“بيان” مقدمة نصر سامي

0 306

نصر سامي

  ليسو سرياليين، السّرياليّة معهم تعتبر خطابا متقادما رخوا، لا شبيه لهم، هكذا بكلّ بساطة. أربعة يحملون كلّ مكر اللّغة، وكلّ لغط الحرب وعذاباتها، وكلّ صدأ السكاكين التّي تقرع في ليالي الخيانات الطويلة، وكلّ النياحات التّي لا تنتهي.. لا شبيه لهم، نسمّيهم ميليشيا لأنّنا يجب أن نسمّي الشيء لنعتقد أنّنا امتلكناه، أمّا الحقيقة فالاسم يبقى ظاهر النّهر، وليس ما يحدث في الخضمّ. ما يحدث في الخضمّ اندفاعة عاتيّة للشّعر بعيدا عن مستقرّ أموره، موجات تدفق من مصادر ثرّة بطروحات فارقة، تطرح منجزا عينيّا لا حلميا مثل أغلب مشاريع التّحديث الشّعرية العربيّة، لا يشبهون أحدا، لأنّهم يتحرّكون في ثقافة عارفة واعية بنت عصرها، هي نتاج لما ترفضه بقّوة، بنت للغرب وللشرق في آن، لكنّها ابنة العقوق والرّفض والسّخريّة والدّهشة والإدانات السّوداء، مشاريعها تقام في مقابل مشاريع، تقام كبدائل، وليس كتراكمات. تزيح هكذا بضربة نرد الفرديات الذّي تحكم تاريخ الأدب، كما ترفض تمركز النصّ ومحوريّة الحرف ودكتاتورية الإيقاع، تجدهم في أحيان كثيرة يستعيدون تمثّلات الفلاسفة الكبار، لكنّهم وهم يفعلون ذلك، يهملون عن قصد الإشارة إلى المصدر، يقتلون هم أيضا آباءهم. القتل، إيه القتل.. هو ذهب هذه النّصوص السّائل وفضّته النّاعمة. القتل وفعل الإماتة والتشنيع والتشظيّة. يصبح النصّ الذّي هو يتيم الدّهر الأبديّ معهم لا شيء، نلمح صراخه وهو يتدحرج من المركز إلى الهامش، أمّا ما يصعد إلى المركز فهو اليومي المعيش المخيف غير المرتّب العنيف والمقلق… هل يكتبون الشّعر الحر؟ سؤال لا يعني أحدا في هذا الليل الذّي لا تبصر فيه إلاّ آمالك وهي تتبخّر وتموت. هل يكتبون الشعر النّثري؟ سؤال آخر دون جدوى، للدبّابة إيقاعها أيضا، للمرض إيقاعه، للسيدا وهي تتنمّر في الجسد إيقاع أيضا.. تتساءل: وأنت تجد نصّا لا يستدعي أمامك المنجز الذّي تبنّته مؤسّسات التّحديث العربي الرّسمية، نموذج لا تقرؤه حين تفتح ديوان الشابي الهيمان في عوالم الطّبيعة السّاذجة، ولا في ديوان جبران الحائر الأبديّ ولا في كتابات شوقي.. حتّى السيّاب الذّي يتسرّب كالملاريا في جسد الشّعر العربي بصوته الملئ بمرارات الزّمان، حتّى أدونيس بكلّ آلته التّي حفيت من الاستعمال، حتى مشاريع التّحديث السبعينيّة والثمانينية في أغلب البلدان العربية، كلّ ذلك الفرديّ الذّي رسّخته أجيال وأجيال من معلّمي التغييب ومنظّري النموذج والنّسج على مثال سابق. تتساءل: هذا الشّعر لا يحميه أحد، شعر عار، لا يخفي سوءاته. شعر بكر، كالخيانة، كالقتل، كصرخة الاغتصاب، كالوحل.. شعر يشتغل بوسائل عمل غير اللّغة ووسائلها التّي كفّت من عشرات السنين عن الإدهاش والخلق، هذا الشّعر، هذا هو عين الشّعر. لا تتردّد لحظة، تبدو الرّؤية لديك وأنت تمرّ من شاعر لآخر واضحة، تقرؤهم فرديّا على الورق، لا حلّ آخر أمامك، ثمّ تجمعهم مرّة واحدة. تكفّ عن النّظر إليهم كأفراد، تتحوّل إلى جسد بلا ملامح، يتغيّر مكانك، تدور كاميرا سوداء كبيرة بعدسة مكبّرة، ترّكز عمقيا عليك، تظهر جسدا وسط أجساد كثيرة لنساء وبنات وأولاد ورجال بلا ملامح، ثمّ ترى نفسك وقد تحوّلت إلى ضحيّة، تصيبك الرّصاصات الأربع في مقتل، تسقط وسط النّاس، هناك حيث قرّرت ميليشيّا الثقافة أن تعمل، لا في صالونات بارونات الثقافة. هناك حيث الموت يجول مثل قطط اللّيل الجائعة.

