وجدانيات الحنين: قراءة في “رأيت رام الله” و “ولدت هناك، ولدت هنا”

للأديب الفلسطيني مريد البرغوثي

0 677

نادية عبد الوهاب خوندنه- السعودية

محاضر أدب انجليزي بجامعة أم القرى

تتناول هذه الورقة موضوعاً ذا شجون، محوره تلك البقعة المباركة التي خصها الله جل وعلا بمعجزة اسراء نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم ” سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ”(1 سورة الاسراء).

إن مكانة فلسطين و القدس على وجه الخصوص لا يختلف اثنان على أهميتهما للعالمين الإسلامي و العربي ولكن لنعترف بكل صراحة و شفافية أن قضية فلسطين و معاناة شعبها أصبحت من الامور التي لم تعد تنال الاهتمام الكافي و الذي تستحقه من المسلمين و العرب على كثير من الأصعدة الرسمية والديبلوماسية والشعبية و الإعلامية و الثقافية ، و ربما كان الدعم المادي المستمر هو السبيل الوحيد الذي يذكرنا أن للمسلمين دولة قد اغتصبت و أحتلت و أن المسجد الأقصى الذي هو أولى القبلتين أصبح تماماً في أيدي أعداء الدين، يمنعون عباد الله المسلمين من الصلاة فيه ويعلنون بكل وقاحة أن القدس هي عاصمة دولة اسرائيل.

أصيب الشعب العربي بتبلد الحس تجاه فلسطين، بل وحتى فقد الأمل بالوصول الى حل يعيد الكرامة والمقدسات والأقصى وقبة الصخرة والمآذن وذكرى صلاح الدين وكروم العنب وأشجار التين والزيتون والليمون والبرتقال والتمور. والأسباب التي أوصلتنا إلى هذه الحالة النفسية المحبطة لا شك أنها عديدة وكثيرة ولا مجال هنا لمناقشتها لكيلا نغرق أنفسنا في متاهات السياسة.

قراءتنا اليوم تعيدنا إلى فلسطين.. وليتها تعيد فلسطين لنا وهي ليست عودة تقليدية كمشاهدة فيلم وثائقي أو مشهد قصير على الشبكة العنكبوتية عن معاناة شعب فلسطين يمكن أن يؤثر في عاطفتنا ويثير شفقتنا ويدمع مآقينا فيكون الانفعال مجرد ردة فعل وقتية لا تلبث أن تزول بزوال المسبب وتنتهي وتنسى سريعاً. بل هي تجربة مباشرة عاشها الراوي بنفسه هو وشخوص رواياته وماهم جميعاً إلا أناس حقيقيون أحياء وأموات وما أصدق تعبير الشاعر حين قال:

لا يعرف الشوق إلا من يكابده            ولا الصّبابة إلا من يعانيها

لا يسهر الـليل إلا من به ألـم              لا تحرق النار إلا رجل واطيها

يأخذنا مريد البرغوثي في كتابيه “رأيت رام الله” و “ولدت هناك ولدت هنا” في رحلة تاريخية وجدانية، تتجلى فيها علاقة الإنسان بالمكان وكيف يمكن أن تصبح هذه العلاقة قوية متينه كارتباط الوليد بأمه يخبرنا بصدق ووضوح وبلغة شاعرية كيف تكون المشاعر والأحاسيس وأنت تعود إلى بلدك بعد ثلاثين عاماً؟ هي ليست عودة دائمة، بل مؤقتة والبلد ليست هي الوطن الغالي الذي خرجت منه معززاً مكرماً لظرف مؤقت، بل هي وطن محتل، لجنوده كامل الصلاحية في السماح لك بعبور الجسر بين الأردن وفلسطين المحتلة أو يمكن بكل بساطة تجاهل طلبك مرة، ومرتين وثلاثة وأكثر. وقبل ان نسترسل في سرد وجدانيات البرغوث العاشق، نقدم نبذة عن مريد البرغوثي الكاتب:

هو شاعر فلسطيني ولد في 8 يوليو/تموز 1944 في قرية دير غسانة قرب رام الله في الضفة الغربية تلقى تعليمه في مدرسة رام الله الثانوية، وسافر إلى مصر العام 1963 حيث التحق بجامعة القاهرة وتخرج في قسم اللغة الإنجليزية وآدابها العام 1967، العام الذي احتلت فيه إسرائيل الضفة الغربية ومنعت الفلسطينيين الموجودين خارج البلاد من العودة إليها.

