أسرار الطقوس
عزيز العرباوي – المغرب
توجهنا إلى الموسم، وكلنا أمل في إيجاد شيء ما يغرينا ويخرجنا من براثن الروتين، الذي كبس على أنفاسنا. كنا أنا وصديقي مملوءين بالرغبة الدفينة في معرفة أسرار ذلك التقليد، الذي دأب عليه سكان هذا الدوار الفقير. لم يكن أحد منا يعرف حقيقة هؤلاء الضعفاء الجهلاء في مدى اقتناعهم بهذا التقليد، الذي حافظوا عليه منذ عقود. الطريق مملوء عن آخره بالراجلين، وكذا بكل وسائل النقل من سيارات وشاحنات. استغربنا كثيرا من هذا الأمر. يوم ليس كباقي الأيام. سعادة عظيمة تبدو عليه وجوه الصغار والنساء. مسحوقات تجميلية، وعطور تتعالى روائحها في الفضاء وتمتزج بالهواء امتزاجاً غريباً، كأننا أمام معمل لتكرير البترول. واستمررنا في الطريق، نلوك الاستغراب والشرود والتردد، بينما الصغار يتظاهرون بالفرح السامي ويبدو عليهم التحرر من قيود لا يعلمها إلا الله وهم أنفسهم.
هذه القيود قد عايشتها يوم كنت طفلا مثلهم، لكني لم أكن أقدر أن أحدد هويتها لصغر سني، ولعجزي عن إعطاء معنىً أكيد لشيء مبهم. الطفولة شيء آخر في عمر الإنسان إلا لمن لا يقدر أن يعيشها في التحرر. صديقي لم يكن يعرف آنذاك فيما كنت أفكر، لعله هو الآخر كان يسترجع طفولته، وهل بها ما يتذكر فعلا ويستحق التأمل قليلا أم لا …؟
كان الطريق شائكاً وصلباً، وعيوننا مملوءة بالأمل الجديد في اكتشاف مكنونات هذا الاحتفال المعتاد. لم يكن عقلنا يفكر في شيء سوى في الحصول على حقيقة كانت غائبة في بال الكثيرين. كانت الشمس محرقة تلدغ بأشعتها رأسينا وجسدينا النحيلين. بعض الغيوم تنتشر بصفحة السماء الزرقاء متقطعة كأنها بقع خضراء بصحراء قاحلة. أغلب الأطفال كانوا قد وصلوا مكان الموسم بزاوية سيدي علي بن احماد، وانتشروا بين الباعة والزوار، مثل حبات الشعير تختلطا بأكوام القمح بالبيدر، فرحين بما يرون، غير آبهين بطقوس الموسم الدينية التي انهمك فيها الرجال الدراويش والفقهاء .
كان الاندهاش هو أول نقطة غير معتادة. استولى علينا دون إنذار، وانسحقنا بين المتجمهرين نراقب تلك الطقوس باهتمام مبالغ فيه. كان الرجال الدراويش يعيدون كلمات لم نفهم منها شيئاً، ولم نسمع منها حرفاً لكثرة الألسن التي تصيح وتدعو. تعمقنا أكثر بين المتجمهرين، رغبةً منا في معرفة حقيقة هذه الطقوس الغريبة علينا وعن ثقافتنا. لم يسبق لي أن رأيتها في موسم آخر، هي تختلف كليا عنها. سمعت من سكان البلدة من يقول أن هناك امرأة من الدوار كنات قد قتلت حمارا وعاقبهم الله بسنين قحط وجفاف، فأملى عليهم أحد الفقهاء بذبح الذبائح تقربا إلى الله، فما إن فعلوا ما أمرهم حتى بدأت السماء تمطر سيولاً جارفة ومطراً غزيراً. سمعت آخرين يقولون بأن امرأة كانت قد مارست منذ زمن بعيد الجنس مع حمار لها، فماتت على إثرها؛ فاتخذ سكان الدوار على أنفسهم هذه الطقوس تقرباً إلى الله ليغفر الله لها مادامت مخطئة ومذنبة .
تمكنا من إحاطة الموسم كله بنظرات مختصرة، وعقولنا مازالت تتابع الطقوس باندهش شديد، اقتربنا من رجل بدين تبدو على سماته أنه من العارفين بكل شيء، وأنه من سكان الدوار الذي اعتاد الاحتفال بهذه المناسبة المجهولة. كان الرجل يتابع الطقوس باهتمام شديد، وقلبه متعلق بما يقال من أدعية. لم يكن من بداً إلا أن نتبادل معه الحديث، ونستفسر منه عن كل شيء استعصى علينا معرفته:
– اسمح لنا يا سيدي أن نسألك ..
