غسان كنفاني يمزق مرتين، واحدة بيد الصهاينة وأخرى بيد أخوة يوسف؟
هل كان غسان كنفاني في "عائد الى حيفا" يدعو للتعايش والصلح مع الصهاينة المحتلين
حين يفكر شخص ما في كتابة نص ما فهذا يعني بأن لديه ما يريد قوله لنفسه أو للآخرين، وهو حين يفعل ذلك فأغلب الظن بأنه يكون محاطاً بأجواء (الفضاء) تحيط بتلك اللحظة من الزمن التي يولد فيها النص، حتى وإن كان الموضوع له علاقة بمرحلة تاريخية سابقة في حياته، والكاتب عادة ما تكون بين يديه مادة خام يشتغل عليها. هذه المادة الخام قد تكون نتيجة بحث في موضوع معين، أو مدونات شخصية وملاحظات، أو ملف لقضية من مستشفى نفسي أو سجن ..إلخ، ويختار الكاتب “قالباً” معيناً يلبسه مادته السردية. قد يركز الكاتب في نصه على محور معين مثل الشخصية أو “المكان” أو إظهار الموضوع (رغم أنه لا يمكن الفصل بين كل هذه العناصر في العمل السردي، ولكن الجو العام للنص يوحي ببروز عنصر معين على العناصر الأخرى، لسبب أو لآخر). وحين يطبع هذا العمل وينشر تنقطع علاقته بمن كتبه ونشره ويصبح ملكاً للقارئ، والقراء ليسوا سواء، فهناك من يمتلك تصورًا معينًا لما يقرأ (أفق)، وقد تكون ثقافة المتلقي من ذلك النوع المتسائل نقديًا للنص، وهذا المتلقي سيكون له آراء وأفكار حول هذا المنتج، أفكار تخص الموضوع وتخص شكل وبناء النص. الرواية التي أنا بصدد قراءتها هي (عشرة أسابيع بجوار النهر) لعبد الله الوصالي التي جاءت في 282 صفحة من القطع الوسط، من إصدارات دار مسكيلياني للنشر، عام 2020م .
حين تجتمع كل هذه العناصر في نص واحد، أي أن يكون الأب فلسطينياً (مسيحي)، وابنته (ميرا، الشخصية الرئيسية التي يأتي السرد على لسانها)، وحين يحضر أدب أحد الأعلام النضالية الفلسطينية، غسان كنفاني، وتكون الحوارات بين الشخصيات العربية عن الموقف من الاحتلال الصهيوني، كل هذا يعني ويؤكد إلى حد كبير بأن الموضوع هو عن عروس عروبتنا – فلسطين.
أحداث الرواية عن الأب الفلسطيني الذي هاجر إلى أمريكا بعد التهجير، وعذابات المخيمات في لبنان وسوريا؛ وتجنس هناك، وتزوج من إمرأة أمريكية أنجبت له (طارق) و (ميرا)، وانتمى الى الحزب الديمقراطي الأمريكي .. إلخ، عاشت الفتاة 26 ربيعاً في كنف والدها، وتحت ناظريه ورقابته وهو المحتفظ بشرقيته، ولكنها تقرر متابعة دراستها العليا (الماجستير)، فتم قبولها في جامعة في مدينة أيوا، بهدف التخصص في الترجمة. وكان والدها قد بدأ معها بترجمة رواية (عائد الى حيفا) لغسان كنفاني، لأنه كان، كما تقول، يحب كتابات غسان.
وبالمصادفة، في تلك الفترة، تحتضن المدينة التي تسكنها (برامج التبادل الثقافي) الذي يحضره الكثير من الأدباء من مختلف دول العالم بما في ذلك الوطن العربي. وتعرف بأن هناك مجموعة من الأديبات والأدباء العرب مشاركون في البرامج، فتقرر المشاركة كمترجمة للنصوص من العربية إلى الإنجليزية. وهذه المشاركة فتحت لها المجال للتواصل مع بعض الشباب والشابات من أقطار عربية مختلفة، من السعودية (مرهف) والعراق (مرتضى) وسوريا (سلمى) ومصر (محمود) والسودان (شادية)، ومن بين المشاركين أيضاً شخص يهودي/إسرائيلي يعطي مساحة في النص لتقديم رأيه السياسي في ما حدث لفلسطين على يد أهله وجماعته.