لمريد البرغوثي 12 ديواناً شعرياً، نشر ديوانه الأول في بيروت عام 1972 بعنوان “الطوفان وإعادة التكوين” وأصدرت له المؤسسة العربية للدراسات والنشر مجلّد الأعمال الشعرية العام 1997. وحصل مريد البرغوثي على جائزة فلسطين في الشعر العام 2000، ومن إصدارته الشعرية ديوان “متنصف الليل”، في بيروت، عام 2005 وهو قصيدة واحدة في كتاب كامل، عكف على كتابتها في عامين، وقد ترجم الديوان الى اللغتين الإسبانية والإنجليزية.

 شارك البرغوثي في عدد كبير من اللقاءات الشعرية ومعارض الكتاب الكبرى في العالم، وقدم محاضرات عن الشعر الفلسطيني والعربي في جامعات القاهرة وفاس وأكسفورد ومانشستر وأوسلو ومدريد وغيرها.

الشاعر الراحل مريد البرغوثي
الشاعر الراحل مريد البرغوثي

وعن سبب تسمية عائلة الكاتب بلقب البرغوثي يحدثنا الكاتب بحس فكاهي عالٍ أنه نسبة إلى البرغوث وهو يراه “تفسيرا معقولاً” وإن كان بعض أفراد العائلة والتي تعتبر من حيث الحجم “أكبر عائلة ريفية في فلسطين” يرون أن لقبهم مشتق من البر والغوث، والبعض الآخر منهم يروي أن جدهم الأكبر كان اسمه غوث وكان لديه الكثير من الأراضي الواسعة والتي سميت (برَغوث).

والكتابان محور القراءة يعتبران جزءان مكملان لبعضهما البعض عن العودة بعد ثلاثة عقود إلى الوطن الذي كان ذي سيادة نوعية ومن خلال سرد وقائع الزمن الحاضر نسمع ونعيش ونشهد الماضي في تداخل سريالي، شعري اللغة، وجداني الوصف مزين وموشح بتفاصيل دقيقة كمنمنمات شرقية متقنة الصنع… الهم الشخصي والتاريخ الفردي حاضر بقوة وبذات الوقت يريد له الكاتب أن يتوارى وأن يتراجع إلى الخلف لتكون المقدمة والأولوية والأهمية للهم الانساني ككل وللوطن ككل ولكل الشعب المبعثر في أرجاء العالم وقاراته.

 “رأيت رام الله” (1997) نال جائزة نجيب محفوظ للإبداع الأدبي من الجامعة الأمريكية بالقاهرة و “ولدت هناك ولدت هنا” (2009) نموذجان رائعان للأدب الانساني بصفة عامة وللأدب الفلسطيني بصفة خاصة وحيث يرى معظم النقاد أنه بعد هزيمة 1967 يمكن الإشارة الى الأدب الفلسطيني المعاصر بثلاثة تقسيمات:

 أولاً: الأعمال التي تكتب من داخل إسرائيل مثل أعمال إميل حبيبي الحاصل على وسام القدس وهو أرفع وسام فلسطيني ومن أشهر أعماله “الوقائع الغريبة في حياة سعيد أبي النحس المتشائل” (1974) وهي رواية ساخرة تتحدث عن حياة فلسطيني في إسرائيل ‘ذكرت ضمن أفضل مائة رواية عربية، ترجمت إلى العبرية وأصبحت من أشهر المؤلفات العربية لدى الجمهور اليهودي في إسرائيل، كذلك دواوين شاعر فلسطين المبدع محمود درويش والأعمال الأدبية المتنوعة لسميح القاسم اللذين ارتبط اسمهما بأدب الثورة والوطن والمقاومة.

 ثانياً: الأعمال التي تكتب من الأراضي المحتلة والتي تحرص سلطات الاحتلال على مصادرتها ومنع تداولها.

