التكوين والنقد في السيرة الذاتية

0 1٬491

كه يلان محمد – العراق

تطوّر فنّ السيرة الذاتية وتنوّعت أساليب كتابة وتدوين تجارب الذات، وقد تداخَل هذا الشكل الفنّي مع الأجناس الأدبية الأخرى، ولعل ذلك التفاعل أكثر وضوحاً في تَمظهرات السيرة داخل السرد الروائي. هذا ما يفسّرُ إسقاط ما يأتي في السياق الروائي على المؤلف. عندما يكشف المبدعون جانباً من كواليس مؤلفاتهم الروائية تتّضح صحّة القراءة الإسقاطية ولو نسبياً؛ بمعنى أنّ النص الروائي لا يتمُ طبخه بعيداً عن تجارب حياتية عاشها المؤلّف، أيّاً يكن مستوى حضور الذات في العمل الروائي.

المؤكّد هو تسرّب الخبرات الشخصية إلى متون الأعمال الأدبية، والحال هذه، فإنَّ مجال المراوغة يزداد نتيجة وجود مساحات وتقنيات مشتركة بين الرواية والسيرة الذاتية؛ ولا يمانعُ بعض المبدعين من الحديث عن أوجه توظيف الخبرات في المشروع الروائي. هذا ما نراه لدى كلّ من الروائي المغربي بنسالم حميش، والروائية الفلسطينية سحر خليفة. الأخيرة أوردت في إطار سيرتها المعَنونة “روايتي لِروايتي” (عن دار الآداب،2018) مقاطعَ من أعمالها الروائية دعماً لِما تسرده حول معاناة شعبها؛ وبذلك تكون للرواية وظيفة توثيقية، إذ قد يتعمّقُ النصّ في مسارب معتمة كاشفاً المواجهات غير المرئية في الالتفاف حول بعض القيم السائدة؛ ناهيك عن مشاكسة الرواية لخطوط حمراء، ما يفتحُ باب الجحيم على النصّ وصاحبه. بدوره، يتناولُ بنسالم حمِّيش في سيرته الموسومة “الذات بين الوجود والإيجاد” (المركز الثقافي للكتاب، 2019) حيثيات كتابة عمله الروائي الأول “مجنون الحكم”، التي ولدت نواته شعرياً؛ إذ نظمَ بنسالم قصيدة عن حياة أغرب خليفة شهده تاريخ العرب، والمقصود هو “أبو علي بن المنصور”، لكنه أدرك بأنَّ حياة “الحاكم بأمر الله” يضيقُ بها النص الشعري. لذا، يستعيد الكاتب سيرة هذه الشخصية في إطار الرواية. فيما لاحظَت صاحبة “الصبّار” – منذ البداية – أنَّ وقائع حياتها وتجارب شعبها المعقّدة والمُتشابكة لا يغطّيها سوى فنّ الرواية، وأنَّ متابعتها في قراءة الأدب الوجودي وروايات دوستويفسكي وتولستوي قد زادتها وعياً بخصائص هذا الفن.

الوعي الإبداعي

الجدير بالذكر هنا هو اعتراف سحر خليفة بأنها كانت تخجل من الحديث عن معاناتها الشخصية، وهمومها الذاتية الخاصة في الإطار الروائي، ولم تجد في ذلك ما يستحقّ اهتماماً وتأمّلاً رغم ما ذاقته من المرارة في حياتها الأسَرية، ورحلتها إلى ليبيا حيث يمعنُ الزوج في التنكيل بها. هذا الواقع المختنق في الغربة يكونُ عاملاً رئيساً وراء قرار الانفصال والبحث عن مصير مختلف. أمّا الرواية لدى مؤلف “جرحى الحياة” -إضافة إلى كونها منصّة لرصد العلاقات الإنسانية والمجتمعية –فهي التي يتحققُ من خلالها تشكيل الوعي بالبعد الجمالي للحياة؛ وبرأي بنسالم، لا يتمُّ الإنتقال من البداوة إلى الحضارة الفاعلة إذا غاب هذا البعد. أكثر من ذلك، يرى الكاتب أنّ تاريخ كتابة الرواية انطبع عبر فتراته المختلفة بالبنية السوسيوثقافية والأيدولوجية السائدة.

في هذا السياق، يشير بنسالم حميش إلى ضرورة التشبّع بثقافة الرواية من خلال الاهتمام بمؤلّفات المبدعين الكبار. إذاً، فإنَّ تأسيس المشروع الروائي يتطلّبُ وعياً بتاريخ هذه الصنعة، وبتواصلها مع مختلف الفنون الإبداعية. انطلاقاً من ذلك، يعبر بنسالم عن رأيه فيما يتصل بوفرة الإصدارات الروائية المُستقاة مادتها من سيرة مؤلفها، وشحّة المعرفة بالسيرورة الثقافية والقيمية، بأنه من يكتفي بين الروائيين بتحويل سيرته الخاصة أو حتى المتخيّلة يُقصي نفسه من سجلّ الأدب الروائي؛ مستشهداً برأي أمبرتو إيكو أنّ (90) في المئة من العمل الروائي يُنجَز بعرق الذات. هذه النظرة يمكن معاينتها في الاشتغال الإبداعي لدى سحر خليفة وبنسالم حميش اللذان يتقاطعان فيه؛ ألا وهو استفادة الإثنين من الخبرة الأكاديمية في كتابة العمل الروائي. الأخير يظهر ما تراكَم لديه حول حياة ابن خلدون خلال انكبابه على أطروحة الدكتوراه في العهد الوسيط المتأخّر في بلدان المغرب كان بمثابة حجر زاوية لروايته “العلامة”؛ كما أنّ الانطباعات والأجواء التي تكتشفها سحر خليفة في أميركا، ومراقبتها لشكل حياة المواطنين العرب في المهجر، كل ذلك يصبح مادة لروايتها المُعنونة بـ”الميراث”، وهي تكتبها كجزء من أطروحة الدكتوراه، ومن ثمّ تقوم بصياغتها لاحقاً في القالب الأدبي. وما قصة دنيا التي تبدأ بها الرواية إلّا حصيلة معايشتها لواقعة تتبلور من خلالها بعض أفكارها النسوية.

