جزيرة تاروت بين “جلجامش” والولي الصالح “الخضر”

0 1٬691

هاشم العلوي – السعودية-سماورد

لا اعرف من القائل: “إن المكان هو كل مكان، والناس في كل حكاية هم أنفسهم ناس كل زمان”.

على جزيرة تاروتعشتروت ومكان معبدها سابقاً” ثمة ما يوحي بأن كل جزء فيها يخفي إرثا حضاريا غابرا ينتظر من يفك طلاسم كنوزه لترى النور. الجزيرة التي مر عليها أقوام وأقوام، مقيمين ومحتلين وزائرين، تختصر مجمل تاريخ منطقة شرق شبه الجزيرة العربية  التي تسمى تاريخيا “البحرين”.هذه البوابة البحرية يلف تاريخها النسيان وتكاد تحتضر.

ما تبقى من تاريخها، بعضه مكتوب بصورة مقتضبة على بعض الصفحات الرسمية وغير الأكاديمية، أوالمنتديات الإلكترونية، والبعض الآخر- وجانبه الشعبي  بالذات- مخزون في صدور الأمهات وأهلها المعمرين.

 في بداية سبعينيات القرن المنصرم عايشت بعض ما تبقى من واقعها التاريخي الأسطوري؛ وكان ذلك بمثابة المشهد الأخير قبل انسدال الستار( المديني) فوقها.

تقول الحكاية: كان الناس يتوجهون (زرافات و وحدانا)  من قريتنا ومن جميع القرى المجاورة، التي تشكل منطقة ( الخط)/ القطيف- السعودية حاليا- للإيفاء بالنذور والتبرك والعبادة (لله تعالى) في مسجد العبد الصالح (الخضر) عليه السلام. الولي الذي كان يتجلى في كل مساء ثلاثاء على غمامة من نور (كما تقول الأمهات) ليبارك القاطنين فيها.

لكن قبل هذه الحكاية هناك حكاية يجب أن تحكى لتكتمل الصورة. تقول هذه الحكاية:

قبل ألف أو ألفين وما لا يحصى من السنوات قبل ولادة السيد المسيح عليه السلام، وبعد أن سار البطل (أنكيدو)

ملحمة-جلجامش
ملحمة-جلجامش

وحيدا في الطريق الطويل الموحش، متوسداً الأرض التي أنبتته في رقدة أبدية، ومخلفاً صاحبه وتوأم روحـه  (جلجامش) البابلي ملك ( أوروك) العظيم مفجوعاً لرحيله، تسلل الحزن واليأس إلى روح الملك الجبار، وأرعبته فكرة أن يموت ويخلف وراءه الأمجاد العظيمة (وهو الذي رأى كل شيء)، فصار يلح في البحث عن ضمانة للخلود (وأنتم تعرفون  الحكاية). نصحته راهبات أوروك بالذاهب إلى ( أوتونابشتين) الخالد الذي نجا من الطوفان الكبير، ليصف له إكسيراً لديمومة روحه وجسده. وكانت وجهته ( دلمون) – مملكة البحرين الحالية – وهي  الأخت  الكبرى لجزيرة عشتار في الخليج. عندما أبحر نازلاً من الرافدين (دجلة والفرات) مر بجوار جزيرة تاروت، وبجمالها خُلب بعضُ لبه ( أنه كان مشغولاً بفكرة الخلود)، غير أنه وبعد أن التقى وأوتونابشتين، الذي أخفق في إقناعه بفكرة تقبل الولوج إلى العالم الخفي من بوابة الموت، أعطاه  عشبة نادرة ترضي غروره. في طريق العودة خلبت تاروت هذه المرة، بخضرتها وزرقة شاطئها، كامل لبه فمال بمركبه إليها ليغتسل ويرتاح من عناء التعب، وهو منتش بما حصل عليه (أنتم تعرفون باقي الحكاية). نام بجوار نبع ماء عذب في الجزيرة،  نام ونام طويلاً حالماً، غير أن تاروت استطاعت أن تلقنه درساً لم يجرؤ أحد أن يلقنه إياه. تسللت حية إلى الجراب الذي كان يخفي فيه العشبة وأكلتها مسرورة وانسلت، فاستحقت الخلود بدلا عنه. أفاق مذعوراً، صال وجال، غضب وطاش فكره، فقد خسر فرصة الخلود الأبدي. كان أهالي تاروت يتفرجون صامتين على نزقه وهم لا يعلمون شيئاً. عرفوا ذلك فقط عندما وفدت عليهم الجميلة عشتار منفية عندهم، وذلك بعد أن عاد جلجامش إلى مملكته العظيمة أوروك موقناً أن الموت لا بد منه، وأن في الحياة خلوداً ولكن بشكل آخر. صب جام غضبه على الجميلة ربة العشق والجمال (ربما لأنه لم يعد شاباً ليتمكن من إغواءها) وحمَل المسكينة سبب موت صنوه (أنكيدو) الذي كُسِر ظهره بموته.