 ثالثاً: الأعمال التي تكتب من دول المهجر أو الشتات مثل أعمال غسان كنفاني في السبعينيات الميلادية، “عائد إلى حيفا”، “أرض البرتقال الحزين”، “رجال في الشمس”.

كما يضيف الناقد ستيفن سليطة في مقالته في دورية “العلوم الانسانية” قسماً رابعاً يحتوي الأعمال التي تنشر باللغة الانجليزية بأقلام كتاب فلسطينيين يعيشون في أوروبا وأمريكا، ومن أشهر هؤلاء الكتاب إدوارد سعيد، ليلى الخضرا جويسي.

 وأيّاً كان الموقع الجغرافي لمكان إصدار عمل أدبي فلسطيني فهناك قواسم مشتركة واضحة المعالم كموضوعات الهوية، مقاومة الاحتلال، الحياة في المنفى، حب الوطن والحنين الدائم له، وتسيطر السخرية والتهكم على أسلوب الكثير من الادباء الفلسطينيين فيما يعرف بالكوميديا السوداء.

والجدير بالذكر أن من مقتضيات النقد الأدبي أن نحدد جنس العمل الأدبي الذي نحن بصدد قراءته وتحليله وهذه الخطوة المبدئية الأساسية قد تكون سهلة في كثير من الأوقات وقد تكون غير ذلك، فالعمل ذاته يخبرنا بكل وضوح أنه رواية سياسية، أو نفسية، أو اجتماعية، أو قصيدة غزلية، أو وطنية، أو مسرحية مأساوية، أو هزلية، أو غير ذلك من الأجناس الأدبية الرئيسية والفرعية ومرد السهولة أو الصعوبة هو وضوح الخصائص الفنية للعمل من عدمه.

وهذان العملان الأدبيان عملان نثريان مشوقان من البداية إلى النهاية، ولكن قد يحتار القارئ لكتابيّ “رأيت رام الله” و “ولدت هناك ولدت هنا” كيف يصنفهما وفي خانة أي جنس أدبي يضعهما؟ وهذه الحيرة تذكرنا بكتاب “الأيام” لعميد الأدب العربي طه حسين حيث “أعتبرها الدكتور عبد المحسن طه بدر في كتابه المعروف «تطور الرواية العربية» من قبيل الرواية، بينما أعتبرها بعض النقاد سيرة ذاتية”(شوقي بدر يوسف مقالة «المفتون» والسيرة الروائية في مجلة الرافد).

 وعودة إلى كتابينا، هل هما سيرة ذاتية بحته تذكر الحقائق والوقائع والأحداث المتعلقة بحياة كاتبها بطريقة توثيقية، تقريرية؟

هل هما رواية واقعية تستند على أحداث حقيقية، ولكنها في ذات الوقت عمل متخيل يسمح بإضافة أحداث غير حقيقية نتاج الخيال الادبي وضرورة السرد الروائي؟

 هل هما رواية السيرة الذاتية؟ حيث يحكي لنا الكاتب-الراوي أحداث حياته منذ ولادته إلى وقت كتابة العمل الادبي مستعيناً بتقنيات العمل الروائي من سرد وحوار وزمان ومكان وزمان استرجاعي واستعمال أسلوب تيار الوعي، وتميل الباحثة الي وضع الكتابين في خانة التصنيف الثالث مع تعديل طفيف فنطلق عليهما “سيرة روائية” حيث تغلب سمات السيرة على المجمل مع توظيف بلاغي لعدد غير قليل من سمات الرواية السابق ذكرها.

ومن أبرز ما يلفت نظر القارئ ويشد انتباهه في السيرتين الروائيتين تأكيد الكاتب بأسلوب شاعري جميل وبصدق عاطفة لا تخطئ طريقها إلى القلب أبداً للنقاط التالية:

  • عشق الوطن السليب
  • دور المرأة في حياته
  • صلة المثقف بالسلطة
  • صلة الكاتب ببعض الأدباء الآخرين

*****

عشق الوطن السليب:

“بوابة الأبواب

لا مفتاح في يدنا ولكنا دخلنا

لاجئين إلى ولادتنا من الموت الغريب

ولاجئين إلى منازلنا التي كانت منازلنا وجئنا

في مباهجنا خدوش

لا يراها الدمع الا ويوشك أن يهيلا.” (رأيت رام الله29 )

هل يمكننا أن نغمض أعيننا ونتخيل، مجرد تخيل أن أحدنا يسافر عن الوطن الحبيب ولا يستطيع العودة له؟ ليس لأنه غاضب من بلده أو لأنه على خلاف مع عائلته أو لأنه فقد وظيفته وعمله، بل لأن عدواً غاشماً قد أحتل البلاد ومنع من كان في الخارج من العودة.

