حامد عبد الصمد-روائي مصري-سماورد
مهما مرّ العالم الإسلامي بمراحل من الانفتاح والتنوير، فإن العودة للأسلمة كانت دائماً بديلاً مطروحاً بصفة
دائمة. ففي حين شهد القرن الثامن الميلادي مناقشات مفتوحة حول القرآن وقدسيته وحول الشريعة ودورها وآراء مستنيرة لمدارس فكرية مثل المعتزلة، نجد أن نهاية القرن العشرين شهدت مقتل محمود محمد طه فى السودان وفرج فودة في مصر، وتطليق نصر حامد أبوزيد من زوجته واتهامه بالكفر. ولم تكن جناية الثلاثة سوى أنهم أعادوا فتح الملفات الشائكة لدور القرآن والشريعة والخطاب الديني في المجتمع الحديث.
لو قارنا العالم الإسلامي المعاصر بسفينة الـ “تيتانك” قبل غرقها لوجدنا تشابهاً كبيراً بينهما. السفينة الإسلامية تقف وحيدة ومكسورة وسط محيط بارد ولا تدرى كيف النجاة. مسافرو الدرجة الثالثة ينامون في جحورهم، ولا يعلمون شيئا عن المصيبة القادمة. الأغنياء يحاولون الفرار في قوارب النجاة القليلة ويريدون في الوقت ذاته أن يربحوا من الكارثة. رجال الدين يكررون نفس الطلاسم والشعارات ويطالبون الناس بالصبر. أما من يسمون أنفسهم بالمصلحين فيذكرونني بعازفي الموسيقى على متن الـ “تيتانك” الذين واصلوا العزف حتى غرق السفينة. كانوا يعزفون ويعزفون رغم إدراكهم أن لا أحد ينصت إليهم على الإطلاق.
ولكن هناك فرق واضح بين السفينتين. فبينما دخلت الـ “تيتانك” للبحر جديدة وعملاقة، كانت السفينة الإسلامية قديمة ومهشمة منذ قرون. كانت محملة بما يزيد عن طاقتها وتسير بلا بوصلة. ولأنها لم تدر إلى أين تريد أن تذهب كانت كل رياح البحر غير مناسبة لها. وكان احتكاك بسيط بجبل ثلج اسمه “الحداثة” سبباً كافياً لتفقد السفينة الإسلامية توازنها. والآن نراها تقف مكسورة تملؤها مياه البحر، ومع ذلك يصر معظم ركابها على أنها لن تغرق لأنهم يرون في إبحارها أمراً إلهياً.
مرور الوقت وحده لم يكن كافياً من أجل إحداث التغيير، وكأن الحداثة كانت دوماً تبحث عن المسلمين في دائرة مغلقة بدايتها نهاية ونهايتها بداية. وخطوة واحدة نحو الانفتاح كان يتبعها في أغلب الأحيان خطوتان نحو الانغلاق. ففي عام 1937 كتب إسماعيل أدهم كتيب بعنوان “لماذا أنا ملحد”، شرح فيه قناعته بالإلحاد وسعادته به مثل قناعة المؤمن وسعادته بإيمانه. لم يُحدث هذا الكتاب أية ضجة في المجتمع المصري حينها، وجاء الرد الوحيد عليه من الشاعر أحمد زكى أبو شادي في مقال “لماذا أنا مؤمن” وانتهت القصة عند ذلك الحد. كان المجتمع المصري حينها في طريقه لامتصاص فكر الحداثة وفصل الدين عن السياسة وخلق مجتمع مدنى يحترم جميع مواطنيه، مهما كانت انتماءاتهم الدينية والفكرية. ولكن تلك الحداثة كانت مبنية على أساس هش في مصر، حيث لم تصل أفكارها سوى لشريحة بسيطة من المجتمع، لذلك، فقد كان من السهل التغلب عليها، والعودة للفكر المتزمت مرة أخرى. فلو كتب اليوم أحداً كتاباً يشرح فيه أسباب قناعته بالإلحاد فلن يأمن من أبواق المتأسلمين ورصاص الإرهابيين. فقد تم إعدام محمود محمد طه في السودان عام 1985 لمجرد أنه اعتبر الشريعة الإسلامية كياناً تاريخياً كان يجيب على متطلبات المسلمين في المدينة المنورة فقط، كما رأى أن الآيات المكية من القرآن صالحة لكل العصور لأن بها نظرة كونية شاملة، أما الآيات المدنية فرأى طه أنها مرتبطة بأحداث بعينها ولى عصرها. كما لقى فرج فودة مصرعه على يد الإرهابيين في عام 1992 لأنه كان من المطالبين بفصل الدين عن السياسة، وتوجه نصر حامد أبو زيد عام 1995 إلى هولندا فاراً من صراخات التكفير التي تعقبته بسبب كتاب كان نشره في ثمانينات القرن الماضي حول مفهوم النص القرآني.
