فن الممثل المسرحي

ورشة فن - المسرح

0 2٬484

سعاد خليل – ليبيا

يقول أرسطو في (كتاب فن الشعر) يبدو أن الشعر نشأ عن سببين؛ كلاهما طبيعي. الأول هو أن المحاكاة غريزة في الإنسان تظهر فيه منذ الطفولة، والانسان يختلف عن سائر الحيوان في كونه أكثرها استعدادًا للمحاكاة. وبالمحاكاة يكتسب معارفه الأولية كما أن الناس يجدون لذة في المحاكاة. السبب الآخر هو أن التعلم لذيذ لا للفلاسفة وحدهم، بل أيضًا لسائر الناس، وإن لم يشارك هؤلاء فيه إلا بقدر يسير. نحن نسرُّ برؤية الصورة؛ صورة فلان. إن لم نكن رأينا موضوعها من قبل فإنها تسرّنا لا بوصفها محاكاة، ولكن لإتقان صناعتها أو لألوانها أو ما شاكل ذلك. ولمّا كانت غريزة المحاكاة طبيعية فينا، شأنها شأن اللحن والإيقاع (فإن من الواضح أن الاوزان ماهي إلا أجزاء من الإيقاعات) كان أكبر الناس حظًا من هذه المواهب، في البدء هم الذين تقدموا شيئًا فشيئًا وارتجلوا، ومن ارتجالهم ولد الشعر.

بهذا، يتبين لنا أن أرسطو يرى لحظة الإبداع التي يولد فيها العمل الفني، فهو أولًا يشير إلى لحظة التمثل في طريقه إلى الكشف عن حالة التمثيل. كان أرسطو تلميذًا لأفلاطون، وكتابه هذا “فن الشعر” الذي قدمه كان مجموعة من أحاديثه ومحاضراته في حلقاته؛ ليضع لنا قواعد هذا الفن العظيم، ويظل كتاب فن الشعر ركيزة حتى يومنا هذا في وعي وفهم للشعر، بل هو أساس لكل من يريد أن يدرك ويفهم ويبدع.

نعود إلى موضوعنا عن فن التمثيل والممثل، الشخصية المسرحية لا تتمثل بسهولة بل هي تكاد تأكل شخصية الممثل بأن تحطمها وتفتتها على مهل لتحل محلها، إنها تتسرب عبر الصوت والعينين والأعصاب والجسد. إن فن المسرح هو بالدرجة الأولى فن التمثيل؛ فعلى الخشبة تكون قضية الممثل أي الممارسة العملية التي تتم على الخشبة، وهي ليست من فعل الكاتب، أو من فعل المخرج، وإنما هي تعتمد على فعل الممثل؛ لأنه العنصر الوحيد الذي يقابل الجمهور ويواجهه. هنا، نجد أن صلة المؤلف أو المخرج تضعف على الخشبة ويبقي الممثل وحده مواجهًا الجمهور. وجوده وجود مباشر، وحضوره حضور حي بهيئته الجسدية، وينوب عن المؤلف لأنه ينطق بكلماته، وكذلك ينوب عن المخرج لأنه يجسد التفسير الدرامي الذي يطرحه المخرج على الخشبة. الممثل هو السيد على الخشبة، وهو من يخلق الشخصية برمتها، كما يقول جون جولسورذي في وصفه للممثل المسرحي: إن خلق الشخصية مسألة غامضة، بل لعلها أشد غموضًا عند الشخصية الذي يخلقها منها عند أولئك الذي يبتسمون أو يكتئبون وهم يشاهدون خلق الشخصية؛ فهي عملية لا ضابط لها ولا مرجع نرجع فيها إليه.

فمن هو الممثل؟ وما وجوهره؟ وإلى أين يأخذنا؟ وكيف يؤثر فينا هذا الممثل وهو يحاكينا ويتقمص؟ كيف يفصل هذا الممثل الذي نشاهده بين الواقع والحقيقة وبين الحلم والخيال؟ وكيف تكون علاقته بين الأنا والآخر وامتزاجهما في شخصية الممثل على الخشبة؟ وما هي قمة الابداع لدى الممثل؟

في كتاب الأنا والآخر للمؤلف الدكتور صالح سعد نطالع بعض مما كتبه حيث يقول:

هل الممثل مجرد شخص يتظاهر بأنه شخصية أخرى؟ وهل هو ذلك العصابي المريض الذي يخفي خلف براعته في تقمص الشخصيات المختلفة، ويقدم اشكالًا هستيرية كامنة وجدت تعريفها الآمن فوق خشبة المسرح وأمام الجمهور؟ أم هو، على العكس، فنان واع يعزف بمهارة نوع المشاعر المركبة على أوتار أعصابنا المشدودة دون أن يحس؟ ولو بظل من تلك المشاعر؟ الأسئلة لا تنتهي..