 بطل العملين محور البحث لا يستطيع العودة لأنه العام 1967‘العام الذي يسميه العرب عام النكسة، وهذا التاريخ وإن كان مؤثراً في تاريخ العرب جميعاً فإنه في حياة الفلسطينيين قد غير مجرى حيواتهم الى الأبد … فعلى مدى ثلاثين عاماً فشل البرغوثي في الحصول على تصريح زيارة أو تصريح لم الشمل، ولكن ذلك لم يفت في عضده فيدفعه عشقه لوطنه أن يتحمل الصعاب في سبيل زيارته حتى وإن اضطر إلى استئجار رافعة لتجاوز المعابر المغلقة أو الاختباء في سيارة إسعاف تنقل امرأة عجوز تحتضر إلى المستشفى في رام الله.

والسطور التالية تصف لنا مشاعره عندما تمكن أخيراً من الزيارة المؤقتة بغرض الحصول من وزارة الداخلية الفلسطينية على الهوية التي تمنحه حق المواطنة:

“المرة السابقة مباشرة كنت ولداً. هذه المرة أنا والد. والد لولد هو الآن في مثل عمري عندما مررت من هنا لآخر مرة!

 المرة السابقة مررت من هنا مغادراً وطني لأتعلم في الجامعة البعيدة. الآن تركت ابني ورائي في نفس الجامعة ليتعلم.

المرة السابقة لم يكن أحد يجادلني في حقي في رام الله، الآن أتساءل عن دوري في حفظ حقه في رؤيتها. وهل سأخرجه من سجلات اللاجئين والنازحين وهو لم يلجأ ولم ينزح وكل ما فعله أنه ولد في الغربة؟

الآن أمرُ من غربتي الى …… وطنهم؟ وطني؟ الضفة وغزة؟ الأراضي المحتلة؟ المناطق؟ يهودا والسامرة؟ الحكم الذاتي؟ اسرائيل؟ فلسطين؟

هل في هذا العالم كله بلد واحد يحار الناس في تسميته هكذا؟” (رأيت رام الله 19)

 برغم تنقله للعيش بين عمان والكويت والقاهرة وبيروت والمجر وباريس ولندن وأمريكا للعمل والزيارة في ظروف عيش في مجملها مريحة اقتصادياً مقارنة بالكثيرين من الفلسطينيين في الداخل والخارج، استمر حنينه ابدا لأول منزل الى مسقط رأسه في القرية الوادعة الصغيرة دير غسانة والى مراتع الصبا والشباب في مدينة رام الله القريبة منها وقد حرص على زيارة جميع الأماكن بهما …المسجد (الذي لم يكن له مئذنة) …. المدرسة القديمة.. ساحة القرية ومضافة دير غسانة، استعاد ذكرياته الجميلة بها حيث استحضر الماضي ومزج بمرارة وسعادة الحاضر المؤقتة ومن فرط تماهيه مع الماضي الرغيد واستدعاؤه في اللحظات الراهنة كان يحس بوجود الأعزاء والأحباب برغم انتقالهم إلى الدار الآخرة. وأولهم أخوه منيف الذي أماته القهر والذل من قبل سلطات الإحلال برفض طلبه ثلاث مرات لزيارة رام الله فكان يحس بوجوده معه في كل مكان “هذا المشهد مشهده هو. مشهد منيف.

هنا انتظر. هنا خاف. هنا تفاءل واستبشر. هنا حققوا معه.

