ليلة أخيرة قبل المغادرة

القلب حين يدافع عن نفسه بالترجمة

0 424

حسن أكرم – العراق

كان لقائي الأول مع الدكتور تحسين في المكتبة التي كنت أعمل فيها، أطلّ عليّ الرجل بوجهه السمح، وما يُشبه انحناءة احترام وفي عينيه ظلال ابتسامة دائمة، وانحناءة الرأس نفسها التي تصدر عنه عندما يستشعر الحرج.

لم يكن يعرفني من قبل ولم أكن قد نشرت روايتي الأولى أو أياً من قصصي القصيرة، ورغم ذلك أهداني مجموعة قصصية من الأدب الروس المعاصر بترجمته. لم أكن قد صادفت بعد مثل هذا الكرم الجميل في بغداد التي وصلتها منذ فترة ليست بالطويلة.

بعدها، تواصلنا أكثر واقترحت عليه بالتشاور مع إدارة دار النشر التي أعمل فيها أن يُترجم لنا رواية مورفين لبلغاكوف. يومها ابتسم ابتسامته التي صرنا نعرفها الآن، وتحرّج من ذلك، وقال أنا لا أترجم نصوصاً ترجمت من قبل، لكن فليكن، وأشار لي أن هناك أدباً ثميناً غطّت عليه شهرة الكلاسيكيين، ينتظرنا أدب روسي حديث لا يقل جودة ومهارة عن كتابة السابقين.

لم أفهم رأيه تماماً، لم أكن بمعرفة مساوية لمعرفة الرجل، كنت قارئاً مهمِلاً يتحاشى الأدب الجديد والكتب السميكة، حتى قرأت (صبية في ميتربول) للكاتبة لودميلا بيتروشيفسكا، ثم (الجنازة المرحة) لاولتسكايا و(الطيار) لفودولازكين و(مقتل الفريق) لبوريس بيلينياك، كلها بترجمة تحسين رزاق عزيز. يومها عرفت أي مثقف هو، وأيّ معرفة يمتلك.

التقينا بعدها، اتصل بي مرّة، وانتظرني تحت شقتي في الشارع. لن أُسامح نفسي على ذلك ما حييت. ثم تمشينا معاً، ذهبنا نشرب القهوة، وأكلنا حلوى التلجا التركية، أخبرني حينها أنه سيغادر العراق، ثم عرفت أنه سيبيع مكتبته.

لم تكن عملية بيع عادية، كانت أشبه بالمجزرة، 500 كتاب أو أكثر بيعت بنحو 600 دولار، الكتاب بدولار وعشرين سنتاً، بعدها بيوم واحد، دون أن يخبرني أحد وجدت مكتبته تفترش الأرض، عرفت أنها مكتبة تحسين، خيارته في القراءة دلتني عليه: كتب في اللسانيات والترجمة، كتب تراثية، نصوص منتقاة وبطبعات نادرة. ابتلعت غصتي وحينها عرفت أي مصير ينتظرني أنا وكتبي.

تجاوزت المكتبة المفروشة على الأرض دون أن اشتري منها كتاباً، لم أكن أرغب في المشاركة في تلك المجزرة. تواصلنا بعدها عندما وصل إلى موسكو، ونال منه المرض هناك؛ جرعة مضاعفة من الكوفيد أردته في الفراش عشرين يوماً، قلقت عليه كثيرا، ثم توقف عن الترجمة لشهرين، بسبب ضرر ما أصاب عينه.
خسرت بغداد مثقفاً نادراً وصديقاً طيّباً، كان لطيبته أن تكافئ حشداً من الأشرار، لكن بغداد الآن، وفي كل يوم تخسر تحسيناً آخر.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.