خبيزة أم أيمن
هاشم العلوي – السعودية-سماورد
أن تكون لك أم تخاف عليك من ظلك، وتحرس نومك، وتبكي عليك حياً لأنك بعيد عنها؛ فتلك نعمة الشقي من لا يشكرها. كيف وأن تكون لك أم أخرى تحنو عليك في غربتك وتنافس التي ولدتك، وتكون أرملة فلسطينية مشردة وأنت الغريب على خطى التشرد؟!
أيها الغريب! حين يعضك الجوع والوحشة ما الذي تبحث عنه؟ صديق يشاركك كسرة خبز؟ كأس يطمئنك أن ليس ما فيه من ماء بغسلين؟! ظل شجرة تأوي إليه هرباً من فاتورة سكن لا تملك قيمتها؟ أنثى عابرة تدخلك الجنة ساعة لتوصلك إلى باب طرد منه قبلك أبوك آدم؟
إذا ملََـّك وطنك ولم تعد تشعر بالحنين إليه (لأن لك أسم ورثته منذ أربعة عشر قرناً) إذا تخلل إليك الكفر بأوراق الكتب التي علمتك أبجديات الأمل، ولم تعد أوراقها تشبع نهمك للحرية والحب! ووضعت بين خيارين: إما التشرد فقيراً جائعاً، وإما التشرد قاتلا بليرتين ونصف.!!
– شتاء عام 1988 مساء، السماء ملبدة بالخوف، وزئير الغارات الوهمية للطائرات الإسرائيلية العائدة من دكّ المخيمات الفلسطينية في لبنان تأتي من بعيد، وتخيم على منازل الفقراء المتهالكة في ريف دمشق. الشوارع خالية إلا من بائعي المازوت، وبعض الجرافات الزراعية العائدة من حقولها، وأخبار الجوار اللبناني تزكم الأنوف.
للتو، كنت عائداً من كبينة الهاتف، بعد أن تحدثت مع والدتي بعد طول غياب. أخبرتها أنني لن أعود ولم اخبرها أنني أنوي الالتحاق بكلية الآداب بدمشق. توسلت إليّ أن أعود؛ لكن قلبي وقتها قد قسا حد العناد. بكت، وبكت؛ حتى خلت أن دموعها ستبلل وجهي، وكنت مرتبكاً وحزيناً، لا أردد إلا كلمة واحدة ( أصير خير يمه أصير خير…). لا اعرف كيف أنهيت المكالمة، ولا أي اتجاه أخذت. لا أحمل معي إلا ورقة ثبوتية لشهادة الثانوية وبعض الليرات وجواز سفر ساومني أحد العراقيين على بيعه ولم أرد له الجواب. بعد وقت طال دون أن أشعر، وجدت نفسي عالقاً بين عراقي؛ يبيع كتبا تقصر الطريق إلى الله وتلهم الفقراء الصبر، قرب خيام متهالكة لمهجري الحرب اللبنانية؛ وفلسطيني يبيع الحلي الرخيصة للفتيات كي يشعرن ببعض الجمال الذي قد ينسيهن أنهن نازحات أو مهجرات يتوسلن نظرة من عامل عائد من التعب إلى التعب، ليغدق عليهن شيئا مما تبقى .
كان الصراع بينهما على جزء من الرصيف. كل واحد يدّعي أسبقيته إليه. وكان المارة لاهين عنهم. وأنا – لن أخسر شيئا – حاولت أن أتدخل. تعمدت الحديث بلكنة القاطنين النازحين من الجولان ولم أفلح في فك نزاعهم. لحظات واحتدم الأمر، وفزع لكل طرف معاونوه ولعلع الرصاص، وجدت نفسي مطوحا بأحدهم من ظهره ومحاولا أخذه بعيداً. فجأة وإذا أنا على الأرض ونظارتي ( نقطة ضعفي) تنفلت بعيدا عني، زحفت تناولتها وأعطيت الجمع ظهري صامتا ولذت إلى مسكن أمي الفلسطينية ( أم أيمن).