هنا سمحوا لأمي بالدخول ومنعوه” (رأيت رام الله 45)

 وهو الذي لم يكن بمثابة الأخ الأكبر فقط، بل أيضاً الوالد الحنون والصديق المخلص وقد قام بالإنفاق عليه أثناء دراسته الجامعية مثلما كان يتعهد بمصاريف الدراسة لبعض الشبان والشابات في جامعة بير زيت والتي حرص مريد على زيارتها حتى قبل دير غسانة وتقديم احترامه لصديقيه القائمين عليها تانيا ناصر وحنا ناصر فتحويل ثانوية إلى جامعة والاستمرار في النضال من أجل أن تظل تمارس دورها التعليمي والريادي تحت ظروف الإحلال ليس بالأمر الهين أبداً.

ولعل أهم مكان زاره في دير غسانة هو ” دار رعد” حيث كان مولده وقد كانت داراً واسعة مهيبة لم يعد يقيم بها سوى امرأة عمه التي تجتمع في ساحة دارها كل يوم 49 أرملة حيث ” الأزواج والأبناء والبنات توزعوا بين القبور والمعتقلات والمهن والأحزاب وفصائل المقاومة وسجلات الشهداء والجامعات ومواطن الأرزاق في البلدان القريبة والبعيدة. من كاليغاري الى عمان، ومن سان باولو الى جدة، ومن القاهرة الى سان فرانسيسكو، ومن الاسكا الى سيبيريا” (رأيت رام الله 68).

وقد أحزنه كثيراً أن زوجة عمه قد قطعت شجرة التين العتيقة مبررة ذلك ببراءة أن الثمار لم تعد تجد من يأكلها وقد أجهدها كثيراً رعايتها وتنظيف الأرض حولها…. ويمكننا تحليل حزنه على التينة من منظور رمزي فشجرة دار العائلة والتي كانت سيدة الفناء، مهيبة، عظيمة، غنية تجود دوما بثمارها، تطعم القاصي والداني، قد بترت وأزيلت من الوجود وتبعثرت جذوعها وأغصانها مثلما اقتلع وتبعثر أبناء البلاد واقيمت مكانها مصطبة اسمنتية وليست مبالغة إن قلنا إن الإسمنت هنا ربما يشير الى المستوطنات التي انتشرت مكان الحقول الزراعية والبساتين والأودية…. وتتأكد لنا أهمية شجرة التين هذه في وجدان البرغوث العاشق لأرضه أنه نجح في تحبيب ابنه تميم بها حتى بدون رؤيتها وبدون التمتع بتسلقها وقطف حباتها الشهية فالابن لم يكتف بالحزن فقط، بل زاد عليه الشعور بالغضب لأنه كان يأمل في رؤيتها رأي العين بعدما رآها في قلب أبيه ووجدانه.

وربما يكون وصف الكاتب لزيارته هو وابنه لمدينه القدس أبلغ الأثر في إحساسنا بالفقد، بالهوان والذل والعار للمقدسات التي ضيعت ولا يلوح طيف أمل باستردادها في الوقت الراهن … يدخلانها كسياح في سيارة بلوحة إسرائيلية صفراء يزوران القدس بوجود المحتلين وأيديهم جاهزة على زناد أسلحتهم يتجولون بين شوارعها العتيقة وأسواقها القديمة ويتحقق حلم ابنه في الصلاة في المسجدين ….

“ها هي قبة الصخرة

قف أيها الغريب في ظلالها،

تأملها بالحواس كلها

تأمل أنك أنت الغريب فيها اليوم.

أنت الغريب عنها يا ابني ويا صاحبها ويا مالكها بالعين والذاكرة والورق والتاريخ والنقوش والألوان والأشجار والآيات والقصائد وشواهد القبور الطاعنة في شيخوختها قف أيها الغريب وأنظر:

ها هي قبة الصخرة” (ولدت هناك، ولدت هنا 89-99)

دور المرأة في حياته:

التشتت الجغرافي الاجباري و الانفصال بالأبدان ما زاد الأحبة إلا تماسكاً و محبة ووصالاً و لقد كان لوالدة مريد الدور الأعظم في التخطيط و الترتيب للقاء الوالدين مع أبنائهم الأربعة في عمان سواء إن كان ذلك في فندق أو شقتهم في الشميساني لاحقاً و مثلما كانت المبادرة الآخذة بزمام الأمور لإدارة شؤون اسرتها، كانت الحريصة على إكمال أبنائها تعليمهم لأنها حرمت من مواصلة تعليمها مبكراً برغم تفوقها و ذكائها، و كذلك كان لها أكبر الأثر في استمرار تعلق أبنائها بوطنهم فقد أصرت على ترميم منزل العائلة (دار رعد) و بناء منزل جديد في ساحة الدار و قامت برسم خريطة البناء و الإشراف على عملية البناء بنفسها ثم أسمتها “برق و رعد”.