     لديهم السمّ، الكثير من السمّ، لا أحد يتحدّث عن التّرياق. لديهم مسرح السّواد بكامله، السّواد الذّي يلفّ السياسي والاجتماعي والفنّي… لكنّهم هم بأنفسهم قطع ظلام حقيقيّة تساقط أنفسا، العفن والعطن واللوثة والنّظرة التّي تسبق الطّعنة، والصّرخة التّي تسبق التّفجير ونصف الباب الموارب دائما بانتظار من يدخل فاقدا رجله أو أصابعه أو أهله.. كلّ ذلك يتنامى في العمق ويطلع زهره الأسود، ما من صور خياليّة، الخياليّ حاضر بذات نفسه، ما من ترميز، الرّمز عبارة واقعيّة أمام زخم البلاغات السّوداء الذّي ينبت في أرض الواقع، ما من إيديولوجيا، بل حراك عات منهك يعضّ ويخبّش، هكذا يوضع السكّين على الطّاولة ويوضع الفقير في الرّكن ويوضع تحت أضواء النيون الغامرة بطن مالك العقار القوّاد. ما سيحدث لا يحتاج إلى كلّ ماعون الجزّارين الذّي يستعمله نقّاد الأدب، ما سيحدث واضح: الطّعنة التّي تولد كنبوءة في يد الفقير، بعيدا عن آكام النبوءات وجماليات السّحرة واشتراطات شرطة اللّه الموزّعة في كلّ مكان.

     تنبت الحقيقة من دون اسم، فقط لحمها المنتهك المزرقّ تحت الأحذية، فقط أطرافها المقطوعة، فقط نياحاتها المخيفة المحمّلة بأجيال من الآلام، فقط النّهش بمخازيه وحقاراته.. لكنّها الحقيقة، الحقيقة، نعم، الحقيقة التّي تنزّ دما، وتضحك في دمائها. الحقيقة التّي يكبر جسدها في اليوم الواحد آلاف السّنوات، الحقيقة التّي تزرعها النسوة كالجرجير تحت النافذة الخلفية.

     أتذكّر السيّاب، وأنا أمرّ بشعرهم، السيّاب العظيم، السيّاب بكلّ مراراته وبكلّ أسئلته وبكلّ مخياله الحرّ قبل أن تحوّله المدرسة إلى قيود، أخذوا منه ما ظلّ من شعره مشتغلا في صميم هذه الثّقافة وتركوا ما هو فيه منذور للموت والتلاشي. ومثل ما فعلوا معه فعلوا مع كلّ السورياليين، إذ نتلمّس في نصوصهم صدى عميقا حيّا لما أصبح من صميم الثّقافة البشريّة وأهملوا تماما ما هو منذور للمحو في تجاربهم. بهذا المعنى ميلشيا الثّقافة وإن رفعت معول الهدم لكلّ ما هو فردي وجمالي ومستقرّ ومعلّب ومستهلك فإنّها تمتدّ كفعل تنام لما هو من صميم الوجود تاركة القشرة. لهذا من المهمّ، إذن، أن نقول أنّ هذه النصوص منخرطة بعمق في تيّارات الرّفض الكبرى، الرّفض بعد المعرفة، وليس سرّا أن الشعراء الأربعة هم دون أيّ شكّ من “ماكينات” القراءة.