كتاب الأنا والآخر كتاب مهم جدًا لمن يهمه تعريف حالة الممثل على الخشبة، وكيف ينتقل إلى ما يسمي بازدواجية الممثل أو مرآة الخيال؛ ففن التمثيل بالعرض والتحليل لا يمكن أن يبدأ إلا مما ينطوي عليه فن الممثل وأدائه من إشكاليات ومفاهيم هي ما جعل منه موضوعًا ممتعًا وسهلًا. إن النص المطبوع ليس سوى مدخل، أو إشارة إلى نص منطوق ومتحرك، نص حي، شخوصه التي نراها دائمًا ونشعر بأنفاسها وآلامها وتسري في جوارحنا دمعتها وضحكاتها. وهكذا، فإن كلًا من الممثل والمتفرج هو ما يجعل من الدراما مسرحًا أي فنًا جماهيريًا لا مجرد أدب مقروء مقصور على فئة معينة من الناس؛ بل كمفهوم يتضمن شيئًا سحريًا شديد العمومية والمثالية أيضًا؛ مما ينجم عن المشاركة المتمركزة حول تجسيد الصورة الخيالية، أو مشاركة طقوسية من أجل إحياء ذكرى أو تكريس فعل معين يجعلنا نندمج في فكرة واحدة وجسد واحد يجمعها في تلك اللحظة وجود الممثل محورًا للتركيز والاهتمام.

أوغستو بوال - البرازيل
أوغستو بوال – البرازيل

يقول اجوستو بوال المسرحاتية هي تلك القدرة على تلك الخاصية الانسانية التي تسمح للإنسان بمراقبة نفسه في اثناء قيامه بفعل ما، أو بنشاط ما؛ وهي بالتحديد ما يجعل من المسرح مسرحًا فالازدواجية المسرحية تنشأ بمجرد استخدام فنان المسرح وسائط تقنية مادية لتجسيد النص الدرامي المطبوع، المسرحاتية أيضًا هي التعبير عن المفارقة التي تنشأ بفعل الاداء الدرامي في مقابل القراءة، فالنص المكتوب لا يكون في الواقع إلا خطابًا مغلقًا، لا تفصح عنه الحروف والكلمات المنظومة شعرًا أو نثرًا؛ تلك التي قد لا تكون إلا رموزًا أو مفاتيح سرية تكشف لكل قارئ على حدة ما وراءها من صور أو عوالم خيالية لا نهائية تتراءي على جدران وحدته وصمته في تقليبه للكتاب المطبوع، ولكن على حس تمائم كما يحدث في الاحلام بتعبير ستانسلافسكي؛ في حين أن هذه الكلمات نفسها تصبح عالمًا محسوسًا بمجرد تجسيدها داخل إطار مشهدي سينموغرافي، يضعه مخرج بواسطة الممثلين؛ فتكون طريقة التأويل مقبولة من خلال أفعال الممثلين ومعبرة عما يحتويه النص من معان باطنة وإشارات خفية تفسر لنا التفاصيل والسلوكيات.

إن مسألة خلق الشخصية المسرحية هي مسألة غامضة بالنسبة للمؤلف، وهي في نفس الوقت غامضة وأحيانًا أكثر غموضًا للممثل الذي عليه تمثيلها؛ لذلك فهو يستعين بثقافته وتجاربه بمساعدة ثقافة وتجربة المخرج.

الممثل الذي يتقن أداءه بشكل تلقائي وعفوي، فتزدوج شخصيته بالشخصية الادائية، يؤثر في جمهوره تأثيرًا مباشرًا، وإن أداء الممثل له من الأسس والقواعد التي تجعل منه فنًا، وليس تقليدًا أو نسخًا للواقع المعاش؛ أي أنه فن يرتبط بالفكر، والهدف المراد تجسيده وطرحه على الخشبة، في إطار فني ممتع هو اداء الممثل، الذي يعتبر عنصرًا اساسيًا في خلقه، وليس مجرد حركات أو إشارات لتسلية الجمهور واضحاكه بدون هدف.

