تأملات في عالم حنا مينة الروائي

0 793

إبراهيم مشارة -شاعر وناقد وقاص جزائري-سماورد

كان سوفوكليس، عميد أدباء اليونان، يقول أنه وصحبه كتّاب الإغريق يلتقطون ما يتساقط من فتات مائدة هوميروس. معنى ذلك، أن سوفوكليس ويوريبدس وإسخيلوس، وهم كبار كتّاب الإغريق، يكتبون على هدي من أدب هوميروس، ويتخذونه المثل الأعلى، ويستوحون من آثاره الخالدة المعاني البكر، والجمال الباقي على مر الزمان. وقياساً على قول سوفوكليس، فإنه يجوز لنا أن نقول، أن كتّاب الرواية عندنا – وهم كثر لا يحصيهم عد ولا يشملهم حصر – إنما يلتقطون ما يتساقط من مائدتين، لا مائدة واحدة كمائدة هو ميروس. هاتان المائدتان إحداهما للأستاذ نجيب محفوظ، والأخرى للأستاذ حنا مينا. هذان الكاتبان أخلصا لفنيهما إخلاصاً منقطع النظير، ولم يخوضا في غيره بهمة ودأب عجيبين، فكوّن كل منهما عالماً روائياً متميزاً شامخاً يعلو على كل العوالم الروائية التي كوّنها كتاب آخرون. نحن في هذا المقال، نقف متأملين في عالم حنا مينا الروائي؛ مستكشفين آفاقه الرحبة ومعماره الفني، ونظرته الإنسانية التي تميز أدبه وحياته.

في آخر ما أدلى به الكاتب من تصريحات، ذكر أنه إذا كان نزار قباني غزا البيوت العربية بشعره فإن ثمانين في المئة منها لا تخلو من رواية من رواياته.

لهذا القول معنيان. الأول، أن فن الرواية هو الفن الذي نشطت سوقه وراجت بضاعته، واستولى على عقل ووجدان القارئ العربي، بعكس الشعر الذي تراجع نفوذه، وقل مقدّروه ومتذوقوه لندرة مبدعيه، وفشلهم في جذب القارئ ومد جسور التواصل معه. أما المعنى الآخر، فيخص كاتبنا، وهو تقدير من القارئ العربي لهذا الكاتب العربي، واهتمامه بما يكتب واطلاعه على ما يبدع، وهو عرفان قلما حظي به كاتب عربي معاصر.

في رواية ” الثلج يأتي من النافذة “، يستبطن البطل فياض نفسه، وينزل إلى قرارة ضميره ليميز بين الغث والسمين. في رحلة الكشف هذه، التي بدأها بقناعته، يرفض أن يكون حديدة تلقى في المصهر ثم يطرقها الحداد. هذا يعني مصارعة الحياة والكدح والنزول إلى قاع المجتمع ومزاولة الأشغال الشاقة لتتطهر اليد من نعومة القلم وحده، ولتنجلي الغاشية عن البصيرة بعد أن أنعمت النظر في صفحات الكتب. غير أن النضال القسري والمفتعل سرعان ما يضمحل ويتلاشى تماماً كالطلاء. إنما النضال فعل طبيعي إنساني تلقائي صادر عن ذات واعية ملتزمة لا تكلف ولا قسرية في تصرفاته. وفي حياة الأستاذ حنا مينا، وفي أدبه، من الوعي والاحترافية ما جنبه من الوقوع في هذا المأزق الوجودي. هو لم يكن كاتباً من كتاب الأبراج العاجية ولا مناضلاً يتكلف النضال ويفتعل الكدح. هو مدين للحياة القاسية الخشنة والمدمية التي عاشها والتي تضمنتها سيرته الذاتية “بقايا صور” و”المستنقع” بما حققه من إبداع اشتمل على المقومات الجمالية للفن الروائي، والنظرة الواقعية والرؤية الإنسانية. هذه ميزات جعلته من كبار كتّاب العصر ومثقفيه. كأن هذه الحياة الخشنة كانت المشيمة، التي تغذت منها خلايا روحه وعقله، وحبله السري موصول دائماً بالواقع وبالحياة الرحبة، خاصة في أشد حالاتها بؤسا وعدمية ولا إنسانية.