     الكشف والتعرية لكلّ المغاليق والأستار تتمّ عندهم باللّغة أساسا وأن نوّعوا المحاميل، وهنا المفارقة، فالغة ليس غير آلة حجب حقيقيّة بما رسّخته فينا عقود من التعليم السكولاستيكي من أمور جعلتها وسيلة حجب وتغطية بدواعي التّطوير حينا ودواعي النخبويّة أحيانا أخرى، وأمعنت في الإقصاء والحجب، وصار عنوان الإبداع أن تكون غامضا وبعيدا عن المتلقّي، كيف استطاعوا أن يكشفوا بآلة هي نفسها وسيلة حجب وتغطية وكذب بتاريخ مثقل بالكذب والمدائح وآداب السّلطان؟ كيف استقام لديهم الحرف رصاصة دون مسدّس؟ ووحي ولا غار؟ وضوء ولا سراج؟ طبعا كلمات من نوع ضوء وسراج ووحي وغار هي مجرّد كلمات غير ناضجة لأنّها لم تعش في العراق في هذه الفترات، وإلا لكانت تغيّرت وبدّلت من هيآتها وتوحّشت. إنّهم يكتبون في ظلال الوحشة والخوف من كلّ شيء وأساسا من اللغة، ومن القدامة التاريخية وممّا تكلّس من مبتكرات الحداثة وما بعدها. ولهذا ونظرا للوعي بأنّ اللغة المكتوبة قاصرة أو على الأقلّ معيقة لرسالتهم فإنّهم ارتموا في حضن الميديا والنات وفضاءات الصّورة، ما كان مرفوضا في النصّ صار مرحّبا به في الفضاء الحقيقي أو الافتراضي، تغيّرت اللّغة؟ أو هو مجرّد وهم؟ فللتكنولوجيا أيضا إكراهاتها وكيدها؟ المهمّ أن ميليشيا تهرب باستمرار نحو نوع من التجريب الذّي لا يعبأ بالحدود ولا بالوسائل ولا بالمكان ولا بالزمان. ويعمد إلى تشتيت البصر، وعرقلة التقاليد، وحقن تفاحة الرضى بدود السخط.

     تقنية العرض الشّعري والقطع مع واحدية الجنس ودمج المكتوب بالمرئي بوسائطه البسيطة مثل الهاتف والكاميرا العادية.. قلق لا أكثر، هرب لا أكثر، وعي بأنّ التّقانة، التّي هي أيضا نتيجة عبقرية للفكر الفردي الذّي يرفضونه، قادرة على حمل الوجود موحّدا ومحمولا على آلات حدباء فوق أعناق أربعة شعراء.

     محاولات دؤوبة للقطع مع ثقافات النّخب التّي جرّت علينا الكوارث بوسائل غير الوسائل القديمة، ورغبة طاغية في التواصل مع الحشود والقطعان، لا مع جمهور الصّالونات. مع وعي حاد بالمشاركة لا التلقين، المسرح هنا ليس غير استعارة لمشهدية ربّما لا تتوفّر فيها بديهيات العروض المعلّبة التّي رسّختها العادة، ولكنّها مشهدية خاصة ولها أسئلتها، وهي ليست غير استعادة لا واعية ربّما لتقاليد فرجة هي في صميم ثقافة العراق من جلجامش إلى اليوم. في هذا الزخم ليس مهمّا ما ذا تكتب؟ ما بحر قصيدتك؟ وما إيقاعها؟ الدم حين يسيل لا فائدة في السؤال عن نوعه. العمر أيضا غير مهم، التجربة أيضا لا تعني شيئا، ثمّة عصف، ثمّة قلق يستعمر فينا قلق الكلمات، ثمّة فراغات بحاجة إلى الملء، ثمّة نصّ ميت بحاجة إلى مراث، ثمّة أنكيدو يسقط عاريا دون عشيبات ودون سفرات سبع ودون شعر.

