدًا أن خيبتي كانت بسبب المطر الاصطناعي، وأنه ينبغي إجراء التجربة تحت المطر الطبيعي، كي يتأكدوا أني لا أكذب. لكن الحراس القساة دفعوني خارج القاعة، ثم أمروني بمغادرة الشركة فورًا. وهكذا نزلتُ السلالم والماء يتقاطر من جسمي ومن ملابسي.

(5)

مرَّت شهور وأنا في غاية الأسى واليأس، ثم حل الشتاء، فوجدتني كسابق عهدي، أمشي تحت المطر المدرار، دون أن تبتل مني شعرة واحدة! وشيئًا فشيئًا، نسيتُ ما كان من أمر الشركة، ونسيت المسؤول المتعجرف، والفرصة التي ضاعت مني ظلمًا، لكني لم أنسَ الوجه الصبيح للدكتورة (سارة تانكريدي)، ولا نظرات الحزن في عينيها السوداوين، حين كان الحراس يدفعونني دفعًا خارج القاعة.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.