نعم.. إن الفكر العربي والإسلامي كانا أكثر انفتاحاً ونضوجاً في بدايات القرن العشرين عما هو الحال في بدايات القرن الحادي والعشرين، ولكن هذا لا يعنى أن الناس كانوا حينها أقل إيماناً من اليوم، بل صار هذا الإيمان أكثر صورية وحنجرية اليوم، وصار يفتقد الجوهر والسكينة.
هناك أسباب كثيرة أدت إلى هذا التزمت الفكري، وأهمها في نظري هو فشل كل محاولات التحديث، التي لم تجلب للناس الديمقراطية والرخاء. أما السبب الآخر فهو عدم تنقية الفكر الإسلامي من مرض الأصولية وعبادة النص، وهو مرض ليس حديث بالمرة، وليس – كما يرى الكثيرون – مجرد رد فعل على الحداثة و العولمة. فالأصولية والميل للتزمت عمرهما من عمر الإسلام نفسه، وكانت كل أزمة يمر بها المسلمون تعيدهم إلى الأصولية مرة أخرى، فبعد الفتنة الكبرى وانفصال الشيعة ظهر فكر ابن حنبل المبنى على قدسية النص، وبعد هجوم الصليبيين والتتار انتعش الفكر المتزمت الذى أحياه ابن تيمية، وفى نهايات القرن الثامن عشر ظهر في السودان فكر المهدي وفى الهند فكر المودودي كرد على الاستعمار.. ثم ظهر الإخوان المسلمون في مصر الذين كانوا نواة لجميع الحركات الإسلامية والتكفيرية الجديدة. وهناك في أحراش أفغانستان التقت كل هذه الأفكار وكونت تحالفاً غريباً نتج عنه تنظيم القاعدة الذي يمثل حضيض الفكر الإسلامي المعاصر.
’’هناك أسباب كثيرة أدت إلى هذا التزمت الفكري، وأهمها في نظري هو فشل كل محاولات التحديث، التي لم تجلب للناس الديمقراطية والرخاء’’
في الحقيقة فإنه لا يوجد في التاريخ الإسلامي عملية يمكن مقارنتها بحركات (التنوير) في أوروبا، فكل محاولة إصلاح فكري أو ثقافي كانت فردية جاء بها علماء أفذاذ من أمثال المعتزلة و ابن رشد و محمد عبده ونصر أبوزيد وعبد الكريم سروج وعابد الجابري، ولكن هذه الأفكار والمحاولات لم تكن سوى قنوات صغيرة في صحراء شاسعة، ففقدت مياهها قبل أن تلتقي وتصبح نهراً يشق طريقه صوب المحيط. لم تكن سوى موجات صغيرة تحطمت على صخرة الأصولية العنيدة.
إن كلمة process الإنجليزية تختلف تماماً عن مرادفتها العربية (عملية) ففي حين تعنى الكلمة الإنجليزية سيرورة طويلة من المحاولات والإخفاق، تعبر الكلمة العربية عن عملية قصيرة محدودة، ولذلك فإننا نطلق نفس اللقط على العملية الجراحية. ربما يكمن هنا سر فشل جميع (عمليات) الإصلاح والتنوير التي بدأت في مجتمعاتنا الإسلامية ثم ذهبت طي النسيان، لأنها كانت محاولات موقوتة لم تبن على ما هو موجود أو تمهد لما هو قادم. ولعل قصة عباس بن فرناس أصدق دليل على ذلك، فقد كان عالماً فيزيائياً نابغاً درس حركات الطيور وحلم بتقليدها، فأجرى حسابات دقيقة وصنع جناحين من الريش ثم حاول الطيران في سماء قرطبة في القرن التاسع الميلادي. ولكن رحلة طيرانه لم تتعد أربعمائة متراً سقط بعدها على أرض الواقع وانكسرت ساقاه. لم يكرر ابن فرناس محاولته مرة أخرى ولم يجرؤ عربي واحد على إعادة المحاولة. ربما تصف هذه القصة حالة الفكر العربي الذي لم يفتقر أبدأ للنوابغ، ولكنه افتقد للاستمرارية والتواصل والتخطيط على المدى البعيد. قصة ابن فرناس هي بلا شك أيضاً قصة الإصلاح أو اللا إصلاح في العالم الإسلامي.
