كهف أفلاطون وكهف الحداثة، قراءة في رواية الكهف لجوزيه ساراماغو
قبل مراجعة الرواية يفترض أن نعرج على “كهف أفلاطون” الذي استمد منه سارماغو روايته بعد أن نفخ فيه روح الرأسمالية والاستهلاك ليصنع كهفًا يتناسب مع إنسان الحداثة. في واحدة من أمثولاته، يقول أفلاطون: إن الحياة تشبه السجن في كهف يجبر فيه الإنسان على مشاهدة الظلال تتحرك عبر الجدار دون أن يدرك حقيقتها. ومن هذه الرمزية يتساءل: إذًا كيف يمكن للإنسان أن يدرك مفاهيم كالحقيقة والعدالة والجمال إلا من خلال ظلالها؟!!
وفي الحكاية الافلاطونية يتواجد مجموعة من البشر تم تقييدهم في كهف منذ ولادتهم في حالة معاكسة لمدخل الكهف بحيث تقع عيونهم على الجدار فقط، ويقع خلفهم بموضع أعلى منهم نار، وبينهم وبين النار دكة يقف خلفها رجالٌ يعرضون شتى الأشكال للناس والحيوانات والنباتات ومن خلال ظلال الأشياء يشاهد السجناء العالم الخارجي، وبهذه الطريقة فقط يمكن أن يصنفوا ويفسروا أوهامهم المبنية على تلك الظلال.
**
قد لا تكون هذه الرواية مناسبة لعشاق الإثارة والحماس، فليس فيها أحداث متسارعة تمضي للتشويق إلا في آخرها، لذا قد يجدها الكثير من القراء مملة ورتيبة، كما أن أسلوب الكاتب المسترسل في السرد دون توقف أو مسافات تحدد شخوص المتكلمين، يسبب شيء من الربكة وصعوبة في الفهم إن لم يشد القارئ حواسه طوال الوقت.
يدمج ساراماغو بين الواقعية والفنتازيا والسريالية حيث يمر النص بقلق وتردد وبطء شديد يكفي لإنجاز عمليات الخلق الفاشلة والبائرة التي يقوم بها صانع الخزف العجوز في محاولاته للحاق بزمن متسارع متبدل الرغبات، يحوله لكائن فائض عن الحاجة.
يعيش سيبريانو مع ابنته وصهره بمنطقة ريفية لم تلتهمها المدينة بعد، ويعمل على صناعة الأواني الخزفية بيديه كما تعلم من جده وأبيه، يتابع مسيرة تكوينها منذ طينتها الأولى وحتى خلقها الكامل لتصبح أطباقًا واباريقَ وفناجين. خالق الخزف يعجن مع الطين شيء من روحه فتشابهه تلك الأواني برقتها وهشاشتها وقابليتها السريعة للشرخ والكسر. وفي نهاية الأسبوع يحملها بحرص ليبيعها على المركز التجاري في المدينة – وهو مركز غامض يمثل المجتمع الصناعي والسوق الاستهلاكي- وفيه يعمل صهره ويأمل أن يكون مقيماً دائماً هناك. يلاحظ سيبريانو في كل مرة أن المجمع يمتد ويتوسع ليلتهم الأراضي القريبة منه.
العجوز الذي كان يعتقد أن المجمع سيستمر بشراء أوانيه الخزفية وتقديرها، كما علينا أن نقدر الأرض، والخبز، والطين والبشر. يفاجأ برفضهم استقبال طلبيته ويأمرونه بسحب أوانيه البائرة في مستودعاتهم بأسرع وقت، لأن المستهلك لم يعد يهتم بهذه السلع بعد أن طُرحت أواني بلاستيكية تحاكي مخلوقاته الخزفية لا تتشقق ولا تنكسر ويمكن التخلص منها بسهولة. والمركز كونه رمزا للحداثة عليه أن يسارع باستبدالها.
“ككيس مثقوب تُفلت محتوياته في الطريق” هذا ما أصبح عليه العجوز بعد أن تجاوز السبعين، عاطل في زمن اللايقين يستشعر انعدام القيمة والزيادة عن حاجة البشر، يتأرجح بين فقدان الأمان وعدم الضمان “كثمرة يحملها الغصن باستياء لأنها ولدت متأخرة عن موسمها”
وكما الرب إذ “يأخذ بيد ويعوض باليد الأخرى” هكذا هو المركز، أخذ الأرض والهواء والمياه وعوض الناس بمجمع ضخم للتسوق يزودهم بكل ما يحتاجونه من سلع ووظائف ومساكن وتقنيات وتسلية وأمان ومحاكاة للطبيعة من ثلج ومطر ورمل وملاعب وهواء معلب بدرجات حرارة ثابتة. يستوعب صانع الخزف أن قرار المركز هو صوت السلطة، إذاً هو صوت القدر، وعليه أن يستجيب للقدر، وينفصل عن أحلامه وعن ما صَنع وما صُنع منه، ويخرج من ديانة الطين إلى ديانة السوق. والدرس الأول الذي تعلمه أن كل ما لا نفع منه يُرمى ويُستبدل، بما في ذلك البشر.
ينتقل صانع الخزف للسكن في شقة في المركز بصحبة ابنته وزوجها، ينظر ليديه اللتين انتفى نفعهما وللساعة التي لم يعد لحركاتها معنى. ثم يقرر الخروج بجولات استكشافية في المركز وبالصدفة يسمع من صهره بخبر سري عن اكتشاف منجم اسفل المركز ويدفعه الفضول للنزول ليُصدم بما سيجده في المنجم. كان هناك خمسة أجساد تجلس منتصبة الجدع على مقعد خشبي كما لو انها ثبتت بوتد حديدي، أعينهم الغائرة قد تحولت الى مغارات غبار وما تزال بقايا الاربطة التي قيدوا بها تحيط بأعناقهم، وعلى الأرض بدت بقعة سوداء تشير الى بقايا حرق قديم كما لو أنها لموقد اشتعل لوقت طويل، لامس العجوز جبهة امرأة متيبسة ثم خرج فزعا منهارا لا شيء يستبقيه. حين عاد لأبنته وسألته عما شاهده في المنجم، يجيبها كما أجاب سقراط قبل ألفي عام “أولئك الأشخاص المقيدين هم نحن، انا وانت وزوجك وسكان المركز كلهم، وربما العالم كله”
إنه كهف الحداثة المزود بكل وسائل المتع البصرية والحسية لكنه لا يختلف عن كهف أفلاطون، فقد استبدلنا الظلال بالشاشات المضيئة لتخبرنا عن العالم خارج الكهف، ثم تطورنا وحملنا كهوفنا بين أيدينا نشاهد ظلال العالم من خلاله.