تجربة أدبية

0 942

إبراهيم الأعيسر – السودان

 

البدايات الأدبية دائمًا ما تبدأ بالكتابات القصيرة مثل (القصة القصيرة، الخاطرة، القصائد العمودية)، ثم تتدرج بعدها إلى مراحل متقدمة نحو كتابة الرواية التي في ظني طغت مؤخرًا على الأجناس الأدبية الأخرى من حيث قيمتها عند القارئ – فرغبة القارئ هي وحدها من تحدد أو تحكم – خصوصًا الشعر منها الذي كان يحتل مرتبة أولى في عددية كتّابه وقرائه، وهو ما عرف واشتهر به العرب إقليميًا وعالميًا؛ وككثير من الكتاب الذين سبقوني في الكتابة، لم أخرج من دائرة المألوف: ابتدأت كتاباتي في العام ٢٠١٥م بكتابة القصة القصيرة، بعد أن ألهمتني قصة قصيرة يخيل لي بأن كاتبها شيطان ساحر وليس إنس هي “رسالة إلى إيلين” للكاتب الكبير عبقري الرواية العربية الطيب صالح، وما كتبه الكاتب والمترجم البريطاني (دنيس جونسون ديفز) في أدب القصة القصيرة، وهو من الكتاب والمترجمين الذين عرّفوا القارئ الإنجليزي بالأدب العربي، وأظنه ترجم للطيب صالح بعضًا من كتابته، وعاش جزءًا من حياته في القاهرة ووادي حلفا في السودان، والأخير هو ما تناول كتابته في قصته القصيرة (بريتشارد)، متحدثًا فيها عن السودان كبلد، وعن ناسه وحبه (لفاطمة) أو للمرأة السودانية. كذلك، كتب قائلا: ” أتذكر أن صديقًا سودانيًا من أصدقائي قال لي ذات مرة إنه لو لم يولد سودانيًا، فإنه كان يود أن يكون إنجليزيًا، وقد كان رجلًا استثنائيًا – رجلًا مثل طه حسين علا شأنه صعودًا من بدايات متواضعة – ونظرت إلى ذلك باعتباره مجاملة عظيمة لنا، وأجبته على نحو مماثل بأنني لو لم أكن إنجليزيًا لوددت أن أكون سودانيًا. ولم تكن هذه مجاملة جوفاء من جانبي، وإنما كنت أعنيها. فقد أحببتهم وأعجبت بهم كثيرًا، وبدا لي على الدوام أمرًا مؤسفًا أنهم الإنجليز لم يكن بوسعهم التقارب على نحو أكبر من مغادرتنا البلاد”. هذا الرجل الذي تناول الحديث عنه (دنيس) يُعتقَد لي أنه بروفسور عبد الله الطيب. لا أنسى، كذلك، الروائي النيجيري المدهش (جيمس نجوجي)، وقصته الملهمة (موجومو) الذي أظهر فيها ملكة خاصة في السرد عبر تصويره الدقيق للواقع. ولأني كنت من المحظوظين، استطعت سريعًا أن أنشر أول عمل قصصي لي أكتبه بصورة جادة، في العام ٢٠١٧م، على الملف الثقافي أو أصدقاء القصة القصيرة بصحيفة (الأوائل)؛ وهو “كوابيس إنسان من عالم هامش”، ثم نشرت بعدها بعض الأعمال الأخرى في صحف سياسية؛ كان وما زال إلى هذه اللحظة التي أخط فيها كلماتي من المستحيل أن ينشر عبرها كاتب في بداية مشروعه الأدبي، أو غير معروف في الساحة الثقافية نص أدبي؛ ذلك أن الملفات الثقافية كانت وما زالت تحتكرها (النخب الأدبية)، والمحررين بها يتعاملون بمبدأ إتاحة الأولوية (للنخب)، وقليل جدًا أو في مرات نادرة جدًا، ما يتم إتاحة الفرصة لغير (النخب) من الشباب، وهذا ما وجدته أو ما حصل معي تحديدًا بأن أستغل تلك الفرص النادرة التي أُتيحت لي. كذلك، لا أخفي في أن (الشلليات) الأدبية والثقافية تضيّق على الشباب في إعطائهم مساحة عبر المنابر الثقافية، لذلك الكاتب الشاب في السودان، والوطن العربي عمومًا، دائمًا ما يجد نفسه محل تهميش لوقت طويل من الزمن، ولا يًمنح قيمة إلا بعد مماته، كما حصل مع (بهنس)، والصديق الشاعر (لاتينوس) الذي روجت لأعماله مجموعة قليلة جدًا ومخجلة من قبيلة المثقفين وبعضًا من أصدقائه ومعارفه. لعل هذا، في ظني، ما ساهم في قتل مشاريع أدبية شبابية طموحة لها رسالتها النبيلة التي تخدم المجتمع، حيث التهميش وعدم وجود دعم معنوي ومادي يساهم في زيادة محصلة إبداع الكاتب.