’’عشتار طاب لها العيش في هذه الجزيرة. أحبت أهلها واعتكفت في معبدها المقدس الذي بناه لها جلجامش، صابرة تجمع حولها “المساكين”’’

شاهدنا من الحكاية أن عشتار طاب لها العيش في هذه الجزيرة. أحبت أهلها واعتكفت في معبدها المقدس الذي بناه لها جلجامش، صابرة تجمع حولها “المساكين” الذين يعملون في مملكتها الصغيرة. يزرعون بساتينها ويغوصون في البحر لاستخراج اللؤلؤ. يشيدون لها  الحمامات والصوامع والطرق. يصنعون لها التماثيل التي تليق بمقامها. تقول الحكاية، أيضاً، أنها استأجرت سفنهم الخشبية المصنوعة من خشب الساج الهندي، والتي كانت تجوب  أعالي البحار انطلاقاً من ميناءها التاريخي القديم (دارين)، جالبة الحرير والمسك والعنبر ومختلف أنواع التوابل، قبل أن يعرف العالم طريق الحرير. ولأن الحكاية لن تنتهي، فلنعد لسيدنا الخضر وحكايته. قد يسأل البعض عن سبب مراوحة هذا الولي حول هذه الجزيرة وارتباطه بها، ولكن لنعد مرة أخرى للتاريخ ( هكذا يحاجج أهل هذه الجزيرة) وسنرى أن قصته وسيدنا موسى عليه السلام ( وحسب ما جاء في السير المحلية) أنها ربما دارت على ترابها، فالنبي لم يبرح حتى يبلغ مجمع (البحرين)! والسفينة التي خرقها الولي كانت لمساكينها الذين يعملون في البحر! فهل نحتاج لدلالة أبلغ؟ ومكان مسجده مميز، فهو متفرد بمكانه المرتفع  قبالة البحر، وحيد متقدم على خط  يشق البساتين، خلافاً لباقي المساجد التي كانت تتخذ خطوط طرق أخرى يبعد كل مسجد عن الآخر بعشرات الأمتار في اتجاه البحر، ومتخلفة عن مكانه،  تحفه أشجار النخيل وبساتين العنب والفواكه وتتوزع حوله الينابيع الصافية. مكانه المنعزل مناسب للاعتكاف والتعبد، اتخذه أسلاف التاروتيين ـ المسيحيون النسطوريون ـ مكاناً لرهبنتهم، قبل أن يعتنقوا الإسلام مختارين دون قتال. وبعد أن وصلت إليهم إحدى أولى نسخ القرآن الكريم، محمولة على عدد كبير من الجمال، بدأت آيات القرآن الكريم تصدح في أرجاء جزيرتهم، التي كانت والساحل المجاور لها خياراً آخر  عرض على النبي الأمي عليه السلام لدار هجرة، خيره إياه روح القدس جبريل الأمين بعد يثرب المنورة.

في بداية سبعينيات القرن المنصرم كنت اعبر (طفلاً) مع الأهالي ذات البحر الذي كان يعبره السابقون، إما بالقوارب أو على ظهور الحمير كلما سنح لهم جزر بحر طويل، قبل أن يشيد جسر بسيط يصلها باليابسة. كنا نعبر الجسر سيراً على الأقدام أو راكبين أولى طلائع حافلات(blue bird) التي كان ركوبها حلم كل صبي وصبية ذلك الوقت، حتى نرى البحر من أفق أعلى، ونتلو مرددين خلف الكتاتيب بعض آيات القرآن أو ننشد أهزوجة لعروس ذاهبة للاستحمام في الينابيع المجاورة لمسجد الخضر إيفاءً لنذر نذرته والدتها عليها قبل أن تزف.

كان الكتاتيب كلما ختم فوج من طلبتهم قسما من أجزاء القرآن الكريم يحتفلون بذلك، مهللين في مسجد الخضر ومولمين الطعام حوله لكل من زاره، أو كان يسكن بجواره. وإذا استُجيبت دعوة أم في ولدها أو بنتها لشفاء أو تيسير زواج، ذهبت وجيرانها للصلاة ركعتين في ذلك المكان تبركاً ونثرت ما تيسر من قروش معدنية وحلويات ليتلقفها الأطفال مهللين فرحين.

تاروت الآن، وفي ظل الابتعاد (الحداثي) عن الموروثات الشعبية والفكلور المحلي والتزمت الديني الذي يرى في طقوس التعبد الشعبي لله تعالى، من تبرك ونذور، شركاً محضاً، تفقد جذوتها التاريخية إن لم يقيض لها نهضة جديدة تعيد لها ألقها الأسطوري الغابر.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.