     في إيطاليا وهو بلد ولدت فيه أعرق السرديات الكبرى في تاريخ الأدب الغربي حاول بعض الرّوائيين أن يطيحوا بكلّ المواضعات، لهذا كتبوا بعيدا عن الإيديولوجيا وعن سقف البلاغات التّي تحرسها المؤسسات ويحرسها رجال اللّه، قيل عنهم إنّهم يعيدون إنتاج الواقعيّة القذرة، أمّا هم فلم يكن أمر التّسمية يهمّهم، ما كان واضحا لكلّ القرّاء أنّ جيلا رومنطيقيا عصابيّا بصدد التفجّر وأنّ روايات كبرى بصدد كتابة سيرة “أولاد إيطاليا المحروقين”، الذّين استطاعوا الاحتفاظ بشبابهم الأزلي كما وصفهم أمبارتو إيكو.

     يشكّل هؤلاء الشعراء الأربعة حلقة استطاعت إلقاء حجرة في بركة الستينات والسبعينات الرّاكدة، روصولا إلى اليوم، سخرت بقهقهة غليظة من أخلاق العلو والدقّة والتكرار إلى ما لا نهاية، قالت بوضوح: لقد أفلسوا، ألا ترونهم؟ واخترقت غابة الجذور المسوّسة، وفي اختراقها كشفت بوضوح أنّ الشرّ وليس الخير هو قلب العالم، كشفوا بوضوح أن كونا ممّا عشناه على أنّه نتاج العقل العراقي والعربي ليس غير ستارات لهشاشات لم تصمد أمام اختبارات الحروب التّي عاشتها أجيال في العراق، لقد حجب العراق الحقيقيّ بواسطة لغة تملّكها “ملوك السوق”، ودور نشرهم المتغوّلة، وبلاغاتهم المترهّلة، لقد حجبت سرديات العراق وشعرياته أجيالا من المبدعين. ما كان يسوّق على أنّه الأفضل لم يكن الأفضل، ما كان يقال إنّه روح العراق كان راء فقط وربما نقطة صغيرة من الأرواح التّي تسكن في العراق، ثمّ ما لنا وللأرواح في عالم الجثث الغليظة التّي نعيشه الآن؟

     ثمّة حوار يتمّ وعلينا أن نصغي إليه. إنّ جوهر العراق محلّ صراعات جمالية وفكرية وفلسفية ودينية… وهذا الصراع لا مجال فيه لشيء نهائي ولا مجال فيه للحياد. فهو جوهر متغيّر، وصناعته متأكّدة بأيدي هذا الجيل.

     يمكن بالطبع للمتابع لميليشيا أن يكتشف عديد النقاط التّي تشكّل رؤيتهم، وهي بالقطع ليست جديدة في مجملها إذ يوجد حراك مشابه في تونس في جيل التسعينات وفي المغرب وفي بلدان أخرى بزخم أقل. وهناك سعي لزعزعة الإرث الكلاسيكي وجبروت حرّاسه نحو نصّ يتجاوز الفردانية إلى الجمعيّ متوجّها إلى الجموع لا إلى النّخب. كما اهتموّا بالآداء الشّعري متجاوزين الأماسي الفردية وحلق القراءات المتعارف عليها إلى نوع من العروض التشاركيّة التّي يحتفى فيها بالجسد لا بالشاعر، بالصوت لا بالقصيدة، بالآلام وحقولها المزهرة لا بالنصّ، مع سعي للاهتمام بالشعرية لا بالشعر.. ولقد حاولوا مثل غيرهم في بعض الدول العربية اختراغ بلاغة تشبههم، بلاغة واقعيّة، بعيدا عمّا زرعته الحداثة فينا من وسائل الإخفاء الكثيرة من الاستعارات إلى الأقنعة إلى الأساطير. هذه النقاط في رأيي ليست مهمّة أبدا، المهمّ حين تجلس بعد تعب يومك لتقرأ لخنجر مثلا.. يوجعك هذا الشاعر، يجعلك تفيق على خدعة أنّك ابن القرن العشرين، وابن الحداثة، يصوّر لك حقيقة الوحش الكامن فيك، يبرز لك صرير الأسنان المرعب، وعظام الناس الذّين تقطّعت أوصالهم في لعبة الحرب، ويكتفي بترتيب القتلى، أو ما بقي منهم. هذا أحدهم. ما يعني لك فارقا ليس النقاط، بل كيفيات حضورها في النصّ، نصّهم وحياتهم، جوهر حركتهم أن يكونوا واقعيين في مجتمع يرفض أن يكون واقعيا. كيف تكون واقعيا في مجتمع يتحوّل إلى محرقة، كلّ يد فيه عظم أكل لحمه وعين فقأت وشمس مغتصبة، هذه استعارة يا خنجر؟ ماذا نفعل إن تسرّبت؟