صارت (ميرا) تعمل تحت إشراف دكتور (أدريان لاسيزيو)، وهو متخصص في ترجمة اللغة العربية. خلال مشاركتها في هذا البرامج، كونت علاقات مع هؤلاء الشباب، وعايشت حوارات ومناقشات مختلفة، وحاولت تسليط الضوء حول كل شخصية منها. وبعد انتهاء البرامج، وعودة كل منهم الى بلده، وبعد مرور سنتين أرسلت نص هذه الرواية إلى د. ادريان، ليراجعها ويدققها .. ويقول د. أدريان: “ميرا رفضت نشر الكتاب بعدما صار النص جاهزاً للنشر” قام هو بنشرها.
فضاء ولادة النص:
كل مخلوق يولد في فضاء معين، يعرف كل من تورط في عالم السرد والأدب بشكل عام بأن الفضاء الذي يولد فيه النص هو جزء غير مرئي من تركيبة النص، ويساعد كثيراً في فتح مغاليق بعض المعاني والدلالات الكامنة في رحمه، معرفة هذا الفضاء تساعد المتلقي على (التموضع) في مكان ما داخل النص، ليس بمعنى الرؤية الكلاسيكية النقدية التي تحاول تأويل النص من خارجة (المدرسة التاريخية، أو الاجتماعية أو النفسية)، ولكن النص ككائن، يتأثر بما حوله من ظروف تنعكس على محتواه وصياغته الداخلية (بنيته الداخلية). نحن، العرب، نمر الآن بمرحلة جدل لفظي وثقافي عنيف تجاه الموقف من الكيان الصهيوني المغتصب لأرض فلسطين العربية، بل أن البعض تجاوز الحديث والتنظير إلى ما هو أبعد من ذلك. والفضاء الذي أتحدث عنه، فيما يخص مشاريع الهرولة لأحضان الصهاينة ليس من قبل الساسة، فهذا مفروغ منه حتى على زمن الحروب الكبيرة مع الصهاينة، بل من قبل بعض (المثقفين) العرب، وهذا واضح في هذا النص.
يبدو أن المادة الخام الأساس، التي أستخدمت في بناء النص، هي عبارة عن ملاحظات أو مذكرات شخصية. والشيء بالشيء يذكر، يقال بأنك حين تشعر بأن الممثل يمثل فهذا يعني بأنه لازالت هناك مسافة بينه وبين صفة الفنان. هكذا أيضاً، في الكتابة السردية حين تقفز أمام القارئ نتوءات التدوين اليومية وتصرخ في وجهه، فهذا يشير الى إشكالية معينة في الكتابة، فهذه النتوءات تغيب الإحساس بانسيابية وعفوية الكتابة، وتظهر التكلف في السرد، وتتسبب في بروز التفاصيل بصيغة باردة، باهتة مثل أسماء الشوارع وتفاصيل الغرفة وأثاثها .. الخ.
النص السردي يعتمد على الملاحظات والتدوينات، هذا بكل تأكيد، ولكنه يسعى في المحصلة النهائية إلى صهرها في بوتقة تختلط فيها المساحات والألوان والعواطف والمشاعر والأفكار لتخرج بمنتج مختلف ومؤثر، وهي لحظة أشبه بالمرحلة الأخيرة التي يقوم بها النحات حين يعمد الى صنفرة كامل العمل ويخلصه من كل الخطوط الظاهرة بين أجزائه، ويجعله جسداً واحداً.. وهذا ما أشار إليه الروائي العراقي أحمد خلف في أحد مقابلاته: “إن ما أشعر به تجاه كتابة الرواية هو أن الصراع بين العفوية المطلقة في الكتابة وبين الموقف المعرفي الذي يسبق كتابة النص، وإدراك جوهر الصراع هذا، يمكن أن نطلق عليه (الاحتراف في الكتابة)، وهو قمة ما يصل إليه الكاتب من كثرة التجارب وسعة المعرفة والإطلاع على ما هو ضروري لفن كتابة الرواية”(1). هذه الرواية، بدت لي أمينة على الملاحظات/المذكرات اليومية لصاحبها؛ وأمانتها هذه جعلتها ناتئة ومكشوفة، ولهذا أثرت على جماليتها السردية بشكل سلبي ومفضوح.
