دفاعاً عن الكتابة

0 189

رشيد الخديري- المغرب

الكتابة هي لحظة تماهٍ وتماسٍ مع موسيقى الكون. الحياة بدون كتابة أشبه بالعزف على أوتار من الأنين، ولا حياة بدون كتابة، إلا في عقول هؤلاء الذين سَلِمُوا من جنونها وشغفها ونزيفها. الكتابة ترفع صاحبها نحو آفاق كونية، فهي مثل السحر تفعل ما تريد في النفس البشرية، فينقسم البشر إلى أصناف وأنواع وسلالات، وأعظم وأعمق هذه السلالة هي معشر الكُتَّاب. المبدع المُعَذَّبُ في الأرض، المُكتوي بلهيب الحرف والسؤال، المأخوذ بأبهة الخيال والكلام واللغة، والكلام على الكلام، إنصات وغوص في القعر المُجَوَّفِ للإنسان، وفوق ذلك كله، نزيف ووهج وقلق واختراق.

هذا القلق الوجوديّ هو ما يجعلُ الكتَّاب يَعيشون في برزخٍ عالٍ، وليس نَتَقَصَّدُ ها هنا البرزخ بمفهومه السلبي الاستعلائي، وإنَّما، طريقة التفكير، ونمط العيش، وأفق الإدراك والتفسير والتأويل، وذاك القلق الدائم، المُصاحب لكلِّ مبدعٍ أينما حلَّ وارتحل. ما تثيره الكتابة من لحظة اندهاشٍ وانغماسٍ وسموٍّ في المشاعر والأحاسيس، وهي تنزع عنها جُبَّة اللغة، وترتدي قُبَّعَة التخييل، هذا الحضور الأبديّ للقلق، هو ما يُشَكِّلُ صيرروة، كتابة فوق الكتابة، وهي تمضي حافرةً أخاديد عميقة في نُسْغِ اللغة. هنا بالذات، تكمن أهمية الكتابة، في تَلَمُسِ الطريق والكشف عن الثاوي من معاني الأشياء.

نداء الكتابة، أضحى اليوم، ضرورة وفعل وجود. إن “التفكير ما هو إلا تَمَلُّكٌ لمجهودنا في البقاء ورغبة في العيش” كما تَنَبَّهَ إلى ذلك بور ريكور، أليست الكتابة بهذا المعنى، نوع من الوجود المشروع في حضن اللغة؟ أليست هي المسكن الآمن من لحظات التيه والتشظي والهشاشة التي يعيشها الإنسان منذ بدء الخليقة؟ في تصوري، إن الكتابة أفق ومنفى وتأسيس للوجود بفعل العبارة، من هنا، نفهم أن القلق الذي يستولي علينا لحظة انبثاق المعاني من الأخاديد العميقة وتمثلها على شكل أشجانٍ ومساءلات ومفارقات وتجلًّ، هو ما يجعلنا قادرين على مزاولة فعل الكتابة/ الانكتاب/ اللغة/ الكلام/ تأسيس وجودٍ موازٍ، وبكثير من الجهد والإلحاح والتجديد، تصير الكتابة هي الوجود نفسه.

ليست في نيتي، حين أدافع عن فعل الكتابة، أن أدافع عن جنسٍ أدبي بعينه، أو أجعله محط الاهتمام والعناية دون الأجناس الأخرى، بل الكتابة في كلياتها وشموليتها تفرض النظر في كل المسلمات، كأنها تحدث لأول مرة، وأن مجالات المعرفة والابتكار، هي مجالات واقعة في صلب الانشغال اليومي، في شؤون المبدع وحياته وشجونه وأحلامه، لا صفة عرضية، ولا هدنة مع الكتابة، إنها لحظة انكشافٍ وكشفٍ ومكاشفةٍ، بل هي حالة من الاطمئنان التي يعيشها الكائن مع شروط وجوده وانوجاده، ولعلَّ هذا ما يفسِّرُ حالة القلق الذي يَتَمَلَّكُ المبدع لحظة انغماسه في حبر الكتابة، قياساً بالآخرين. شيء ما في المبدع غير مفهوم، هل يتعلَّق الأمر بالاختلاف أم بترسباتٍ داخلية؟ أعني أن المبدع، كائن مختلف. مجدد.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.