ومن قصيدة له في وصف أمه يقول:

تود الخروج إلى كوكب خارج الأرض

حيث الجهات جميعاً تؤدي إلى مرفأ الصدر

مثلْ خليج الذراعين،

تستقبلان ولا تعرفان الوداع

تريد من الطائرات الرجوع فقط

والمطارات للعائدين

تحط بها، ثم لا تقلع الطائرات (121)

و كذلك يبرز دور المرأة في حياته كزوجة، فقد كان لزوجته د. رضوى عاشور كبير الأثر لتحمله مصاعب رحلة الحياة فبعد زواجه منها و إنجابها لابنهم الوحيد تميم – بعد تأجيل بسبب عدم استقرار الأوضاع السياسية- أبعد عن القاهرة لمدة 17 عاماً ولكنها حافظت على زواجهما وحبهما و دعمها له و ارتضيا اللقاء لمدة 3 أسابيع في الشتاء و 3 شهور في الصيف حتى كتب الله لهما لم الشمل ثانية في القاهرة و هي و إن قامت بتربية ابنهما تميم في القاهرة فقد غذت فيه حبه لوطنه الأم و ساعدت أباه في تنشئته كما لو كان يعيش مثل أبيه في قرية  دير غسانة ومدينة رام الله.

والجزء الثاني من السيرة الروائية “ولدت هناك، ولدت هنا” يعطينا الكثير من المشاعر و الأخيلة و الصور عن عودة الابن مع أبيه إلى فلسطين للحصول على الهوية الوطنية و يمشي في القرية و المدينة بثقة و حب و سعادة ذاكراً أسماء الأماكن و الشوارع كما حفظها بذاكرته ووعيها في قلبه من أبيه بل و يقيم أمسية شعرية في ساحة القرية بعدما كان لأبيه قصب السبق في ذلك في زيارته الأولى قبل عامين بعد الغياب الطويل، وعندما قدَمّ مريد البرغوثي ابنه الشاعر تميم البرغوثي لأهل قريته لم ينس فضل زوجته عليه و على ابنه وأراد تكريمها برغم غيابها عن المشهد الجميل:

“هذا الشاب الذي ولد في مصر لأم مصرية والذي قضى عمره كله بعيداً عنكم والذي لم ير دير غسانة إلا قبل ثلاث ساعات فقط، سيقرأ قصائد عن فلسطين باللغة الفصحى، وغيرها باللهجة العامية الفلسطينية، وسوف يغني أغاني البلد، العتابا والميجانا والدلعونا، وإن كنتم تظنون أن أباه الفلسطيني هو من أدخل فلسطين إلى قلبه وعقله فأعلموا أن أمه المصرية رضوى عاشور هي التي صانت فلسطينيته ورعتها بحبها هي لفلسطين، وأسمحوا لي أن أوجه لها التحية من هنا وأن أخبرها أن تميم يقرأ شعره الآن في ساحة دير غسانة”. (ولدت هناك، ولدت هنا139)