– تفضلا، أنا رهن الإشارة، لابد أنكما غريبان عن الدوار؟
وكأنه في منافسة كبيرة، قال له صديقي يونس:
– نحن نعمل بدوار قريب من هنا، لكننا نريد أن نعرف أصل هذا الاحتفال وسبب الحفاظ عليه!
وبطريقة العلماء المفسرين افتتح الحديث:
– أنتما تعرفان أن المولد النبوي قد مضى عليه أسبوعاً كاملاً، ومن هنا يظهر أن هذا الاحتفال هو بمناسبة عقيقة السيد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وقد ابتدع هذا التقليد الديني قبل عدة عقود لا أعلم كم عددها، الولي الصالح سيدي علي بن حماد، وهو من آل البيت وينتسب إلى الشرفاء أحفاد المولى إدريس الأول مؤسس الدولة الإسلامية الأولى بالمغرب.
وقاطعته بطريقة لبقة:
– يعني أن كل ما يقال عليه من بدع وكلام احتقار بأن امرأة قتلت حماراً أو مارست معه الجنس، وبأنه تقرب إلى الله بالقرابين طلبا للمغفرة، ليس إلا كذباً وبهتاناً مبيناً؟
وبقليل من الاعتراض المفعم بالابتسامة واللباقة رد علي:
– يا سيدي، أنت أعرف مني بالوضع بحكم عملك، فالجهل متفشٍ بما فيه الكفاية. الناس ينجبون أفكاراً من مخيلاتهم لا تمت للحقيقة بصلة. كل واحد يدلو بدلوه في الأمر وكأنه عالم تاريخ ودين. المهم هو الحقيقة التاريخية، هذا الاحتفال الديني يحضر إليه رجال دين من أماكن عديدة بعيدة من المغرب كله، ويدوم ثلاثة أيام. تذبح فيها الذبائح من الأبقار، ويقرأ القرآن وتكثر الأدعية والصلوات، وتعم الصدقات والهبات. أما هذا الذي ترى من بدع في البيع والشراء، والعشق الحرام الذي يكثر بين الشبان والفتيات، وهذا الخروج عن الطريق السليم والمستقيم وعن تعاليم الولي الصالح سيدي علي بن احماد، وكذا الغرق في الملذات والشهوات الدنيوية، هو من ابتداع الناس الجاهلين بحقيقة هذا هذا الموسم الديني والبعيد عن جادة الصواب والطريق الصحيح .
ثم سألته :
– ولماذا يفعل الناس هذه الأمور مادام الاحتفال هو تقليد ديني محض؟
وبشيء من التوتر:
– قلت لك يا أخي إنه الجهل والكفر من فعلا بهم هذه الأشياء كلها، وأعرقهم في وادي الشهوات والملذات الزائلة …
ثم قاطعه صديقي يونس بلغة بسيطة يسأله :
– وماذا يقول هؤلاء الدراويش الآن؟ ولماذا يحملون تلك الرايات؟
وبابتسامة رقيقة أجابه :
– إنهم يصلون على النبي الكريم عليه الصلاة والسلام فقط، ولا شيء غير ذلك، أما حملهم للرايات فهذا تقليد فقط دأبوا عليه، يعني الكثير بالنسبة إليهم .
ساد بيننا – بعد ذلك – صمت طويل، واكتفينا بمراقبة الوضع والتعليق عليه في أذهاننا. لقد تمكنا أخيراً من معرفة أسرار هذا الموسم، وهذا ما أتينا من أجله وتركنا عملنا في سبيل اكتشافه .
لم يعد لنا من هدف نبقى من أجله في هذا المكان الغارق في المتناقضات. كان الطريق الشائك ينتظرنا، وكنا نفكر في ولوجه كثيراً، بينما الأطفال الصغار يعجبون بما يرون، ولم يتزعزعوا من مكانهم إلا بعد حلول الظلام، حينها كنا قد وصلنا بيتنا وجلسنا نستعيد الزيارة من جديد، فاقترب تفكيرنا من نقطة سوداء في ذلك الموسم كانت هي النهاية !!