بالطبع لعب الاستعمار دوراً هاماً في عرقلة الحركات الإصلاحية، فقد كانت القوى الاستعمارية معنية بنهب ثروات البلاد المستعمرة في المقام الأول، ولكن البكاء على الحقبة الاستعمارية اليوم لا يفيد أحداً، فقد استعمرناهم مرة واستعمرونا مرة. وعلى العموم فإن الاستعمار كانت له أشكال مختلفة، ومهما كانت شراسته وجشعه فإنه جاء بأدوات الحداثة التي لم نحسن استخدامها. وهناك فرق شاسع بين الاستعمار الفرنسي والاستعمار البريطاني: فالإنجليز لم يتدخلوا في الشؤون الثقافية والحضارية لمستعمراتهم، واكتفوا بالسيطرة على الثروات والموارد، لذلك فنحن نلوم عليهم عدم المبالاة والاستغلال؛ أما الفرنسيون فكانوا حريصين على بناء المدارس ونشر اللغة والثقافة الفرنسية في مستعمراتهم، فلمنا عليهم محاولة طمس ثقافتنا وهدم مقدساتنا. إذن فهم الجناة دائماً ونحن الضحايا دائماً، وهذه نظرة منقوصة للتاريخ فوتت علينا فرصاً كثيرة للانفتاح على العالم والاستفادة من الآخرين، فقد ظللنا محبوسين في دور الضحية ظانين أنه لا يأتي خيرٌ أبدا من بلاد (الكفر)”. وحتى بعد مرور عشرات السنوات من نهاية الاستعمار، مازلنا نشكك في نوايا كل مصلح ونصفه بالعمالة للغرب، ومحاولة النيل من تراثنا وثقافتنا، فنقتل كل جنين للتغيير قبل أن يلتقط أنفاسه الأولى.
ولكن ضراوة الاستعمار وقسوته ليست السبب الرئيسي لحالة التشنج التي نتعامل بها مع الغرب اليوم. أيضاً ليست فقط قضايا المسلمين غير المحلولة في فلسطين والعراق والشيشان وراء حالة (الزعل المزمن) التي تسيطر على علاقتنا بالغرب، ولكنى أعتقد أن نظرة المسلمين لأنفسهم وإحساسهم بالضعف وقلة الحيلة، هي وراء حالة التشنج هذه. والكاتب الفرنسي التونسي عبد الوهاب مدب يرى أن المسلمين لم يقبلوا بعد حقيقة أنهم فقدوا الريادة في العالم منذ زمن بعيد، فهم لا زالوا مصرين على أحقيتهم في قيادة العالم، وأن هذا التفكير يقف عائقاً بينهم وبين الغرب الذي سحب البساط من تحت أقدامهم. ويرى مدب أن هذا هو السبب الحقيقي لكراهية المسلمين للغرب، وأن هذه الكراهية هي غذاء الأصولية التي يسميها مدب (مرض الإسلام).
ويصف الفيلسوف الألماني نيتشه الشخص الكاره الحقود بأنه شخص يعتقد أنه أفضل من الظروف التي يعيش تحتها وأنه أسمى من العالم المحيط به، وأن الكراهية المزمنة هي شعور ينتج من إحساس غير موضوعي بأن هذا الشخص مظلوم على طول الخط. ويشبه نيتشه هذه الكراهية بالحمى، التي لا يشفى الشخص منها أبداً فتؤدي في النهاية إلى تسمم ذاتي. كما يصف الفيلسوف أدورنو الكراهية بأنها الموتور الأخير الذى يحرك مجموعة من البشر إذا فقدت كل طاقاتها، وأن العدو والشعور الدائم بالكراهية نحوه هما مصدر لتجميع القوى المسلوبة، وهى ظاهرة موجودة حتى في مباريات كرة القدم.
للاطلاع على الكتاب على موقع قودريدز