دنيا*

0 629

كريم فريد -مصر

الآن فقط فهمت سر احتجابها الطويل، وكراهيتها للصور… الأمر منطقي.

لم أضغط على جرس الباب، ولم تسأل هي عن الطارق، كنا على ميعاد… ميعاد قديم ومؤجل، وأنا لم أتأخر يومًا على ميعاد لامرأة.

بهدوء انفتح الكالون، وتقهقر الباب إلى الخلف قليلًا، وتوارب في انتظار يدي؛ التي لم تتردد، وضربته باندفاع، فأنفتح.

خفضت نظري بحكم العادة، وقفزت إلى الداخل مثل أعمى يرى الأشياء بأنفه، ويقدر الطريق والخطوات بآذنيه… لا آثر لنفس، ولا دبيبًا لأقدام، وحيدًا وظلي في دهليز؛ نفتش عنها، وأبحث وحدي عن مفتاح سحري بكفي!

– أقفل الباب بالراحة، وأقلع (الشوز)

خفوت صوتها لم يحجب الغواية، ولا خنقة الدهليز منعت رائحة الحليب.

رأيتني بنصف وعي، أو بدون، أنصاع لأوامرها، وأنحني، وأخلع الحذاء عن قدمي، بعدما أقفلت من خلفي الباب، وحين استقمت لم أجد أثرًا لها أو لظلي!

كنت وحدي في المرآة، ضئيلًا وخافتًا كما الضوء، والمرآة على صغرها كبيرة ومتسعة كما الجدار.

أعوام مرت وهي تراوغ، تتردد، تتراجع، تهرب من الأمر، وتختفي لشهور، ومن ثم تعود، أعوام مرت وأنا قوس قزح انتظر المطر، وأحلم بلحظة اللقاء، وأرهبها، وأعدها عيدًا في نفسي.

– أزيك

كلمة محايدة، اختارت أن تكسر بها الصمت، وتمسح عن عيني نظرة الارتباك، باعتقاد خاطئ، ووهمي بأن الاضطراب البادي في عيني يرجع للمفاجأة.. لا الشوق أو اللهفة، أو حتى التردد في اختيار كلمة مناسبة، وفعل يليق بلحظة منتظرة كهذه.

أيهما أصدق القبلة أم الحضن؟!

دنيا مثل أي امرأة أربعينية لا تثق بجسدها، ولا بمشاعر الرجال، ولا تفهم أن لين الروح يكفي، والقرب يطيب، والحسن في وجهها يملئ العين، ويطغى على أي بدانة وترهل.

استجمعت ما في نفسي من شجاعة وتوق، واقتربت خطوة بعزم على كسر الحياد، واحتضنها، لكنها ابتلعت جرأتي في اللحظة الأخيرة بابتسامة، وأمسكت بيدي، وأجلستني أمام التلفاز.

– وحشتيني

قلتها دون إرادة، لا لم أقلها، هي خرجت بمفردها كما النفس، ونبض القلب، وأفكار الليل المؤجلة، فانبسطت ابتسامتها، وارتاحت، فأنفرج عن صدري القلق، ورحت أتابع خطواتها المتأنية وهي تدلف إلى الداخل دون تعقيب أو رد.

غابت لدقائق؛ قلبت فيها الجدران، فلم يلفت انتباهي سوى صورة قديمة متوارية خلف زجاج المكتبة… كنت على يقين بأنني رأيت تلك الصورة من قبل، لكنني لا أذكر أين بالتحديد!

بالطبع لم ترسلها دنيا، فأنا أحفظ كل صورها على قِلَّتها، أمعنت في مشاهدتها مرارًا ومرارًا عبر السنوات.. ثلاثٌ وعشرون صورة بعدد سنوات العمر؛ لا جسد، أو ملامح مكان، أو حتى مرافق، ثلاثٌ وعشرون صورة لذات الوجه الندي؛ أنّست بها وحدتي، وفكرت مئات المرات في التخلص منها، حرقها ودفن رمادها في أبعد مكان عن قلبي، علّني أنساها، وأنسى غيابها المتعمد، لكنني كنت أتراجع في كل مرة.

تقاسيم الوجه في صورة المكتبية بقيت دون اختلاف… أنف الأرنب، والعين الناعسة الحنون، والشفاه اللدنة المكتنزة… لكأن الزمان لم يعبر تلك الصورة، وأبقى وجه الشابة رطبًا ناعمًا، بخلاف الواقف إلى جوارها، في انتباه وصرامة، وهيبة لم يخدشها الزمن أو الغبار أو التواري المتعمد.