ويلعب القالب دوراً في بنية النص، ومما تعلمته هو أن النظريات النقدية تطرح مفهوم القوالب الروائية، فحين يتحدث باختين أو لوكاش أو كولدمان أو مارت روبير أو غيرهم من النقاد عن قوالب بعينها ويعتبرونها المثال الذي يفترض أن يحتذى به في كتابة النص الروائي، وحين يكتب أي منظر عن نص آخر ليكون أيضا مثالًا للعمل السردي الذي يوفر الصيغة الجمالية للنص السردي الناجح (من وجهة نظر هذا الناقد/المنظر)… في كل هذه الأحوال نحن نتكلم عن قوالب يختارها المنظر حسب ثقافته وذائقته هو، وهي ليست معادلات كيميائية أو فيزيائية أو رياضية يفترض أن تصدق أينما استخدمت.
نص (عشرة أسابيع بجوار النهر) يعتمد أحد هذه القوالب، وهو قالب شبيه بذاك الذي كتبت به رواية (خزي) للروائي ج.م. كويتزي، الحائزة على جائزة بوك برايز عام 1999، وهي من أجمل ما قرأت. في هذا القالب تمر الشخصية في موقف، أو مشكلة، وعبر مسار النص تبدأ قناعات ومواقف وآراء هذه الشخصية بالتحول والتغير، وصولاً إلى نهاية الرواية حيث يفترض أن يلمس القارئ حقيقة هذا التغيير في سلوك وممارسات تلك الشخصية.
“هي رواية مكان” هكذا قال مؤلف الرواية عبد الله الوصالي، خلال أمسيته التي نظمها بيت السرد بجمعية الثقافة والفنون بالدمام، ولكن ما هو المكان في السرد، القصة والرواية؟ وما هو دوره؟. الكتب ومقالات النت التي تقدم تعريف المكان لا تعد ولا تحصى، ولكن الرأي (ولا أقول الإجابة) حول هذا السؤال يفترض أن يولد من داخل النص ذاته، وهي ليست آراء جامعة، مانعة أو مجردة، تنطبق على كل النصوص، كل نص يحمل تعريفه للمكان من خلال بنيته اللغوية وأدواته الجمالية من وصف وتصوير وحوارات ..الخ، ولكن بشكل عام فالمكان في العمل السردي (كما أفهمه) لا يعني فقط العناوين، وأسماء المباني، والمطاعم، والفنادق والأنهار التي امتلأت بها صفحات الرواية محل حديثنا بشكل ملفت. هذه مجرد أسماء يستطيع أي شخص الدخول على خارطة أي مدينة في العالم والحصول عليها بكل يسر وسهولة، بل أن هناك برامج تجعلك تزور داخل كل المعالم في تلك المدن من متاحف ومعارض ..الخ.
أستطيع أن أقول بأن أجمل وأقوى اللمحات عن المكان، في هذا النص، هي التي جاءت بالقرب من النهر، وذلك الربط الجميل بين ذكريات مرتضى العراقي مع أنهار وطنه، وذكرياته مع أمه عند تلك الأنهار، وكيف أن القصيدة تزوره وتهزه في مثل هذه اللحظات “هكذا استهل مرتضى حديثه ونحن نعبر الممر الإسمنتي سائرين نحو المقعد المجاور للنهر … كنت أقف أمام نهر الفولجا العظيم حين تذكرت دجلة .. ورأيت توحد المأساة والفقد الضحايا ” ص 113. بالإضافة الى لقطات بعض الشخصيات التي كانت تتجمع عند دكة الجلوس على ضفة النهر، وتدخن، أو تتلذذ ببعض البيرة .. أما الكثير من المشاهد التي قصد منها تصوير المكان فكانت عبارة ملاحظات دفترية أقرب الى مدونات سائح مرت على السطوح وتعسرت في الولوج لروح المكان وساكنيه. وتعويضاً لذلك، تحولت إلى وصف صالة الجلوس أو محتويات الغرفة أو المطبخ أو غرف الاجتماعات، وهي أماكن جديدة ربما دخلتها الشخصية المعنية منذ ساعات أو أيام محدودة.
يبدو لي بأن أغلب ما رصدته الرواية هو عبارة عن ملاحظات سريعة لشخص يزور مدينة ربما لأول مرة، وصار يسجل أسماء الشوارع والمعالم الرئيسية التي يزورها، ويسجل بعض الملاحظات عن صالات الاستقبال أو الغرف في الشقق ..ألخ وهذه ملاحظات لا ترقى بأن تجسد المكان في العمل السردي، قصصياً أو روائياً. خطورة المكان هي انعكاساته على ذاكرة الشخصيات التي تسكنها وتعيش فيها، وهذا بدون شك يتطلب زمناً لكي تختزن الذاكرة بعض الذكريات المرتبطة بالمكان بعد الانصهار به، وتحوله الى جزء من حياة الشخص ومعاناته.
