من يعيد مجد هذه الأمة؟!

0 4

حنان سعدي – الجزائر

لم أذهب لطبيب في حياتي.. وضعت علامة حمراء على الأطباء والمستشفيات منذ زمن بعيد، وحدهم من أمضوا سنوات طفولتهم في المشافي، ومن ظلوا معلقين لساعات طويلة في خيط رفيع جدا بينما يتسرب المغذي إلى أوردتهم يعرفون عن ماذا أتحدث.

ألم الذكرى يكون مضاعفا كلما كبرنا. يجعلنا في قطيعة تامة مع كل ما عشناه، اليوم فقط زرت عيادة طبية بعد أن نجحت صديقتي الممرضة في اقناعي أنها الأفضل، وأنني لن أشعر وأنا أرتادها أنني أرتاد عيادة، بل فندقا. كانت عيادة متخصصة في طب العيون، عندما دخلتها لأول مرة انقطعت أنفاسي دهشة، لم أعتقد يوما أننا سنصل لهذه الدرجة من الرقي، ليس رقيا بكل معنى الكلمة، فالمدينة تبدو شاحبة جدا مقارنة بهذه التحفة الفنية التي تبدو كزهرة مرمية بإهمال وسط بركة من الوحل. لاحقا عندما سألت أخبروني أن الطبيب المشرف على العيادة أمضى نصف حياته في بريطانيا ثم عاد الى بلاده فجأة بعد ان تعاظمت الهوة بينه وبين الغربة!

ثم وجدت نفسي أغبط الأطباء في سري، لا لشيء فقط لأنهم امتلكوا تلك القدرة العجيبة على التغيير. أتساءل لو استطاع كل واحد منا أن ينتقل من كونه متفرجاً إلى كونه فاعلاً إيجابياً في المجتمع، ويخرج من فقاعة الشكوى المستمرة إلى ساحة العمل المثمر.

نحن مجتمع يخشى التغيير، كل شيء جديد يراه معجزة، وإن كانت من تراه عين حاسدة ستقول عنه عهر وحرام لأنه تقليد أعمى للغرب، متناسين أن الغرب أنفسهم كانوا السباقين في تقليد العرب في كل شيء. كان شباب أوروبا يسافرون إلى الأندلس في زمن نهضة المسلمين، قادمين من ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا، ليتلقوا العلم على أيدي العلماء المسلمين، وكان الشاب الأوروبي إذا رجع إلى بلاده يفتخر أمام أقرانه بأنه درس في بلاد المسلمين، ويعتبر هذا من مظاهر المفاخرة العظيمة، وكان يخلط كلامه أحياناً بألفاظ عربية، ثم يعود يتكلم بلغته القومية.  أخذوا كل شيء من هناك، ثم انتهى بهم الأمر بأخذ الأندلس ذاتها لأنهم استكثروها على المسلمين، الأندلس التي اصبحت الآن تدعى إسبانيا.

أتذكر المقولة الشهيرة التي قصفت بها الأميرة “عائشة الحرة” جبهة ابنها أبو عبد الله آخر ملوك الأندلس، حين خرج من القصر الملكي، ووقف مع بعض فرسانه على ربوةٍ عالية تطل على قصور الحمراء، يتطلع إلى المجد الضائع، فلم يستطع أن يتمالك نفسه.. فبكى حتى بللت دموعه لحيته.. فقالت له أمه الأميرة عائشة الحرة: “نعم، ابكِ كالنساءِ على مُلكٍ لم تدافع عنه كالرجال.”

لا أعرف لما تذكرت كل هذه الأشياء، وأنا أطأ هذه العيادة، ربما لأنني لم أعتد على المجاملات وعندما رأيت هذا الصرح الجميل وجدت نفسي أجامل الطبيب والممرضات وحتى موظفة الاستقبال. شعرت برغبة في مجاملة الجميع دون استثناء، حتى عاملة النظافة التي بدت بمظهرها الأنيق أجمل من تلك الملابس التي كنت أرتديها، انا التي لطالما تفاخرت بأنني اتقن دائما انتقاء ملابسي، وعندما لا أجد ما يرضيني أصممه بنفسي وأرتديه بفخر. من الغريب أن أشعر بهذا الألم يعتصر قلبي بينما أجلس في مقاعد الانتظار في العيادة، ألم يشبه ما شعر به الأمير عبد الله حينما سلم مفاتيح مدينة غرناطة للكاثوليك، ثم لوى عنان جواده موليًا، ووقف من بعيد يودع ملكًا ضاع، وكان هو بأعماله وسوء رأيه سببا في التعجيل بضياعه..

أكنت أنا أيضا أبكي مجدا ضاع لم أكن شاهدة عليه؟ أم كنت أبكي حاضرا لو نهض طارق بن زياد من قبره للطم وجهه قهرا للحال الذي ألنا إليه؟

يمكنني أن أجزم أن شيء من حمى الوطن انتابتني فجأة، ورغبت بشدة لو يأتي من يعيد مجد هذه البلاد، وتنبثق الناس من كل حدب وصوب ليتعلموا منا لا لنتعلم منهم.

يمكننا أن نتغير لو آمن كل واحد فينا بفكرة التغيير، لو وضعنا نصب أعيننا هذا الهدف. يمكننا أن نبني عالما أجمل لو تحلينا فقط بأخلاق نبينا الكريم ومن تبعه بإحسان، يمكننا أن نصنع قادة كابن الخطاب، وبن الوليد، وطارق بن زياد وصلاح الدين.

هم يريدوننا أن ننسى مجدنا الضائع، أن نكون إمعة تتبع دون أن تفهم، يريدوننا أن نكون ﺧِﺮﺍفًا ﺗُﻌﻠَﻒ ﻭﺗﺴﻤُﻦ، متناسين أننا خير أمة أخرجت للناس.

شيء ما هنا ظل كغصة عالقة في حلقي، ذكرتني أننا لن نعود لسابق عهدنا ما حيينا، وأن المجد لن يبنيه ثلة من أرباب المياعة والبلادة والخلاعة في وقتنا الحالي، أولئك الذين فضلوا الهوى على العزة، والذل على الإباء، فاستفقت من حلمي ونهضت مغادرة تلك العيادة التي ستبقى دائما كلما مررت بجانبها تذكرني بعجزي.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.