في الحقيقة، أقول نعم تدرجت في الكتابة بالتوجه نحو كتابة الرواية في العام ٢٠١٩، وهذا ما نجحت فيه بكتابة عملين تمت إجازتهم للنشر من تكلفتي الخاصة وهذا من الأمر الطبيعي، لكن دافع الواقع الأدبي الذي تسيطر عليه (نخب) و(شلليات) مهووسة بالشهرة هو ما يجعلك تتجه لدور النشر كمنصة إعلامية يمكن أن توصل عبرها رسالتك الأدبية (فالكاتب هو صاحب رسالة قبل أن يكون كاتب ولو لا رسالته لم طوع قلمه صوب المفردة الأدبية أو هو ليس بكاتب إن كان فنه لا يحمل رسالة أو قضية). غير أن بعض دور النشر نفسها تتعامل بمبدأ إتاحة النشر (للنخب) طمعًا في جني الربح المادي وتفكيرها الدائم في مسألة الربح والخسارة؛ فالناشر يعتقد أن الكاتب الشاب يجلب له الخسائر التي تجعله يلعن اليوم الذي فتح فيه مؤسسة نشر. هذه من أسس الرأسمالية التي تذبح أحلام الكادحين (ملح الأرض)، لذلك لا عيب علي إذا قلت (أنا أؤمن بالفكرة الشيوعية ولا مانع أن أطوع لها قلمي) أو كما تقول مقولتي الخاصة (الشيوعي إذا أصبح ثري سوف يكفر بالشيوعية فكرة وناسًا ويقول ما هي إلا كفر وإلحاد وعدو للإسلام)، فالشيوعيون هم الفقراء والمبدعون في الأرض، أو كما أقول (البلد التي لا تملك شيوعيين لا تملك مبدعين)، حيث الجميل حميد، محجوب شريف، أزهري، القدال، مصطفى سيد أحمد، عركي البخيت.. إلخ، والقائمة تطول من الذين وجدوا حظهم من الإعلام، والذين لم يجدوا حظهم (المهمشين)؛ وللعلم من وجهة نظري لا أحبذ أن يكون الفنان مؤدلج ومنحاز لكيان حزبي محدد لأن (الفنان للجميع) فهو ليس ملك نفسه، لذلك أنا متحرر تمامًا من أي انتماء أو انحياز لحزب سياسي أو أيديولوجية سياسية محددة، وما ذلك إلا مبرر وجيه للبعض في محاربة الرأسمالية، لكن لا أخفي بأني أنحاز لشريحة المهمشين والفقراء، وهذا ما يمنع أو يخلق فكرة إني ضد باقي شرائح المجتمع، أو إني ليس خائضًا حربي ضدهم كما قد يفهم البعض، ولو كان هذا الحديث مناقضًا قليلًا في فكرة (الفنان  للجميع) وفي فكرة (الأدلجة الفنية)؛ لأن جلّ كتاباتي التي كتبتها، منذ أن عانقت القلم كانت تتناول قضايا المهمشين والفقراء في معانتهم، وأحلامهم البسيطة المقتولة، وعزلتهم عن العالم، وغربتهم الداخلية بين أوطانهم. لعل هذا سبب لي بعض المشاكل مع قلة من المثقفين أجبروني أن أدافع أمامهم (بشراسة) عن حريتي ورغبتي لمن أكتب وعن ماذا أكتب؟ لأفضل بعدها الانسحاب من عملهم الثقافي العام، رافضًا لثقافتهم إن كانت بهذا الشكل، وهذا أيضًا، ما أتوقع أن يحصل معي الآن أو مستقبلًا، لكني جاهزٌ للمدافعة بكل (شراسة) عن حبي لتلك الشريحة التي تعيش صراعها النفسي وحدها، باحثة عن حياة لا أكثر ولا أقل. في الحقيقة، أنا جزء من تلك الشريحة وجزء من تفاصيل حياتها اليومية، أعيش صراعها اليومي المتجدد؛ أحلامها وطقوسها ورفضها للواقع؛ فمشكلتي هي الفقر والفقر مشكلته أنا.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.