ربما أن فهمنا للمكان مختلف، المكان قد يعني لدى البعض التفاصيل والمحتويات وقد يعني أمورًا أخرى، ولكن يبقى أن الغرض الرئيس هو إظهار روح المكان من خلال علاقته بما يحدث من علاقات إنسانية فالزنزانة التي سجن فيها نيلسون مانديلا لم تتجاوز 12 مترًا مربعًا، ولكن طول السنين حفرت على جدرانها بشكل لا مرئي، إلا من قبل مانديلا، ما يملأ عشرات المجلدات. بعض الأحيان، ينغمس المؤلف في تفاصيل المكان دون أن يشعر بأنه يغلب أمور تعتبر هامشية على أمور أكثر أهمية وفاعلية في العمل السردي.
أعتقد بأن المشكلة الرئيسية كانت في عدم اختمار مكونات المشهد، تدوين الملاحظات مهم، ولكنه لا يستطيع التدوين أن يخلق تلك الروح التي تربط بين المكان وساكنيه، فهذه الشخصيات لم تنغمس في المكان الى الحد الذي يخلق بينه وبينهم وشائج ذكريات ذات خصوصية نفسية وروحية وفنية بالإمكان أن تتلبس عملاً فنياً قادراً على مس الروح بشكل مؤثر.
غسان كنفاني:
ربما من أخطر وأهم النقاط في هذه الرواية هو إدخال رواية الشهيد غسان كنفاني (عائد إلى حيفا) في بنيتها، وتغيير عنوانها الى (العائد إلى حيفا)، فهل كان هذا الأمر مجرد خطأ، أم هو فعل متعمد (من الصعب الجزم)؟! كلا الأمرين غير مقبول بتاتاً، وتكرر ذكر العنوان المختلق في كل المواضع التي ذكر فيها، وهي على امتداد صفحات النص. لقد حيرني هذا الأمر.
الأمانة الأدبية، في أبسطها، تقتضي استخدم العنوان الأصلي للكتاب، فالاسم الصحيح للرواية والذي اختاره غسان، رحمه الله، وهو من هو في عالم السرد الفلسطيني والعربي، يعطي معان مفتوحة، ولا تخص (المعاني) أسرة واحدة أو شخص واحد (عائد)، وإن تم ذكر اسم شخص معين فهو لتأكيد واقعية الحدث، أما البعد الرمزي والدلالي فهو للحالة الفلسطينية في تلك المرحلة. حين نضع (أل) التعريف (العائد) فهو يضيق المعنى ليجعله في شخص واحد (أسعد) وعائلته، ومن ثم يمكن تحميله كل ما نشاء، وكذلك تحميل كل مواطن فلسطيني تعرض للتهجير القسري نفس المسئولية مثل التقصير والإهمال، بل حتى جبن الأب، كما لمحت بعض الإشارات في النص ..إلخ.
ربما يعتقد البعض بأننا نبالغ في تأويل وتحليل هذا الخطأ، ولكن في كل الأحوال هو يطرح الشكوك المبررة لمثل هذا التصرف، وخصوصاً بأن الكاتب قال (في لقائه مع بيت السرد) بأنه قرأ ثلاثة كتب حين أراد أن يكتب عن الشخصية الإسرائيلية التي جاءت في النص، فكيف كان لديه الوقت ليقرأ ثلاثة كتب عن ذلك الشخص، ولا يستطيع قراءة غلاف رواية غسان التي ظل يكرر عنوانها في كثير من صفحات الرواية. أين من راجعوا النص عن هذا الخطأ؟
ولأهمية نص غسان في هذه الرواية فقد تم اقتطاع جزء يعادل نصف صفحة ليكون في الرواية، ص 212، وتم استغلاله من قبل الإسرائيلي، الصهيوني حين عالج الرواية في مسرحيته المزعومة وجاء بتأويل على لسان (ميرا) بعد مشاهدتها للمسرحية، يقول التأويل بأن نص غسان يدعو للسلام مع المغتصبين الصهاينة: “وددت لو أن العرب كلهم غسان كنفاني، لأن الكثير لم يفهموا ما يرمي إليه. هي رواية تسبق عصرها دون شك. من ذا الذي كان سيوصل ما أراده غسان كنفاني إلى جمهور مثل الذي يشاهدها حالياً؟ جمهور يقاوم عبرة تبتلعه مع كل حركة أو حوار في المشهد. إنها رواية تشير الآن إلى التعايش داخل وطن واحد تمامًا كما يجب أن يتعايش في دوف الكيانان البيولوجي والثقافي، رغم أنها بدت تشير الى الكفاح المسلح وقت كتابتها، ربما حتى أبي لم يفهم أن كنفاني سبق الجميع في تنبئه بأن قدر فلسطين هو قدر دوف الذي تمتزج فيه بيولوجيا عربية وثقافة اسرائيلية.” ص 259 .