على الممثل، إذا أراد أن يعبر بشكل علمي وفني يتفق مع طبيعة العلوم والفنون، أن يدرك أدوات مهنته، وجميع متعلقاتها التي تتيح له عملًا ناجحًا يتسم بالجدية؛ لهذا يفترض في الممثل أن يكون مثقفًا واعيًا متشبعًا بمدارس المسرح المختلفة وأن تكون لديه معرفة عملية أساسها الاحتكاك والممارسة والتجريب.

يعتقد الكثيرون أن مهنة الممثل بسيطة وسهلة، ولا يدركون أن حياة الممثل تختلف عن حياة أصحاب المهن الأخرى؛ لأنها تتعلق بالظروف وبساعات التمرين الطوال، فالممثل من أجل أن يكون مقنعًا وناجحًا على الخشبة فهو يضحي بالكثير، أحيانًا يستلزم حضوره التجارب والتمارين أيام العطل والاجازات، وتحمله لبعض الملاحظات التي أحيانًا تكون لاذعة أثناء التمارين، وهذا يجعل منه أكثر اصرارًا وتصميمًا ليقدم أفضل ما لديه لإنجاح عرضه. على الممثل لكي يكون عظيمًا أن يكون قادرًا على التعبير كيفما شاء عن مشاعر لا يحسها فعلًا بكل أحاسيسه ومشاعره.

نعود مرة أخرى لكتاب الدكتور صالح سعد عن والأنا الاخر. يقول إن على الممثل أن يبدو بالفعل شيئًا ذاتيًا وشخصيًا إلى أقصى حد؛ وعلى الرغم من ذلك، فهو انطباع شركي محدود بالظرفية المسرحية أو التقنية الآلية التي يعمل من خلالها. علاوة على كونه يسمى فردًا مطلق اليد، فهناك نص الكاتب ورؤية المخرج، وهناك مجموعة من الفننين الآخرين معه في تشكيل خطوط الشبكة الدرامية المعقدة. من هنا، قد يكون من الصحيح أن الكتابة عن فن الممثل ليست إلا تأملًا ذهنيًا مجردًا أو تعزيزًا انطباعيًا عن حالة مخصوصة لنوعية بعينها من الممثلين، لا نرى مما يقدمون سوى النتائج النهائية؛ حيث لا ندرك الجانب الأكثر غنىً من طبيعة الممثل بما يحتويه من مؤشرات وميول سيكولوجية مركبة، ومن موروثات اجتماعية تاريخية تشكل بطابعها علامات التميز الشخصي ما بين ممثلين مختلفين في بيئات ومجتمعات متباينة.

إن التمثيل هو فعل معرفة مستمر، وهو الطريقة إلى دخول العالم الداخلي للإنسان وتعريته والكشف عن خباياه الدفينة، وخاصة الخبايا التي لا يستطيع الفرد الإقرار بها حتى أمام نفسه، إضافة إلى أن التمثيل هو فعل الحرية والتحرر بالمعني السيكولوجي؛ سواء تعلق الأمر بالممارسة ذاتها أي العرض، أو النتيجة التي تصل إليها أي التطهير. إن العنصر المشترك بين الممارسات والمشاركات المسرحية هو تكرار (لا شيء) يأتي من عدم، وهذه قاعدة تقوم عليها ظاهرة العرض أو الاستعراض والفرجة.

أقول إن الممثل الجاد لا يستطيع أن يستهين بحالة التمثل التي تسبق لحظات التمثيل؛ إذ أن التمثل هو دراسة استبطانية للشخصية من الداخل والخارج في نفس الوقت، وترديد الحوار الذي تنطق به ليس هو ترديد كلمات فقط، وليس هو فعل أو شروع في فعل فقط، إنه حالة من التلبس كاملة؛ هي استعادة لتجسد ونبض حياة يستعين عليها الممثل بما في أعماقه من أحاسيس متجسدة؛ هي حالة ميلاد جديدة، ومن هنا نتذكر ملاحظة لأفلاطون يقول: أنه يوقظ الاحساسات ويغذيها ويقويها ويعرقل حركة العقل. إن رأي أفلاطون في الشاعر ينطبق تمامًا على الممثل في حالة التمثل.

ونختتم بإيجاز بكلمة للويدجي بيرانديللو: الممثلون إذا لم يكونوا موضحين، مفسرين، ماذا يكونوا؟ ولكن للأسف هم مفسرون ضروريون، فبين المؤلف الدرامي وابداعاته في مادية العرض، يتدخل بالضرورة عنصر ثالت لا يمكن اقصائه من حساباتنا ألا وهو الممثل.

المراجع:

1- مجلة المسرح العدد 167 اخلاص عطا الله

2- مجلة المسرح العدد 82 الدكتور علي فوزي

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.