      ليسو سرياليين للأسف، لو كانوا سرياليين لشعرنا بالاطمئنان، ولارتاحت ضمائرنا، أمّا جغرافيا القبح التّي تسيّجها تواريخ من الفضاعات المليئة بالموت والقتل، فلا راحات فيها. افتح الصنبور سترى الدم، احفر حفرة سترى الدم، دقّ مسمارا في الفضاء سترى الدم. هل هناك سريالية أكثر واقعية من هذا الواقع؟ لقد كتبوا واقعهم، هل لذلك أيّ قيمة؟ لطالما كتب الكتّاب زمنهم؟ ما يبدو مثيرا مع ميليشيا أنّهم يكتبون الواقع منزوعا من تفسيراته الموضوعة مسبقا، من دون سدنة التفكير ووجهات نظر محلّلي السلط القائمة، يريدون أن يفسّروا، ثمّ ماذا بعد التفسير؟ هل سيتوقّف الموت؟ هل ستكفّ أنهار الدمّ؟ هل سيتمكّن العقل الذّي هو ابن لثقافة غربيّة أساسا أن يرفض نتائج معقوليته الزائفة؟ وأن يتبرّأ منها؟ وأين سيجد مستقرّا وكلّ أرض تنوء بمأساة أبناء الخراب. حين أجلس رامبو الجمال على ركبتيه، كان يوجد أيضا نحيب عميق في أمكنة ما، وعزلات وفراغات، وأنين صامت عميق ونياحات بعيدة، وموت مجاني وتفخيخ وحروب، لكنّ رامبو كتب الحبّ والحياة والجمال، وهو يطلّ على الجحيم الأرضي، ما أجده حقّا جديدا هو حساسية هذا الجيل الجديدة كلّيا، والرّافضة كلّيا، والسّاخرة كلّيا، والمتنافذة مع مشاريع مشابهة في كلّ مكان يكتب فيه شعر، وتبنى فيه حياة.

     وفي ختام كلمتي يحضرني نصّ من كتاب “فصل في الجحيم” في ترجمة لرمسيس يونان، أجده مكتوبا في الأفق الذّي تكتبه ميليشيا، ألم نقل من قبل إنّ لهم محبّين وأشباها في الما قبل والما بعد.

     “في كلّ بقاع الأرض
في سالف الأيام، ما لم تخني الذاكرة،
كانت حياتي وليمة تتفتح فيها كل القلوب، وتسيل كل الخمور
وذات مساء، أقعدت الجمال على ركبتي- فألفيته مرَاً- فهجوته.
وتسلحت ضد العدالة.
وهربت. أيتها الساحرات، أيها البؤس، أيها البغض، أنتم مستودع كنزي!
وتوصلت إلى محو كل أمل إنساني في نفسي.
كل بهجة أخنقها، ووثبت وثبة وحش مفترس.
ودعوت الجلادين كي أقضم، ساعة فنائي، خشب بنادقهم.
ودعوت البلايا كي تكتم أنفاسي بالرمل والدم، كان النحس إلهي.
واستلقيت في الوحل، وتجففت بهواء الجريمة، وكثيرا ما داعبت الجنون ولم يجلب لي الربيع سوى ضحكة الأبله الشنعاء.
لكن، من عهد قريب، إذ وجدت أني موشك على لفظ آخر شهقاتي، فكرت في البحث عن مفتاح وليمتي السابقة، علني أسترد شهيتي.
المحبة هي هذا المفتاح، هذا الوحي يثبت أني كنت أحلم.”

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.