وأعطي هذا الصهيوني مساحة للعب والحوار في الدلالات بتوريط فتاة ذات أصول فلسطينية، ومهد للصهيوني أن يضع رأيه في حوار يتناول مختلف الدلالات الممكنة.. من المهم الإشارة هنا الى أنه في رواية غسان (عائد الى حيفا) نوع من التساؤل الحاد للضمير الفلسطيني والعربي والإنساني أكثر منه إدانة شخصية لفرد أو أسرة بعينها. وهي مثل الكثير من نصوصه الخالدة التي تغرس سكين السؤال الحاد الذي يقلق عقول القراء ذوي الضمائر الحية، على مدى العقود الماضية كما حدث في روايته الخالدة (رجال في الشمس) التي ما زال سؤالها يقلق الإنسان العربي حتى هذه اللحظة: “لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟” لماذا قبلوا الموت على أن يطرقوا الخزان وينقذوا أنفسهم؟.
ولكن نص هذه الرواية اختار مقطعاً يدين به الأب، ومن ثم يدين الإنسان الفلسطيني، حين يقول: “كان تركيزه على الحالة الإنسانية المزدوجة التي تكاد تمزق ابناً اختارت له عائلته الإسرائيلية اسم دوف وكانت أسرته العربية قد اسمته خلدون. أرانا آلون تلك المعاناة التي تكاد تشطر البطل إلى نصفين دون أن يدخلنا نحن الجمهور في فذلكات السياسة والسؤال عمن قد يكون على حق أو على باطل من الطرفين”.
أليس الاحتلال هو اجرام وسياسة؟ أليس تهجير أبناء الوطن الأصليين هو اجرام وسياسة؟ أليس كل ما حدث في فلسطين هو مشروع سياسي استعماري استيطاني يمثل قمة الجرائم في التاريخ الإنساني؟ كيف نتحدث عن موقف انساني وكأن الإنسانية موقف أو مصطلح مجرد.
بالإضافة الى ما ذكرت، هناك ملاحظات أخرى منها: لاحظت بأن هناك بعض المبالغات غير المبررة، مثل: “غادرت قبل سماع التقييم النهائي لعملها، لكن بعد أن أنجزت المدينة مهمتها وصنعت منها كاتبة” ص280، أو حين نقرأ: “خلقت منها إنسانة أخرى، كاتبة ملهمة وشيئاً آخر ينشد الاستقرار. في رحلتها القصيرة الزمن البعيدة الغور تسنى لها الاقتراب من معرفة ذاتها …” ص 281. نعم، قد نعيش بعض الأحداث والمواقف التي تحدث فينا هزة، ولكن هذه الهزة من الصعب أن تظهر إفرازاتها مباشرة، قد تظهر بعد زمن قد يطول أو يقصر، ولكن لا يمكن لثلاثة أشهر أن تفعل ما تصفه هذه السطور.
وكذلك، لم تكن لعبة النشر موفقة، أن ينشر الدكتور نص الرواية، بدلًا من أن تنشرها المؤلفة أو أن توجد حيلة أخرى أكثر حبكاً وإقناعاً للمتلقي. وكذلك، النص كان به الكثير من التكرار لبعض المعاني والأفكار، جلبت لبعض أجزائه الملل والترهل.
وأخيراً، موضوع إفراد مساحة لشخصية (مرهف) وإعطائه كل تلك المواصفات المثالية كان أمراً ملفتاً. فهو تقريباً يفهم في كل شيء من الزراعة إلى الكهرباء إلى الميكانيكا، الى الترجمة، والمسرح والنقد..الخ، هذا ناهيك عن وسامته وهندامه وعطره الذي “يبخ” أريجه التاريخي على كل الأماكن التي يتواجد فيها، إضافة إلى نشر قصة كاملة من قصصه القصيرة (ص 244 وما بعدها).
(1) مقابلة مع الروائي العراقي: أحمد خلف، جريدة العرب، الجمعة 18/8/2017م.