اللغة من الكلام إلى المعنى
إيمان بلعسري – المغرب
لكم يكلفنا الكلام؟ ماذا يعني أن نتكلم ونكون كائنات متكلمة قادرة على الحديث والتواصل السرد والتعبير؟ في محاولة للجواب، أقول إن اللغة لم تغب في أي مرحلة من مراحل الوجود الإنساني؛ للتاريخ كلمته في ذلك، على شاكلة لغات قديمة ساعدت على اكتشاف أسرار حضارات بلت منذ قرون، كما هو الحال للغة السومرية والهيروغريفية… إلخ. تنتج اللغة وتنتهي بما يسمح به قانون التحول والصيرورة الإنساني على اعتبارها لا تنفصل عن تمنطق عالم الإنسان؛ إن كان داخليًا أو خارجيًا؛ ما يبعث في الصميم فعلًا هو تمفصل مفهوم اللغة كرمز يشير لمعنى ما من المعاني أو حقيقة معينة قد تواجه مخاضًا لتوليد حقيقة أخرى مختلفة عن الوليد الأول لحظة ترجمتها (الأدب كنموذج).
تندرج اللغة ضمن وظائف التكيف داخل المجتمعات الإنسانية، فأول ما يطلب منك في القنصليات الأجنبية هو إمكانية التواصل بلغة البلد المضيف لك قبل أن تكون مطلوبًا بثمن التأشيرة وتكاليف السفر بكل بساطة: “هل يمكنك الانتقال من هويتك الشخصية نحو هويتك المختارة من دون حواجز؟”، ذلك لأن المادة حالها كحال كل ما هو قابل للزوال أو الحضور في أي وقت؛ لكن اللغة، على العكس من ذلك تمامًا، تتطلب جهدًا ومالًا، والأكثر تكلفة لأنها تنقل الإدراك بسرديات جديدة على متلقيها تابعة لثقافة الشعب الذي يتواصل من خلالها؛ فمفاهيم الفرح والحزن والاحتفال تختلف من ثقافة لثقافة؛ لأن ما يحكمها هو الموروث الإنساني الذي ولد أثناء الكلام بين طائفة / شعب / أقلية / مجتمع.
بهذا الشكل، تكون اللغة جملة من الرموز المؤثرة والمستقبلة تحتمل العالمين المادي، والخلفي للأسطورة والقصة الشعبية والفن؛ الأمر الذي يجعل منها عملية تبادلية للأخذ والعطاء بين الممكن والمحتمل والجديد، لذلك صنفت الفلسفة الإنسان ككائن يختص بالكلام قبل كل شيء وأي شيء في حالتي الجهر والصمت “حيوان ناطق”؛ فالأفكار نعبر عنها بالكلمات والعبارات والعلامات والمدلولات الكفيلة بتكثيف الانفعالات والأحاسيس والهواجس العقلية، مما يفسر عدم إمكانية الحيوانات على الكلام، بكل بساطة، لأنها معدمة من ملكة العقل والتساؤل فهي تكتفي بالإشارة (النباح مثلًا) كمجرد فعل فيزيائي لا تنفك روابطه عن روابط طبيعية مادية محضة؛ وكبديل عنه يتنقل إلى الترميز باعتباره دليلًا نحو التأويل والتدليل، وبالتالي الإبداع؛ مما يخلق انطباعًا يتجاوز من خلاله الإنسان الجانب الحسي نحو النقدي، كما هو الحال بالنسبة للغة أديب أو مفكر، أو على نطاق أوسع إنسان اختار أن يمتهن الكتابة كحرفة له، إذ يمرر من خلال لغة شخصية جملة من التساؤلات والاهتمامات واللحظات الحميمية والإيحاءات تخاطب ذكاء قارئ نهم يشاغب المعنى من حين لآخر؛ فالفكر متضمن في اللغة، واللغة متضمنة للفكر، ولا يعزى مساحة لفصل أحدهما عن الآخر حتى في لحظات الصمت المؤججة لثرثرة “لغة داخلية” غير معلنة.
تبلغ اللغة أوجها في تتويج فكرة، لكنها قد تفشل عندما تخوض معركتها مع ترجمة فكرة من لغة إلى لغة أخرى بشكل حرفي، أو تدوين إحساس بشكل خالص لاغية الاستعارات والتشبيهات، وجل الوسائل الناعمة لتكوين كرة ثلج قابلة للذوبان لحظة التلقي بها للوهلة الأولى. من جهة أخرى، إن بيولوجية الإنسان تفرض وجودها في اللغة هي الأخرى، من خلال عنصر التعود على لغة من خلال التنشئة ومخرجات المناهج التعليمية؛ ما يجعل من العضلات المكتسبة تتحمل مسؤولية الفكر على عاتقها والجهر به فضلًا على التوليفات العضلية التي توضح الكلمات لحظة الإفصاح عنها؛ فاللغة الظاهرة بصوت مسموع تختلف كل الاختلاف عن اللغة المشوشة التي تطفو على شاكلة وشوشة، أو حركة تحتمل الشك قبل اليقين بها، لا لشيء سوى أنها خرجت عن نطاق تمرس العضلات وتوليفاتها إلى المرحلة الأولية ما قبل اللغة وما قبل الإنسان “الإشارة”.
