متاهة الأوهام – تيه في عالم الكتابة والخلق
صدرت عن دار هاشيت أنطوان، في بيروت، الرواية الخامسة للكاتب المغربي محمد سعيد احجيوج، وعنوانها “متاهة الأوهام”، وتتوفر الرواية في المغرب ابتداء من أيام معرض الرباط الدولي للكتاب.
تبدأ الرواية برقم هاتفي غريب يظهر على شاشة هاتف الكاتب؛ اتصال من مجهول وصوت أنثوي رقيق يعرض المساعدة. هكذا تنفتح أبواب الجحيم وتُشرِّع المتاهة عن فمها لتبتلع كل من يقترب منها. تنقسم الرواية إلى ثلاثة كتب/فصول، وثلاثة أصوات، لكنها اجتمعت في كتابٍ واحد، يخرج منه صوتٌ واحد. صوتٌ يتبعثر، فلا يأتي من الماضي وحسب، بل يضع القارئ هناك، في الماضي نفسه. تتصل الأصوات بعضها ببعض، وتفترق في متاهةٍ نعرف بدايتها، ولا نعرف نهايتها، وأحياناً بالعكس. داخل هذه الرحلة الاستثنائية، تدور قصةٌ واحدة، لكنها تتحدث عن نفسها عبر أكثر من طريقة. قصة الكاتب نفسه، الذي يحاول متابعة مهنة العيش، فتعترضه الأحداث، النزوات، وأجهزة الاستخبارات.
صرح الكاتب احجيوج معلقا على خبر صدور الرواية: “تأتي هذه الرواية لتمنح القارئ ما يمكن أن نسميه مفاتيحا لتجميع قطع الأحجية/الأحاجي المبعثرة في رواياتي الأخرى. هذه رواية مستقلة بذاتها كما كل رواياتي السابقات، بمعنى أنه يمكن قراءة كل واحدة منها بمعزل عن الأخريات، لكنها أيضا قابلة لأن تقرأ كقطعة واحدة من بين مجموعة من قطع تشكل صورة واحدة. لنلاحظ نبذة الغلاف التي تقول بأن هذه الرواية جزء صغير من رواية أكبر، هي فتات خبز لجر قدمي القارئ إلى فخ ما. يمكنني أن أقول بأن هذه الرواية تمثل قفلا للدائرة، دائرة رواياتي الخمس مجتمعة، القصيرات، المكتوبة بالتزامن أو بفوارق زمنية قصيرة. وهي الأخرى لن تختلف عن سابقتها من حيث بنائها المركب، وإلا لن تكون جديرة بحمل عنوان: متاهة الأوهام.”
وأضاف معلقا على موضوع الرواية: “أما الموضوع الرئيسي، لو كان يجب أن أشير إلى موضوع واحد بعينه فهو أن الرواية تتحدث عن ثنائية الصراع بين هاجس الإبداع والسعي لتحقيق لقمة العيش. كيف يمكن للكاتب، في مجتمعنا، أن يوازن بين حاجته القهرية للكتابة، وبين متطلبات الحياة اليومية التي لا ترحم.”
قبل “متاهة الأوهام” صدر للكاتب عن دار أكورا في طنجة رواية “ساعي البريد لا يعرف العنوان” (2022)، وعن دار العين في القاهرة رواية “ليل طنجة” (2022) التي فاز مخطوطها الأول بجائزة إسماعيل فهد إسماعيل للرواية القصيرة، وعن هاشيت أنطوان في بيروت رواية “أحجية إدمون عمران المالح” (2020) التي تأهلت إلى القائمة القصيرة لجائزة غسان كنفاني للرواية العربية. وقبل ذلك رواية “كافكا في طنجة” (2019) التي تُرجمت فصولها الأولى إلى الإنجليزية، الإيطالية، والعبرية.
مقطع من الرواية:
رُفعت الأقلام وجفّت الصحف، قلتَ وتنهّدتَ على مستقبلك المختوم حين تركتَ الجاذبية تسحبك إلى الأريكة الرمادية اليتيمة في ركن الصالة المخنوقة بالثلّاجة والفرن وطاولة الطعام وحوض غسل الأواني، بعدما هَدهَدت الصغيرة حتى هدأت من نوبة بكائها وسكنت لسكينة النوم فأعدتَها إلى صدر أمّها لعلّها تجد هناك بعضاً من دفء الرحم الذي انتهت إقامتها فيه منذ شهر.