تفكيك

ليس الغرض من كتابة السيرة هو سرد ظروف النشأة، أو الحديث عن الروافد المعرفية، أو الإفصاح عن معلومات كانت طَيّ الكتمان فحسب؛ بل يكون النقد ركناً أساسياً لدى من يشرع بنشر سيرته الذاتية. فيها، يَهمّ المتكلّم بمراجعة المواقف أو تفكيك الأسس التي ينهض عليها النظام السياسي والاجتماعي. ذلك يبدو بوضوح في سيرة “سحر خليفة”، حيثُ يوُضَع أمامك واقع يَرسف بقيود العقلية الذكورية، وتصطدمُ الكاتبة بمهيمناتها في بيئتها الأسرية والمجتمعية. كانت بداية المعاناة مع زواج الوالد حتى لا يوصمَ بأنّه مقطوع. إذ لم تنجب زوجته الأولى غير البنات؛ وبالتالي لقّبت بأم البنات. هذا اللقب كما تقول خليفة كان شَتيمة في ذلك الزمن. عليه، فإنَّ نشأة الكاتبة في واقع مُتخم حتى العظام بقيَم ذكورية أثارت لديها أسئلة بشأن هوية الذات، ودورها في مجتمع تسوده نظرة دونية للمرأة؛ ومن هنا تهرب سحر خليفة إلى الكتابة والألوان، مستمدةّ من الإبداع إمكانيات لإحداث ثغرة في حلقة الإكراهات الاجتماعية. لولا تجاربها كامرأة مقموعة، وما شاهدته في محيط أسرتها من مظاهر الإقصاء للمرأة، لربما بقيت سجينة القوقعة على حد قولها. الأهم، ممّا أسلفَ ذكره، هو تشريح سحر خليفة للطبقة المثقّفة، وتراوح رموزها في المواقف المُتناقضة، وانفصال هؤلاء عن هموم المواطن العادي. بحسب ما يردُ في مفاصل الكتاب، إنَّ المثقّف لا يوظّفُ عدّته الفكرية لتسويغ تقلّباته السياسية فحسب؛ إنما يستفيد من معجمه الشعاراتي لتلبية رغباته الغرائزية. يُشار إلى أنّ الدراسة الأكاديمية كانت داعماً لمشروع سحر خليفة الإبداعية على عدة مستويات، منها الحفر في طبقات التركيبة الاجتماعية، ما يعني أنها تبنّت أسلوباً علمياً قاعدة للنص الأدبي والبناء الفنّي، وناقشت في فضاء رواياتها معاناة الفئات التي وقعت ضحية للاحتلال وجَشع أبناء الوطن في آن واحد. مَلمحٌ آخر من هذا الكتاب هو المقارنة بين العقليتين العربية والغربية استناداً إلى معاينة الوسط الثقافي، وفي هذا السياق تعودُ مؤلفة “عباد الشمس” إلى ما ذَكَره مواطنها هشام شرابي في “الجمر والرماد” للإبانة عن مظاهر البؤس الفكري والثقافي.

من جانبه، يتّخذُ بنسالم حميش مسلكاً انتقادياً في سيرته، إذ يناقشُ سلوكيات الدعاة الفرنكوفونيين وازدواجية سياسة البلدان الغربية التي تتصرّف بإيحاء التركة الاستعمارية. هذا لا يعني التنكّر للمبادئ والقيَم الإنسانية التي تمخّضَت من مسيرة أقطاب الثقافة الغربية، أمثال ماركس وكانط وسارتر وأندريه مالرو ومشيل دي مونتاين، بل يشكّلُ إرث هؤلاء المفكّرين والفلاسفة عنصراً بارزاً في تكوين شخصية بنسالم الثقافية. ومن الملاحظ فيما يسردهُ الكاتبُ في سيرته هو الاهتمام بالبعد الفكري والمصادر التي أسّست لانطلاقته الثقافية والفكرية، وما يتضمّنهُ الكتاب من الإحالات والاقتباسات. كل ذلك يوحي بتَمكّن بنسالم حميش من الثقافة التراثية أيضاً. وما يشدّ الإنتباه أكثر، في هذا الإطار، هو سجالات بنسالم مع مجموعة من المثقّفين العرب ومخالفته لمنهجهم الفكري، علماً بأنه كان معجباً ببعض من يجادلهم، وهذا ما يؤكّدُ أهمية عملية التحرّر من نماذج مكرّسة والانشقاق عن التيار، وذلك يحتاج الى عقلية جدلية نافذة.

في الأخير، نفترض جدلاً وجود سؤال عن المسوّغ للحديث عن كتابين في مقال واحد؟ طبعاً، الانتماء إلى فن السيرة ليس مشتركاً وحيداً بين المؤلّفَين، ولا المُجايلة هي ما تقرب بين حياة الإثنين، إنما النزعة الانتقادية، ومساءلة الظواهر المهيمنة والمراهنة على التحرّر العقلي هي ما يتقاطعُ فيه منهج الكتابين. هذا إضافة إلى نضوج الوعي الإبداعي في كتابة الرواية.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.