عادت وفي يديها كأس عصير، قدمته لي، وانتظرت بتصميم حتى فرغت من كامله، وفرغت عيناي من تفصيل جسدها… الروب الشتوي المفتوح لم يبخس صدرها العظيم حقه، ولا حركاتها الرتيبة سترت نفور الحلمتين، أو استدارة الردف، والميل عند تخوم الوسط.

– أنا حضرت لك الحمام وهتلاقي البيجامة على الفوتيه، يا رب تطلع مقاسك

مازالت تهرب، وتتردد، كل تلك السنوات مرت وها نحن ذا… حمام وبيجامة!

فرغت من الحمام سريعًا، وتعمدت ارتداء البيجاما الحرير على اللحم، لابد أن أظهر لها بعض الشجاعة، من غير المنطقي أن أرتدى ملابس داخلية، هي بادرت بالإشارة، وألقت (الكارت) الأول، وخلعت مشد الصدر قبل مجيئي، ونسيته بتعمد على الفوتيه.

– زي ما توقعت خارج وشعرك مبلول، كده تاحد برد

باغتتني حدتها، كانت بانتظاري، أنا لم أخبرها يوما عن عاداتي، كيف عرفت بأمر الشعر المبلل؟ من قال لها؟ هل قال لها باقي الأشياء؟ هل تعلم بأنني ..

دون أذن مدت يديها إلى رأسي، وراحت تنشفها بإتقان وثبات، فشعرت باستمتاع غريب، ومفتقد! وودت لو كانت معي بالحمام، لو أنها حممتني، لو أننا ألتقينا من قبل، منذ سنوات بعيدة، لو أنها لم تعند، لو أنها منحتني سكينة مثل تلك، ولم تتركني أعاني.

أنهت مهامها سريعًا وأمسكت بيدي للمرة الثانية، وأجلستني فوق الطاولة، وملئت طبقي باللحم، وأكتفت هي بملعقتين من السلطة، وقليل من حساء؛ لم تشرب منه شيئًا، وأخذت تتطلع إليّ بحنان، وتصميم على تناولي كامل الطعام دون تفريط أو نقصان.

ها نحن ذا، شربنا وتحممنا، وأكلنا، وعدنا للجلوس مرة أخرى أمام التلفاز.

أشعلت سيجارة؛ فبدا على ملامحها الضيق، للدرجة التي كدت أعرض فيها عن الأمر، لكنها صممت، وسمحت لي بواحدة مع فنجان القهوة، وأقدمت على مشاركتي تباسطًا، فبدا التدخين غريبًا على رئتها بقدر سعالها، ونفورها الواضح من رائحة الدخان، وطعمه التي كسرته بتفاحه، اقتسمناها.

– كنت فين كل السنين دي؟

قلتها بصدق، فردت بحنو.. أنا هنا.

لم يعد أمامنا مجالٌ لهرب أو تأجيل، استنفذَتْ كل حيلها، واستنفذتُ صبري، الدور الآن على جرأتي ولا شيء آخر… اقتربتُ بتصميم، وعيني معلقة بعينها، وأمسكَتْ بيدي اليد الدافئة، ولثمتُ باطن يدها بهدوء ورغبة، فلم تبدِ ضيقًا، وحافظَتْ على ابتسامتها المطمئنة، رغم الاحمرار بالوجه، والاسترخاء البادي على العينين!

لم أتسرع كما العادة، الفرصة لن تتكرر، والامتحان من سؤال بليغ لا يحتمل تردد أو أين من إجاباتي الخاطئة! تمهلتُ لثواني ومن ثم تحركتُ بروية ملّاح يسير وسط غبش الفجر، ولم تحاول هي الهرب، نحن على ميعاد، ميعاد قديم ومؤجل منذ سنوات.

دعتني بارتياح إلى غرفة النوم، حيث السرير أبرح، والجو أدفئ، والضوء أكثر شحوبًا، وإدراكًا لحاجتنا، فسايرتُها، ودلفتُ معها إلى الداخل، وخلعَتْ عنها الروب الشتوي، وخلعتُ عني البيجاما، ورفعتُ عنها البلوزة الخفيفة، فطلع البدر وصاحبيه، وظهر، وبان حليمًا عامرًا.

استلقت دنيا بهدوء فوق الفراش، فتمددتُ جوارها، وتركتها تقربني، وتلف رأسي بساعدها، وتلقمني الثدي الدافئ بهدوء وتأني، لأرتوي، وأغمض عيني في استسلام، وأموت في سكينة وسلام.

*   هذه القصة ضمن مجموعة يتم التحضير لإصدارها بداية العام 2021.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.