غشاوة الأفكار اليائسة، كما غلالة النوم المتقطّع، لم تبرحك. مجيء الطفلة، في هذا الوقت تحديدًا، قد ختم مستقبلك. هكذا تشعر الآن. لا فرصة لديك أن تصير كما اشتهيتَ، كاتبًا مبدعًا يشار إليه بالبنان. ذهبت الأحلام إلى قرارها في مقبرة التاريخ، قد تأكلها الديدان هناك وتتلاشى، أو قد تنبت من تحت التربة وتخرج منها إلى السطح بين وقتٍ وآخر أهدابٌ تشعل فيك نار اللهفة من جديد. ما عدتَ تملك إلّا الكدح طيلة النهار والليل، خارج البيت وداخله، سعيًا لأجل لقمة عيش ليس سهلًا تحصيلها، وقد طُرِدت مِن وظيفتك منذ شهر.
تكره العبارة الأثيرة عند العجائز، «الأطفال يأتون بأرزاقهم»، التي يقولونها للتشجيع على الإنجاب. أنت تعيش نقيض ذلك القول. أعلنت زوجتك حملها مساء اليوم نفسه الذي عدتَ فيه من العمل بقرار الشركة خفض راتبك إلى النصف، لضرورات البقاء في زمن الأزمة، ويوم الطفلة الأول في هذه الحياة كان يومك الأخير في العمل، بعد اكتمال الشهر عن إعلان الشركة الاستغناء عن خدماتك. خسرتَ وظيفتك وصرتَ رقمًا في صفّ العاطلين مِن العمل. يسكنك الآن، تحت السقف المنخفض لهذه الشقّة الضيّقة المسودّة حيطانها عفنًا متعدّد الألوان والأصناف، الحنينُ إلى بيت العائلة وإلى زمن الطفل الذي كنتَه، متخفّفاً من أيّ مسؤولية، حرّاً من ثقل زواجٍ فقد سكينته ومساكنته في هذا العصر المتوتّر، ومُعفًى من أبوّةٍ يدفعك الجميع إليها دفعًا عنيفًا دونما أيّ تجهيز مسبق للعذاب الذي ستواجهه.
يصلك صوت أذان الفجر خافتًا من البعيد، يختمه المؤذن «الصلاة خيرٌ من النوم»، ولا يسعك إلّا الابتسام. أين النوم؟ الصغيرة بنمط نومها غير المنتظم بعد لا تسمح لأمّها ولا لك بنومٍ متّصلٍ مريح. الأكثر من ذلك، إنّها السابعة صباحًا الآن. في هذه الساعة تكون راكبًا الحافلة متوجّهًا نحو عملك، وأذان الفجر تسمعه وهو يتكرّر من مسجدٍ إلى آخر خلال رحلة الحافلة. تبدو لك، في تلك الأثناء، عبارة «الصلاة خير من النوم» مستفزّة، باعثة على السخرية، من دون أن تعرف تحديدًا سبب ذلك.
إنّها السابعة الآن. تنهض لتجهّز الفطور لزوجتك. صديقتها رتّبت لها موعدًا لمقابلة وظيفية. قرّرت زوجتك أن تعود إلى العمل بعدما انقطعت عنه منذ زواجكما. تحصيلها الأكاديمي يسمح لها بالحصول على وظيفة أفضل ممّا يمكن أن تحصل عليه أنت في بلدٍ يحتفي بأصحاب الشهادات (والشواهد) أكثر ممّا يحتفي بأصحاب الخبرات.
جاء صوت الهاتف ليخرجك من انشغالك المتوازي بين تجهيز الفطور والضياع السرمدي في خواطرك. وقت غير مألوف لمكالمة هاتفية ورقم غريب. 666. تبتسم، مكالمة من الشيطان؟ تنفرج ابتسامتك أكثر. بل ليته الشيطان يأتيك بصفقةٍ من الصفقات التي تتحدّث عنها الروايات…