هكذا، تتضافر الرؤية الإنسانية والواقعية للحياة، والثقافة النظرية، وامتلاك الأدوات الفنية في شخص الكاتب، فتجعل منه روائيا قديراً وجديراً بأن يثير فضول القارئ، ويستفزه ثم يضمن صداقته الدائمة؛ لأن الفن عنده صار هو الحياة، كما أن الحياة صارت هي المادة الخام لفنه.

ولا شك أن الأستاذ حنا مينا قد وقف في حياته وقفات للتأمل ، واستبطن الذات ووعى التاريخ في حاضره وماضيه ومستقبله وأدرك جدليته، ولا شك أنها كانت تجربة أشبه بتجارب المتصوفة في رحلتهم نحو التطهروالعرفان وإن كان هؤلاء ينتهون إلى هجرة الزمان و المكان ونبذ الحياة بينما انتهى هو إلى الإندغام في الزمان و المكان واحتضان الحياة وتمثل الهم الإنساني وتبنيه كقضية يعيش الكاتب لأجلها.

عالم حنا مينا الروائي هو عالم الإنسان في صراعه مع الطبيعة، والإنسان في صراعه مع المجتمع، وفي صراعه مع التاريخ. إذا كان التاريخ هو صيرورة وتقدم، فذلك بفضل الفعل الإنساني ووعيه؛ لا منة غيبية ، وتكون حركة الجماعة هي تناغم وتناسق تستولد رحم التاريخ وتستنسل منها تاريخاً جديداً متصلاً منفصلاً ومنفصلاً متصلاً. الكاتب يعي هذا جيداً، وهو ذو نزعة يسارية قارة في أدبه وفي حياته. غير أن الإنسان ثمرة الوجود، وأثمن ما جادت به الحياة، يجد ما يعرقل وعيه ويشل طاقاته، ويجهز على روح التغيير الخبيئة في نفسه وفي سراديب لا وعيه.

أول المعيقات الطبيعة ذاتها. في روايته ” الشراع والعاصفة”، وهي رواية تمجد الفعل الإنساني، وتبارك روح التحدي والمغامرة لأجل الآخرين الكامنة في شخص الطروسي، صار البحر رمزاً وواقعاً مثار تحدي، ومصهر تنصهر فيه الإرادة الإنسانية متخلصة من الأدران، وغدت أكثر قوة وديمومة؛ والإنسان الحقيقي هو الذي يمارس إنسانيته بلا تكلف أو رياء. هو كالماء ينبجس تلقائياً من جوف الأرض استجابة لنداء الضمير في مساعدة الآخرين، وهم في لحظة حرجة، حتى ولو كانوا من المسيئين إلينا . هذه صفات الطروسي. وحنا مينا من الذين يوسمون بالجنس في أدبهم، عن طريق الرؤية الإنسانية والطبيعية، الذي تراه بها أبطاله بلا إسفاف أو بهيمية، فيغدو العمل الجنسي في أدبه فعلاً تلقائياً طبيعياً، تماماً كارتواء الأرض من مطر السماء فتصبح ريانة خضراء ويانعة. فالجنس والمطر كلاهما فعلان طبيعيان ذريعتان إلى النماء والخصب، بلا كبت قاهر مرائي أو تهتك مخل بالشرف والإنسانية. وأفضل الأعمال الأدبية التي تتجلى فيها هذه الخاصة ثلاثيته ” حكاية بحار” “الدقل” ” المرفأ البعيد “، ولنا أن نفهم البحر في هذه الرواية على أنه البحر باصطخاب موجه ورائحة صخوره، ولنا أن نذوق ماءه الأجاج، ونتعرف إلى الصاري والشراع والشختورة. الكاتب ممن رسخوا أدب البحر في إنتاجنا الأدبي، بعد أن اقتصر على البيداء في شعرنا القديم، وعلى الريف والمدينة في رواياتنا الحديثة. ولنا أن نذهب بعيداً، في فهم هذه الرواية فالبحر هو الطبيعة ككل في تحديها للإنسان وعرقلتها بحتمياتها ومفاجاءاتها للتطور الإنساني، وما الفعل الإنساني إلا مغازلة فمراودة فمواقعة للطبيعة بهتك مخاطرها وإزالة عراقيلها، وما التقدم الحضاري إلا فعل الإنسان في الطبيعة بروحه المتحدية وعمله الخلاق لتعود حياة البشر أكثر أمنا وسعادة وتطورا.