في المقابل، وعلى الرغم من مخلفات اللغة المشوهة التي قد ينتجها الصمت، فإن اللغة الظاهرة قد تتيح ما تتيحه أية عملية صناعية لآلة معينة:” التوجيه، الإشارة، الأمر” كما هو الحال للسيارات الحديثة الأتوماتيكية التي تفكر بدلًا عن سائقها، وتدله إلى الطريق من دون أن يكتنف عناء التنقيب في خريطة ورقية، وقد تحذره من انتهاء الوقود آمرة إياه بالتعبئة الطاقية للسيارة. كل هذه الأعمال تتسلمها اللغة دون أن تتخلى عنها لغيرها، عبر جهاز السلطة كمفهوم يطبع العلامات الإنسانية للمجتمعات الحديثة. في هذه الحالة، تكون اللغة مساحة شاسعة من سلطة الكلمات طبعًا لما تفرضه عبر العنف المشروع: “القوانين والتقاليد والأعراف”، فالحرام في الشرق ليس هو الحرام في الغرب مثلًا، إذ تحتمي كل لغة بمفمهة الممنوع حسب الثقافة التي دونت كلماتها؛ فالنظم الاجتماعية هي تجمهر للسنن اللغوية، وكل إخلال بها يشكل تزحزحًا لتوازن مبتدع وغير قابل لخلخلته. لو أخذنا الاسم على سبيل المثال، لكل منا اسمه لكن ماذا لو ناداك أحد بغير اسمك؛ أول ردة فعل لك هي الاستغراب، لكن مباشرة بعد الاستغراب ستصحح لمخاطبك سوء فهمه من خلال الإعلان عن اسمك الشخصي. قد تبدو هذه ردة فعل عادية، غير أنها في العمق، تعبر عن مدى ارتباط الذات بالمألوف الذي يرفض أي استيلاب ذهني كتسمية الأشياء بغير مسمياتها. هذا ما ينطبق، على وجه أقرب، على الاستعمال غير الصحيح للغة؛ حيث الخلط بين خليطين غير متجانسين تمامًا، كالمزج بين خطاب السياسة وخطاب القداسة أمر يثير الالتباس ويخلق قطيعة الذات مع العالم، والعالم مع الذات، ولو أن كل منهما متضمن في الآخر، لكن الفصل ممكن في لحظة المزج المغلوط بين خطابين لا علاقة بينهما، مما يعزو له قيام أنظمة جديدة على أنقاض القديمة، أو العكس الاستمرار على وتر الوضع السائد وتدوير بذور فوضى ستعلن عن وجودها فيما بعد.
اللغة هي قوننة للحوار من خلال الحوار ذاته في استعمال سليم للمصطلحات والكلمات المتاحة لتنظيم العلاقات بين الناس وترتيب أولويات الشخص كشخص، والمواطن كحيوان سياسي، والميت ككائن قابل للعدم كل على حذا؛ فاللغة هي تلك القوة الموجهة للدخول أو الخروج من العالم، ولو أنها تتواطأ مع السلطة في اختلاق سلطة أخرى تتكلف بالنهي، والأمر والعقاب النفسي حين يقتضي الحال؛ لاسيما داخل قاعات العرض والفصل الدراسي…إلخ. كل ذلك يندرج في لائحة الآداب والأخلاق العامة الموجودة فعليا تحت توقيع اللغة، الأمر الذي يحد من تحقيق الحياة الداخلية لصالح نظيرتها الخارجية، شقاء للوعي لكنه شقاء ضروري ولابد منه، اختاره أجدادنا للسلام والتعاقد على التغلب على الشر وفق تعاليم متفق عليها في وقت كان يسود فيه القوي على الضعيف، ولا يبقى للإنسان إلا أن يدرب نفسه على القتال بدل التفكير والمعرفة.
المثير للانتباه، أن اللغة حتى في حالة الدولة لم تتخلص من مفهوم السيادة، كشرعية إطلاق التسميات والألقاب داخل المجتمع؛ ما يجعل تأصل اللغة ينبع من السلطة والهيمنة، كما هو الحال بالنسبة لانسحاب النخب المثقفة من النقاشات الراهنية حذو الأفكار الطوباوية تارة، والإصلاحية تارة أخرى، من دون محاولة المشاركة في تفعيل أي منهما؛ الأمر الذي يجعل المهمش في مكانه، والمثقف المطقم على ناصية برجه العاجي، مما يستبيح صراعًا طبقيًا، ليس بين من يملك ومن لا يملك، بل بين من يعرف ومن لا يعرف ومن يحاول أن يعرف، وسط كل هذا اللغط يضمر الفعل ويطمر، فيصعد للسطح بقايا الشيء المتنازع عليه: “الحق”.
التعارض لم يعد بين الخير والشر، بقدر ما هو ممنهج بين القديم والجديد، فاللغة القديمة متداولة ومكررة لدرجة أنها تغدو نمطية، خاصة إن بلورتها أيديولوجية وقولبتها في لغة شعبية مستعملة، حيث يصبح كل شيء قابل للتكرار والتدوير مع تغيير الغلاف الخارجي، فالمعنى بالماضي هو نفسه معنى اليوم، وخطاطات ومضامين المشاريع الفكرية قد تكون تجسمًا محنطًا؛ بينما الإضافة فقط في الزمن، وفي وسائل التعبير عن عملية التدوير والتكرار.