(الحمامة) لزوسكيند، قلب الرموز.. وحكاية القلق
حليمة نصرالله-سماورد
الحمامةُ تأتي لَتُشْعِل فيك قلق الحياة ..
الحمامةُ تمشي وأنت تخشى الفضيحة يا “جونثان” !
الحمامةُ تراك وَ لا تأبه ، وَ أنت تراها و تختبئ في قبرك!
جونثان الذي جاء في رواية “الحمامة” للكاتبِ ” باتريك زوسكند“، هو مثال الخذلان الاجتماعي إذا يُخذل بفقد والديه طفلاً، ثم أخته، وهروب زوجته بعد أن وضعت طفلاً بعد زواجهما بِأربعةِ أشهر، جونثان الذي لم يحاول قط أن يتخذ قرارًا يخصه، إلا بعد أن طُعِن في أقصى القلب ليهرب إلى باريس بعد توصل إلى يقينٍ من: “أن الناس لا يُوثق بهم، وأن على المرء إذا أراد الهدوء والسلامة أن يبتعد عنهم “.
إثر هذا اليقين الذي حمله معهُ إلى باريس، وقع جونثان في الحب! وقع أسيرًا لا يستطيع الفكاك من عشقِ غرفتهِ رقم 24 في الطابق السادس من عمارةٍ في شارع دو لا بلانش، طولها ثلاثة أمتار وأربعين سنتمترًا وعرضها مترين وعشرين سنتمترًا وارتفاعها مترين ونصف المتر، كانت هذه المواصفات بالنسبة لجونثان باذخة وَ أنيقة، إذ تحميه من شرّ الاختلاط بالطرفِ الآخر من العالم و تُوفر لهُ بِجدرانها الأربعة الطمأنينة والرّاحة. وَ كانت أقصى أُمنياته أن يشتري هذه الغرفة/الطمأنينة ويشرب نخب تقاعدهِ فيها.
إلا أن حادثة الحمامة ، التي لم تكن في الحسبان، قد هدمت كل ما بناه جونثان قبل الخمسين من عمره!. الحمامة التي قابلتهُ صباحًا وهو يستعد للخروج من الغرفة – بعد أن أصاخ السمع واطمأن أن لا أحد في الخارج – ليستخدم الحمام المُشترك قبل استيقاظ الآخرين، فهو لا يقوى على تحمل المجاملات: “لقد حدث له مثل هذا ذات مرة، صيف 1959 قبل 25 عامًا ومازال بدنه يقشعر كلما تذكّره. ذلك الخوف المتبادل من مرأى الآخر، الخوف المتبادل من خسارة المجهولية أثناء فعل يتطلب أعلى درجات المجهولية، ذلك التراجع والتقدم من جديد، تلك المجاملات المتبادلة الطارئة : تفضل أنت، أنت أولاً، لا ، لا والله بعدك يا سيدي الكريم، أنا لست مستعجلاً،لا، أنت أولاً، أنا مصر على هذا، وذلك كلّه في البيجاما”.
’’وهنا أستطيع أن أقول بأن زوسكيند كان رائعًا في تحويل الحمامة من رمزٍ للسلام، إلى وصفٍ بشعٍ ومخيف، إلى رمزٍ يستفز الآخرين كما استفز جونثان’’
حين هم بالخروج، وجدها جالسة أمام بابه ” بقائمتيها الحمراوين من ذوات المخالب، بأرياشها الرصاصية الزلقة على بلاط الممر الأحمر حمرة دم الثور، تلك الحمامة أدارت رأسها وبحلقت في جونثان بعينها اليسرى …ص 13″.
وهنا أستطيع أن أقول بأن زوسكيند كان رائعًا في تحويل الحمامة من رمزٍ للسلام، إلى وصفٍ بشعٍ ومخيف، إلى رمزٍ يستفز الآخرين كما استفز جونثان الذي هرع عائدًا إلى غرفةِ نومه، لكن هذه المرة ثمّة حدث أفزع طمأنينته و باتت الصومعة/الغرفة، المكان الآمن، مصدر الفوضى والقلق، حيث خطر له بأنه سيموت بالجلطةِ الدماغية الآن لِرعب المشهد، الحمامة التي زلزلت كل حياة جونثان، حتى قرر أن يحمل حقيبة سفرِهِ ويستأجر غرفة في فندقٍ آخر، بعيدًا عن هذه الحمامة.
خرج بصعوبةٍ بالغة من العمارة حتى يبلغ عملَهُ كحارسٍ في البنك، هنا انفضت الأشياء عن ترتيبها و خرجت شريعة الفوضى لتحاصر جونثان المفزوع بسببِ حمامة؛ استعرض حياته كاملة مشهدًا مشهدا وهو واقفٌ يحرس البنك، يبحثُ عن نقطة تتسمر فيها عينيه ليبقى صامدًا أمام صخب الأفكارِ التي تطرقُ رأسه، الموت الذي ربما يغافلهُ الآن ويأتي، المرض، والتشرد.
كان جونثان قد توصل في حياتهِ سابقًا :”إلى عرفان أن جوهر الحرية الإنسانية يكمن في امتلاك مرحاض مشترك وأنه يتمتع بهذه الحرية الجوهرية”.
بعد أن كان يحسد ذلك المشرد الذي يحصل على قوت يومه بدون أي تعب، حتى رآه ذات مرةٍ وهو-المشرد- يُعري عجزه ويتغوط أمام الناس، المنظر الذي أفزع جونثان وأرعبه، فكيف يمكنُ لشخصٍ أن يفعل أكثر الأشياء خصوصية في الأماكن العمومية !!
تكتملُ الرواية ب 79 صفحة من القطع المتوسط. مارس فيها زوسكيند بخفةٍ رهيبة كل أنواع القلق و التساؤلات حول الحياة والطمأنينة والرضا، إذ عرض حالة المُشرد الذي يتغوط وينام ويأكل في زاويةٍ من الشارع راضيًا ومطمئنًا، وجونثان الذي يُحكم إغلاق البابِ خلفهِ في صومعته مطمئنًا أيضا!. و ما الفرق في الطمأنينة بين من يتغوط في الشارع عاريًا وَ من يتكشفُ طريق الحمام إن كان خاليًا؟ واختبر الطمأنينة بحمامة! الحمامة التي تجعلك تكتشف أن عمرك كلهُ كان واقفًا على قشة وها قد سقط ! متى يجب أن تكون مطمئنًا وراضيا؟ ومتى تستطيع التأكد من أن حياتك تسري بشكل جيد؟
كما قلّب استخدام الرموز حين استخدم رمز الحمامة هنا، كرمزٍ للفزع والقلق، بدل أن يستخدم البومة أو الغراب مثلاً، ربما يقول زوسكيند هنا أنه لا يوجد دعامة تستند إليها في الحياة إن حدث طارئٌ ما، أو ربما يقول أن الحياة تتحرك بأيدينا وأن لنا القدرة في فتحِ شباكِ الفوضى على أنفسِنا وإغلاقه، كما يعرض نظرية العلاقات الاجتماعية والعزلة، أيُّهما سيكون أرحم، لو كان جونثان شخصًا اجتماعيًا هل ستفزعه الحمامة كما أفزعتهُ وهو مُنطوي؟.