من الميعاد إلى الشتات

الحركة الطُلابية الأمريكية

0 360

محمد فتيلينه – الجزائر

 

  منذ اليوم الأول لحراك طلبة الجامعات الأمريكية التي كانت جامعة كولومبيا شرارته الأولى، شعرَ الإعلام الغربي أن حجرا ما رُمي في المياه الراكدة. ولا أحد كان سيتصور بأن تلك الدوائر المائية ستتطور مع الأيام والأسابيع إلى أكثر من خيوط شفافة وهمية. لم تطُل المدة حتى نقلت وسائل التواصل الاجتماعي في أمريكا وأوروبا صور طلبة أعرق الجامعات الأمريكية وأكثرها تأثيرا، رافعين لافتة أيقونية (أوقفوا الابادة في غزة).

    تابع الملاحظون والجمهور الأمريكي عبر أكثر من وسيلة إعلامية ميلاد نسخة أخرى عبر لافتات الطلبة وهيئات التدريس-التي شاركت بشكل غير مسبوق لم تعرفه الولايات المتحدة الأمريكية حتى في ذروة المظاهرات المناهضة لحرب الفيتنام -إذ ليس من السهل على أيّ كان في الدّاخل الأمريكي نقض السردية الصهيونية، التي تطلّب ترسيخها في وسائل الإعلام والمنتديات ومراكز الدراسات- وبالتالي في الوجدان الأمريكي-عشرات السنين منذ حقبة ما بين الحربين وإلى يوم الناس هذا، لكنه وفي صورة أقرب إلى العبارة العربية “انقلبت السحر على الساحر”، ساهمت تلك المنابر نفسها ووسائل التواصل الاجتماعي نفسها في بلورة صورة مغايرة، ونقلت حقيقة ما يجري في فلسطين، وازداد لهيب التعاطف بعد رؤية  الرد العسكري المجنون للجيش الإسرائيلي على ساكنة غزة، وتمادي ساسة الدولة العبرية في تجاهل حلول التهدئة، بعد السابع من أكتوبر.

 استيقظ الرأي العام الأمريكي والغربي، على صورة معدّلة للمشهد النمطي (مظلومية الدولة اليهودية في إسرائيل) لتنتقل التنديدات بصورة أشبه بالدرامية من لدن المعارضين التقليديين للكيان وسياساته من أمريكا اللاتينية وأفريقيا وشطر كبير من آسيا، إلى الدّاخل الأمريكي المنضوي ضمنيا تحت راية السردية الإسرائيلية.

دوافع الحراك الطلابي:

     من زاوية أخرى، ليس غريبا أن دوافع حركة الطلابية هي بالأساس إنسانية لكنها لم تخلُ من عنصر سياسي، لا ريب أن محركه الأول هو الوعي المعرفي والمتابعة الفاحصة من لدن مرتادي أكثر الجامعات مكانة علمية وتأثيرا سياسيا. لذا فإن مسألة الشعارات المرفوعة من قبيل (أوقفوا الابادة، وتحيا فلسطين) لم تصدم الطبقة السياسية الأمريكية الحاكمة فحسب بل تجاوز الأمر مسألة غزة، وأشتد الصراع اليهودي-اليهودي داخل أمريكا وفي إسرائيل. كل ذلك وغيره جعل وسائل الإعلام الأمريكية تتماهى مع هذا النقاش والحراك، وأصبح هناك خيارين لا ثالث لهما، إما الاصطفاف مع خيار قادة إسرائيل وعلى رأسهم نتنياهو في دعمهم قتل الأطفال والعزّل أو المطالبة بوقف الإبادة.

تأثير التغطية الإعلامية:

    دهشة زمنية دامت ليوم أو يومين. كانت وسائل التواصل الاجتماعي مجبرة على تغطية حركة الطلبة، وتحليل دوافع مبادراتهم وأسباب امتداد موجة الاحتجاج إلى نظرائهم من جامعات الداخل والخارج. هكذا  إذن تدحرجت كرة الثلج واحتقنت بالتذمر والمطالبات الإنسانية، وهي تسلك دربها من كولومبيا إلى لوس أنجلوس مرورا بديترويت وتوسعت النقاش واتسعت دائرة المعارضة  والتظاهر لتشمل هيئة التدريس، إذ لعبت صورة رئيسة قسم الفلسفة بجامعة أطلنطا الأستاذة نوال ماك آفي Noelle Mc Afee  حينما تم سحبها من طرف الشرطة الفيدرالية دورا مهما في وسائل الإعلام الغربية، إذ جابت صورتها أغلب القنوات الأمريكية والبريطانية  وخُصص لهما هامش من تغطياتها، وهو ما تزامن مع حملات حثيثة تبناها مؤثرون وسياسيون أمريكيون يطالبون فيها العدالة بمتابعات قضائية لرئاسة جامعة كولومبيا التي انطلقت منها الشرارة، وكبتت في ساحاتها (أوقفوا الابادة في غزة). بدا أن الأمر ذاته هو الذي عجّل بفتح باب النقاش عن الجانب الأخلاقي في طريقة تعامل الولايات المتحدة الرسمية مع ما يجري في غزة، وعن ضرورة تفعيل المتابعات القضائية لكل الهيئات المنضوية تحي لواء وزارة الدفاع الإسرائيلية، مُتشجعين بمبادرة كل من جنوب إفريقيا والاكوادور عبر مطالبة الأولى بملاحقة قادة إسرائيل وإصرار الثانية على إيقاف اي شكل من أشكال المساعدة العسكرية للجيش الصهيوني. لم تتوقف إذن شعارات الطلبة ولافتاتهم عن ضرورة توقيف (الابادة في غزة) بل توسع الأمر إلى مطالبة هيئات التدريس ومسؤولي الإدارة بوقف تلقي التمويل من الجيش الإسرائيلي، وامتدت صيحات الوعي والنقاش المحترمة إلى مقارنة ما يجري في غزة بما يجري في أوكرانيا، وتكتل قوى الغرب ضد روسيا بحجة الغزو والقتل والارهاب، والقيام بالنقيض تماما مع إسرائيل في عملية إبادتها للفلسطينيين بغزة.

الوعي الطلابي وسردية إسرائيل:

   دفع هذا الوعي الطلابي- الذي ما زال يمتد من شرق أمريكا إلى غربها، وارتد الى ما وراء الأطلسي- الرأي العام الاسرائيلي نفسه وبنسبة 63% إلى الإعتقاد بأنه حان الوقت لاستقالة كبار القادة الأمنيين بسبب الفشل في 7 أكتوبر (مثلما نقلت صحيفة معاريف العبرية).

بعيدا عن “أرض الميعاد” يصرّ أولئك الطلبة وهم في الأغلب من اليهود-وبالأخص يهود الشتات-أن السردية الدينية القائمة على قيام إسرائيل استنفدت كل أوراقها وآن الأوان للاذعان إلى الحق الفلسطيني، الذي يتماهى وفق النظرية اليهودية الدينية مع عودة بني إسرائيل إلى التطهير، تجسيدا لنبوءة مغادرة الأرض المسلوبة والتسليم بأن الشتات الأبدي أكبر من ضرورة إذ أضحى ضرورة واقعية، وهو الأمر ما أجج- من جانب آخر- النداءات المطالبة برحيل بيضة القبان في الصراع الحالي (بنيامين نتنياهو)، الذي بات حجرة عثرة أمام الإسرائيليين أنفسهم، خصوصا أهالي المحتجزين وبين إيجاد تسوية مع المقاومين في غزة.

فشل حارس الأسوار:

    وسط لهيب الصراع وسادية القتل وآلته الصهيونية، تواصل فصائل المقاومة في غزة على رأسهم كتائب القسّام بتنفيذ خططها العسكرية، التي جعلت كثيرا من الخبراء الإسرائيليين يعترفون في كل مرة بتعقيدها ودقتها ومفاجأتها وما أدل على ذلك ما جاء في الصحافة العبرية (الأسبوع الفارط) من خلال أحد تحقيقاتها -نقلا عن موقع الجزيرة- حول الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي في توقع هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وما استخلصه من أن الازدراء والإنكار وتوقف جمع المعلومات عن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) لأكثر من عامين في الجيش الإسرائيلي قاد إلى طوفان الأقصى. ونقلت المصادر الإسرائيلية عن مسؤولين حاليين وسابقين أن الجيش توقف منذ مايو/أيار 2021 عن جمع المعلومات الاستخبارية عن اجتماعات القادة وتدريبات حماس بعد العملية التي سمتها إسرائيل آنذاك “حارس الأسوار”.

ويبقى السؤال: لمن ستكون الغلبة، لفلسفة الميعاد أم لنبوءة الشتات؟

 

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.