نورس وقرش مثقوب

0 566

محمد العرفي- مصر

اللحظات التي بدت قليلة للغاية بين مفارقة أقدامه للحافة وترنحه في الهواء، مرت عليه كأنها دهر؛ استرجع خلاله كل ذكرياته وأفراحه وأتراحه. سوف يبدو للمرأة التي لمحته وهي في حوض الإستحمام أثناء سقوطه كنورس مهيب، ولسوف تحكي لصديقها عن قسوة صائد الطيور الذي سلب هذا الوديع حقه في الحياة، سيبدو مهتما لما تقول بينما تعلو وجهه كآبة غامضة تخفي خططه لاستدراجها للفراش، إلى أن بهتته “سذاجتها”
أما الأستاذ محمد محمد محمد، الذي يعمل لدى شركة التأمين القابعة في الدور الثالث عشر، سوف تعاوده الهلاوس، ويؤنبه ضميره لأنه صرف أموال الشركة في طرق غير شرعية، عندما يرى الرجل ذو القميص الأبيض والبنطلون الأبيض والحذاء الأبيض وهو يتطوح في الهواء. بعد ساعة سوف يعود إلى منزله حائراً، ويمسح بعض الدماء التي علقت بحذائه في الدواسة الكالحة الموجودة أمام الباب. سيظل يحك الحذاء ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ظناً منه أنه يتخلص من وساوسه.
سوف تتطاير بعض الدموع على واجهة المبنى الزجاجية، يمسحها عامل النظافة لاعناً “التكييف وما يحصل له من تحت راسه” ثم يخفض صوته كي لا يسمعه أحد فيبتر قوت يومه.
قبل الارتطام بثوانٍ معدودة سوف يتذكر- هذا الذي حسبوه نورساً- طفلاً يعتلي شجرة توت سامقة في ذمام قرية “بني عبيد-المنصورة- الدقهلية-جمهورية مصر العربية”..هكذا بالضبط كان يكتب على الغلاف الداخلي لكتبه المدرسية.
سيتذكر الأستاذ سلامة مدرس التاريخ الذي كان يدخل الفصل تاركا سحاب البنطلون مفتوحا، فيضحك زملائه، أما هو فكان يغار على داليا أول بنت قصت شريط قلبه وأقامت احتفالا مهيبا زلزل كيانه إلى أن فضحها بكتابة اسمها على كل النقود الورقية التي كانت تقع في يده.
سوف يتذكر أيضا الأستاذة سوسن مدرسة الأحياء والدرس الذي يحتوي على الجهاز التناسلي للمرأة وكيف أنه لم يفهم منه شيئا،
الأستاذ مصطفى المستكاوي ناظر المدرسة الذي حلق له شعره من المنتصف لأنه طويل، وعيره بأنه ليس نظيفا، رغم أن” النورس” لا يرى تعارضا بين شعره والنظافة..
الأستاذ المستكاوي الذي أحيل للمعاش في نفس اليوم الذي تسلم فيه وظيفته بنفس المدرسة وكان خائفاً من ملاقاته، ونفس الفصل الذي قضى به أسوأ ما يمكن أن يحدث لطالب محلوق نصف شعره العلوي في مدرسة إعدادية، نفس الرائحة، الجدران، النافذة التي كان يتابع منها العصافير على الشجرة، فينشرح صدره، ويحب التاريخ الذي تخصص فيه، رغم الدماء التي سطرته، فالعصافير جد رقيقة، هذا ما سطره على السبورة وهو لا يدري، متجاهلا أحمس وكليوباترا..
سيتذكر عرس أخته الذي أراد أن يرقص فيه، لولا الحياء، واستغلاله لدولاب ملابسها الذي خوى .. ووفاة جدته بنفس الأسبوع، وخالته التي قالت لأمه متحسرة: “البيت تحسي انه قبر يا عديلة، لا شقاوة البنت ولا بركة الحاجة..”
سوف تبرق سلمى أيضا في المشهد، وينجلي له يوم تخرجه وبكائها ثم اختفائها في ظروف غامضة، فك شفراتها فيما بعد حينما رأى امرأة تشبهها تجرجر أولادها ويجرجرها زوجها في محاولة منهم لعبور الطريق المكتظ بالسيارات والأضواء التي طمستها دموعه.
سوف يتذكر الشوق الذي يموت ويصحو كل لحظة، النسيان الذي يطفو فوق السطح، ثم يجره الحنين من قدميه إلى القاع، حماقة ارتكاب الحب، وحماقات انتهائه.
الكبرياء الذي يهدم كل شيء، ثم ينحني إلى أن يصل إلى البكاء، تلويحات الوداع التي لم تسنح له الظروف أن يمارسها ببيروقراطية، الألم الذي يشق الروح إلى نصفين، الإحتراق الذي يترك بقيتها هشيما، أخطائه التي لم يتعلم منها يوما، أحلامه البسيطة التي نسيها من فرط بساطتها، الحياة التي يؤديها ولا يعيشها، ممارسة التنفس والضحك والبكاء والنعاس، الأكل، العمل، التثاؤب، الإنصات، اللامبالاة..
**
قبل موته بقليل، كان وجهه هادئاً، وقلبه يؤلمه بشدة، وعندما ارتطم جسده بالأرض، تكسرت العظام، وارتطم مخه في الجدار الداخلي لجمجمته، وانحدرت قطعة نقود معدنية من فئة الخمس وعشرين قرشاً المثقوبة من جيبه، واخذت تنحدر متبخترة على الأسفلت بمحاذاة دمائه رويداً رويداً..

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.