مريد ورضوى وتميم
مريد ورضوى وتميم

صلة المثقف بالسلطة

 برغم عمله قي منظمة التحرير الفلسطينية في بودابست ثم في رام الله الا أن موقفه كان دائماً محدداً و صريحاً من معارضته من اتفاقيات أوسلو التي تم بموجبها منح الحكم الذاتي للفلسطينيين فلاتزال السيادة و الكلمة النهائية للمحتل و هو لا يتردد عن الاستقالة عن أي منصب عندما يرى الفساد الإداري متفشياً في هذه المؤسسة أو تلك، و برغم انتقاده العلني للسلطة ورموزها حتى في حفل منحه جائزة فلسطين في الشعر العام 2000 في قصر الثقافة برام الله أنتقد السلطة الفلسطينية (بحضور قياداتها في القاعة)على المعلن والمضمر من خياراتها السياسية وكرر ما هو معروف عنه من تشبثه بالدور الانتقادي للمثقف وباستقلالية الإبداع، نجده في كتابيه يتناول هذا الخلاف بنبرة عقلانية هادئة لا يشوهها أي تشنج أو عناد أو تشبث بالرأي، و الأجمل من هذا هو حديثه بمحبة و إخلاص عن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات برغم اختلاف توجهاتهما السياسية، فيرسم صورة الرئيس الإنسان الذي لا يتوانى عن مساعدة من يحتاج مساعدته، الإنسان الذي كان يفاخر بتسامحه الديني، وحينما بلغه خبر وفاته و هو في جولة أدبية في أجمل بقاع الريف الانجليزي لم يكن بوسعه أن عن يعبر عن حزنه لوفاته سوى أن يقطع جولته و يعود سريعا إلى لندن … “دار الشريط الطويل في البال. هذا زعيم عربي، طعامي أفضل من طعامه، شرابي أفضل من شرابه وملبسي أكثر أناقة من ملبسه، صورته معلقة على حائط مهشم، إطارها دوي الراجمات والقنابل والرصاص الذي يستهدفه، في ليل مقره المضاء بشمعة أو شمعتين تم العثور عليهما بالصدفة في المكان ” (ولدت هناك، ولدت هنا 198)

و هذا الوفاء للخصم السياسي يوازيه أيضاً وفاء كبير لرفاق الدرب في النضال السياسي لا بالذخيرة و البارود و لا بالانشقاق، بل بسلاح القلم و الريشة ففي السيرتين نجد روحيّ غسان كنفاني الروائي والقاص والصحفي الفلسطيني الذي تم اغتياله على يد جهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد)عام  1972 في بيروت  و ناجي العلي رسام الكاريكاتير السياسي الشهير مع البرغوتي في رام الله ثم نجده هو مع عائلتيهما و أبنائهما في المنفى يشد من أزرهم و يرفع من معنوياتهم و يكون معهم في ذكرى الرحيل، وقد رثى  العلي شعراً بعد زيارة قبره قرب لندن بقصيدة أخذ عنوانها من إحدى رسومات ناجي  و هي (أكله الذئب).

نختم بمقاطع من قصيدة القدس لتميم مريد البرغوثي الابن الشاعر الذي أصبح أستاذاً في العلوم السياسة في جامعة جورج تاون بواشنطن وله عدة دواوين شعرية وكتب سياسية، الأمر الذي ولا بد بدوره سينقل حتماً حب فلسطين والأمل بالعودة إلى أبنائه وهكذا إلى أن نصل إلى اليوم الذي يستطيع المسلمون فيه الصلاة في المسجد الاقصى إن شاء الله تعالى بلا خوف ولا تهديد، ومناسبة القصيدة أن تميم البرغوثي مُنع من تأدية صلاة الجمعة هناك حيث كان سنه أقل من 35 وكانت سلطات الاحتلال الإسرائيلي تمنع ذلك لدواعٍ أمنية:

مَرَرْنا عَلــى دارِ الحبيب فرَدَّنا

عَنِ الدارِ قانونُ الأعادي وسورُها

فَقُلْتُ لنفســي رُبما هِيَ نِعْمَةٌ

فماذا تَرَى في القدسِ حينَ تَزُورُها

تَرَى كُلَّ ما لا تستطيعُ احتِمالَهُ

إذا ما بَدَتْ من جَانِبِ الدَّرْبِ دورُها

وما كلُّ نفسٍ حينَ تَلْقَى حَبِيبَها

تُـسَرُّ ولا كُلُّ الغـِيابِ يُضِيرُها

فإن سـرَّها قبلَ الفِراقِ لِقاؤُه

فليسَ بمأمـونٍ عليها سـرُورُها

متى تُبْصِرِ القدسَ العتيقةَ مَرَّةً

فسوفَ تراها العَيْنُ حَيْثُ تُدِيرُه

في القدسِ شرطيٌ من الأحباشِ يُغْلِقُ شَارِعاً في السوقِ..