حال دخولي الباب لمحتني إحدى بناتها وأطلقت صرخة عالية وهي تنادي أمها وتحملق فيََ كغريب. جفلت مكاني حائرا. خرجت أمها مهرولة وهي تصيح ( يا خالتي) -هكذا تحب أن تناديني – (أنت أمانة أمك عندي، شو عامل بحالك! مع مين متخانق؟) لم أجب. كانت الدموع تحاول أن تفز من عيني، وعلى وجهي ابتسامة أحسبها باردة. كانت الدماء قد لطخت ملابسي. لم أعلم أهي من بعض جروحي؛ أم من اللذين تقاتلا، وهشم كل واحد منهما وجه الآخر.
(ياخالتي) – قالت- (أنت لساتك عجي !ما لك وها الزعران؟ أحكي لي مين عمل فيك هيك؟ ليش ما أخذت إخوانك معك) تقصد أبناءها.
لم أخبر أحدا بما حصل. قلت لها : (يامو! بتسلم عليك أمي). ولذت نهائيا بالصمت. شلحتني ملابسي ودفعتني إلى الحمام دفعا لتغسل عنى بعض الحزن.
قبل ليلة، كنت قد رسمت وإبنها (العائد توا من مهمة في بيروت) خطة لمستقبل كاد يرفعني على جدران الشوارع صورة باهتة إما شهيدا / مغدورا وإما مفقودا .
كان يقول لي: (ما لك بالدراسة خلينا (نطلع) ع بيروت كلها ليرتين ونصف بالسرفيس وتجد نفسك في تلال الناعمة، حيث تجد حريتك. تقاتل….)
ولم يكن ينقصني دافع جديد فأخبار الانتفاضة الأولى، والأغاني الثورية التي نحفظها عن ظهر قلب، للشاب الذي كان شعر شاربه وذقنه يغطي كل وجهه ولا تبرز الإ نظارتاه، تكفلت بذلك.
كنا نردد :
(رمانة رمانة ع خصري وكلاشنكوفي بإيدي ودنيا شعلانة
طيارات ترمي الموت غضبانة علينا ترمي والعون ماجانا
ردينا يلي بينرد واجهنا المدفع بالفرد
إشهدي يابيرووووت علينا…)
وشهدت بيروت على أولائك الذين كانوا وقودا للأبوات الأوائل وملأت صورهم الجدران مغدورين في معظمهم.
بعد عشرين ونيف من السنوات، لم ألتحق بكلية الآداب، ولم تأخذني شقوتي إلى تلال الناعمة، ولم أحمل رمانة على خصري أو أحس بزهو الكلاشنكوف. بقي من تلك الأيام هذه الأم الفلسطينية التي تذكرك بـ (إم سعد) في رواية كنفاني. هي وحدها من جلت الغشاوة عن بصيرتي. كانت تسمي الأشياء باسمائها. هي التي لم تغادر زيها الشعبي منذ هُجِّرت سنة ،1948 وكانت تقول:
(منذ أن وعدنا الرئيس عبد الناصر ببناء مخيم جرمانا في الستينات يوم زارنا ولم يفي بذلك لم أعد أصدق أحدا من هؤلاء.)
(هينا زيما نحنا من تعتير لتعتير، بنوكل خبيزة ،حشوة بطن، وبنشكر الله).
(وياخالتي ما تصدق أحد. كلهم زبد… وكانت تطلق كلمة أخرى تليق بهم).
أصبت ليلتها بإنفلونزا حادة. حملتني أمي على إثرها لأقرب طبيب، ودفعت من قليل مالها قيمة لعلاجي، وتكفلت بي لأيام ترمم حزني. تأخذني لأفراح الفقراء وتشركني دبكاتهم، وتغمز لي كلما لاحت عجية، علها تدخل عليَ بعض السرور، وأعادتني لأمي الأولى هدية سالما.
تلك الأم الأرملة الفلسطينية (أم أيمن) كانت “فاقدة للشيء وتعطيه” خلافاً للقاعدة.