أما المتحدي الثاني للإنسان والمعيق لصيرورة التاريخ وتطوره فهو المجتمع بأعرافه البالية ودجله المؤفين وانتهازية ساسته وإقطاعييه. إن هذا النوع من المجتمع يشكل تحدياً للذات الواعية الطامحة إلى الحرية والعدالة والمساواة. ومن ثم يبدو الفعل في المجتمع أشبه بالحرث في الماء أو كما يقول المسيح إلقاء البذرة على الصخر؛ لأن قوانين المجتمع الجائرة، وشلله الفكري وعطالته الروحية، وتقاليده المؤفينة كل هذا يشكل تحدياً لتطور التاريخ، ربما أشد خطراً من تحدي الطبيعة؛ ولكن لا يأس، فالواحد يصير اثنين والاثنان ثلاثة وهلم جرا، والتغيير في الأجيال يتم ببطء، والصراع محتدم. من جدل التاريخ وصراع المتناقضات تتولد الأفكار البكر، وتتجسد المعاني التقدمية أفعالاً ثورية خلاقة فتشمخر الحضارة وتتوطد دعائم المدنية الحقة.

من مؤلفات الأستاذ حنا مينا التي تتناول هذا الجانب ” الثلج يأتي من النافذة ” وقد تناولناها آنفاً، ثم “الياطر”؛ فالبطل الذي هرب إلى الأدغال فراراً من جريمته، ومن الناس وخوفاً على نفسه بعد أن قتل اليوناني ” زاخرياس”، هرب كأوديب فاراً من قدره ثم لاقاه في النهاية. كما يقول سارتر على لسان “أورست” في الذباب “إن أجبن القتلة من شعر بالندم “، عاش الحياة وحيداً في الأدغال يأكل السمك، ويتظلل الأشجار ويلتحف السماء، وكأنه حي بن يقظان يكتشف ذاته لا السماء. إن هذه الحياة قد أشعرته بالملل وبالعدمية الوجودية، فقد خلق من أجل أن يعطي، ومن ثمة سيعود إلى البلدة التي هجرها للدفاع عنها وحمايتها من الحوت العظيم الذي يهددها. هذه نهاية رمزية توحي بعودة القطرة إلى النهر وعودة الفرد إلى أحضان الجماعة للعمل سويا .

أما رواية ” الشمس في يوم غائم “، فهي رواية تصب في هذا المصب، أي صراع الإنسان مع المجتمع البالي وأحكامه الجائرة وقوانينه اللاإنسانية. إنها رحلة كشف قام بها البطل مدركاً، في النهاية، تفاهة الحياة الإقطاعية وعقمها و بلادة ناسها إضافة إلى انتهازيتها واستغلالها للتعساء والضعفاء، الذين وجد في أحضانهم الأمان والفرح ومعنى الحياة الحقيقي. هذا المجتمع، المنقسم إلى فئتين: فئة الإقطاعيين وفئة الكادحين، يمثل في النهاية المجتمع ككل، ويمنع تقدمه والنضال، إنما يسعى إلى توحيد الفئتين ليغدو المجتمع متجانساً.