رشَّاشٌ على مستوطنٍ لم يبلغِ العشرينَ،

قُبَّعة تُحَيِّي حائطَ المبكَى

وسياحٌ من الإفرنجِ شُقْرٌ لا يَرَوْنَ القدسَ إطلاقاً

تَراهُم يأخذونَ لبعضهم صُوَرَاً مَعَ امْرَأَةٍ تبيعُ الفِجْلَ في الساحاتِ طُولَ اليَومْ

في القدسِ دَبَّ الجندُ مُنْتَعِلِينَ فوقَ الغَيمْ

في القدسِ صَلَّينا على الأَسْفَلْتْ

في القدسِ مَن في القدسِ إلا أنْتْ!

وَتَلَفَّتَ التاريخُ لي مُتَبَسِّماً

أَظَنَنْتَ حقاً أنَّ عينَك سوفَ تخطئهم! وتبصرُ غيرَهم

ها هُم أمامَكَ، مَتْنُ نصٍّ أنتَ حاشيةٌ عليهِ وَهَامشٌ

أَحَسبتَ أنَّ زيارةً سَتُزيحُ عن وجهِ المدينةِ، يا بُنَيَّ، حجابَ واقِعِها السميكَ

لكي ترى فيها هَواكْ

في القدسِ كلًّ فتى سواكْ

وهي الغزالةُ في المدى، حَكَمَ الزمانُ بِبَيْنِها

ما زِلتَ تَرْكُضُ إثْرَهَا مُذْ وَدَّعَتْكَ بِعَيْنِها

رفقاً بِنَفسكَ ساعةً إني أراكَ وَهَنْتْ

في القدسِ من في القدسِ إلا أَنْتْ

 والقدس تعرف نفسها..

اسأل هناك الخلق يدْلُكَ الجميعُ

فكلُّ شيء في المدينة

ذو لسانٍ، حين تَسأَلُهُ، يُبينْ

في القدس يزدادُ الهلالُ تقوساً مثلَ الجنينْ

حَدْباً على أشباهه فوقَ القبابِ

تَطَوَّرَتْ ما بَيْنَهم عَبْرَ السنينَ عِلاقةُ الأَبِ بالبَنينْ

 في القدس أبنيةٌ حجارتُها اقتباساتٌ من الإنجيلِ والقرآنْ

في القدس تعريفُ الجمالِ مُثَمَّنُ الأضلاعِ أزرقُ،

فَوْقَهُ، يا دامَ عِزُّكَ، قُبَّةٌ ذَهَبِيَّةٌ،

تبدو برأيي، مثل مرآة محدبة ترى وجه السماء مُلَخَّصَاً فيها

تُدَلِّلُها وَتُدْنِيها

تُوَزِّعُها كَأَكْياسِ المعُونَةِ في الحِصَارِ لمستَحِقِّيه

إذا ما أُمَّةٌ من بعدِ خُطْبَةِ جُمْعَةٍ مَدَّتْ بِأَيْدِيها

وفي القدس السماءُ تَفَرَّقَتْ في الناسِ تحمينا ونحميها

ونحملُها على أكتافِنا حَمْلاً إذا جَارَت على أقمارِها الأزمان

 يا أيها الباكي وراءَ السورِ، أحمقُ أَنْتْ؟

أَجُنِنْتْ؟

لا تبكِ عينُكَ أيها المنسيُّ من متنِ الكتابْ

لا تبكِ عينُكَ أيها العَرَبِيُّ واعلمْ أنَّهُ

في القدسِ من في القدسِ لكنْ

لا أَرَى في القدسِ إلا أَنْت.

** محاضرة ألقيت في الصالون الثقافي (المنتدى) بمكة المكرمة في 1-7- 1433.

المصادر

  • البرغوثي، مريد. رأيت رام الله. الطبعة الثالثة، المركز الثقافي العربي: الدار البيضاء،2008.
  • ولدت هناك، ولدت هنا. الطبعة الثانية، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2011.
  • يوسف، شوقي بدر. “«المفتون» والسيرة الروائية”: مجلة الرافد. 20.4.2012http://www.arrafid.ae/.
  • http://www.thaqafa.org/site/pages/default.aspx. The Web. 26.04.2012.
قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.