هذه الرواية من أمتع ما كتب الأستاذ حنا مينا. الجانب الرمزي فيها لا يعاني إسفافاً أو تهلهلاً. رقص الفتى المستوحى من الصورة ، صورة رمزية للواقع والمثال فيصير الواقع مثالاً والمثال واقعاً بالحركة والفعل الحي، الذي تشارك فيه الأعضاء و الوجدان. إنه عمل الروح والبدن معاً، والخياط المقتول على يد الإقطاع ما هو إلا الحياة في نضارتها وعفويتها وطيبتها وعطائها اللامحدود. إنه الإنسان الحقيقي المناضل، بلا عنوان ولا نبرة خطابية، أو روح ثورية مفتعلة. مقتله على يد قوى الشر والظلام لن يطفئ الشمعة، ولن يذهب ببصيص الأمل واليوم الغائم ستنقشع غيومه، وما أشد عنوان الرواية إيحاء رمزياً بانتصار القيم الإنسانية على الرذائل والمظالم .

إن قارئ هذه الرواية ينجذب إليها انجذاباً شديداً؛ لأنه يحس بنبض قلب الكاتب وعرق أصابعه وخلجات نفسه؛ بل بنبض قلوب شخصيات الرواية وخلجات نفوسهم ، عكس رواية ” الثلج يأتي من النافذة ” التي يطغى عليها الطابع التجريدي والنبرة التعليمية مما يبعث بعض الملل في نفس القارئ في بعض صفحات الرواية. لقد كانت الإيديولوجيا طاغية في هذه الرواية على قيمها الجمالية ومعمارها الفني، ولم تكن خبيئة فيهما أو على الأقل مسايــرة لهما، وهو ما تفــــاداه الكاتب في روايته الرائعــة ” الشمس في يوم غائم “.

أما الصراع مع التاريخ فقد تضمنته رواية ” المصابيح الزرق “. إذا كان الاستعمار هو قدر الشعوب العربية، فهو في الواقع سرطان يفتك بالروح والبدن معا، ويترك الأوطان في دياجير الجهالة والعماء، بل يعيدها إلى عصور ما قبل التاريخ. النضال ضد الاستعمار وتحدي وسائله القمعية وفلسفته العنصرية، وروحه التدميرية واجب الإنسانية وله الأسبقية والأولوية على صراع المجتمع و الطبيعة.

إن رواية ” المصابيح الزرق” تعود بنا إلى البلد “سوريا”، أثناء الحرب العالمية، يوم كانت تحت الإنتداب الفرنسي، وما لاقاه الشعب من ضيم وهوان، وما عاناه من مرض وفقر وجهالة. تنجح الرواية نجاحاً منقطع النظير في جذب القارئ، كأنه يعيش تلك المرحلة، ويشترك مع ناسها الفقراء التعساء في جدهم وهزلهم، ويشم رائحة العفن في الأقبية ورائحة الأبدان التي تزكم الأنوف، ويتقزز من بركه المنتنة، ومن معيشتها المضنية في ذلك الحي الفقير؛ لكن العبودية تنتهي حين يعي العبد وضعه، ويسعى للتخلص من نير الظلم بالكفاح ونشر الوعي السياسي بين أبناء الشعب. يتحمل المناضل السجن والمنفى والتشريد؛ فالوطن قضية والتضحية لأجله واجب. هذا ما انبثق في وعي الفتى ” فارس” الذي مات على يد الفرنسيين تعذيبا وتنكيلا، تاركاً غصة في حلق والده، سرعان ما تحولت إلى راحة وسلوى لأن شهادته حفل زفاف. و لأن فارس بفكرته الثورية وتضحيته زرع في رحم البلد آلاف الفتيان ممن يحملون لواءه ويواصلون رسالته حتى النصر.

هذا ما تقوله الرواية وهي رائعة حقاً، لا تقع في فخ الخطابية ولا المباشرة. بتركيزها على الحي الفقير، واستقصاء مظاهر بؤسه واكتشاف قيمه الخالدة، كالتعاون والفرح والتفاؤل وروح الدعابة، تنجح في وصل القارئ بعقل الكاتب ووجدانه. إن روايات الأستاذ حنا مينا شرائح من الحياة الإنسانية في سعيها الخالد نحو الحق والعدل والخير، وتمجيد للفعل الإنساني، الذي تكون تلك القيم هي غايته؛ فالحياة أخذ وعطاء؛ وهي عند أستاذنا – الذي نتمنى له مزيدا من العمر الحي الفاعل الخلاق – عطاء متواصل لا محدود.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.