وجه القمر؛ من جديد!

0 545

نص:    جينيت ونترسن

ترجمة: بثينة الإبراهيم– سوريا

قدم والت ديزني عام 1955 عرضًا خاصًا لفيلمه الجديد “الإنسان والقمر”، أمام الرئيس إيزنهاور وضباطه في البنتاغون، وأعلنت الولايات المتحدة بعد ثلاثة أشهر من ذلك عزمها إطلاق قمر صناعي إلى الفضاء.

كانت أمريكا الخمسينيات قد قايضت مزيج جنون الارتياب من الحرب الباردة وقضية الديمقراطية، بأقصى الآمال التقليدية بالتقاط صورة على القمر. فقد نقلت الكتب المصورة والبرامج التلفزيونية التاريخ الشعبي ذا الرموز المؤثرة للحصان والبندقية، إلى هوس جديد بالسفينة والصاروخ الفضائيين ومسدس الأشعة.

كان والت ديزني من المتحمسين للفضاء، فجسدت مدينة “ديزني لاند” موضوعة المستقبل جنبًا إلى جنب موضوعة الكاوبوي، لذا فإنك حيثما تجولت فيها وأنت تتناول الفشار، كل ما عليك فعله أن تستبدل خوذة فضائية بقبعتك المصنوعة من جلد الأرنب، وكان التطور بهذه البساطة فقط.

لا تفصل الشخصية الأمريكية الكلمتين “علم” و”خيال” إن كان الحديث عن الفضاء، وقد تبين أن هذا تفوق هائل على مادية السوفييت. لا يحدث شيء بلا قصة، إذ لم يكن الأمر يتعلق بامتلاك الولايات المتحدة تقنية أفضل لأن السوفييت كانوا متقدمين في سباق الفضاء، لكن الولايات المتحدة كان لديها قصة أفضل، فقد نسجت الأحلام القديمة بالفضاء والقمر نسجًا أقوى بما يتناسب مع حاجة أمريكا ما بعد الحرب وما بعد القنبلة الذرية إلى قصة جديدة. كان القول “خطوة صغيرة يخطوها إنسان هي قفزة عظيمة للبشرية” هو بالضبط مثل قصة بطل البلدة الصغيرة المنقذ للعالم التي تشكل حمضهم النووي، وكان القمر هو المكان المناسب لإعادة كتابة القصة.

كتب كاتب الخيال العلمي آرثر سي كلارك1 بالفعل عن القمر المستعمر في رواية نور الأرض الصادرة 1955، وقد استوحى هذا العنوان من قصة غريبة لأسقف هيرفورد عام 1638، ينام فيها سكان القمر طوال النهار، وينتقلون بأشعة الأرض.

كان كلارك مشهورًا جدًا وقتها، فدعي عام 1969 -عندما أطلقت السفينة إلى الفضاء وهبطت على القمر أخيرًا- إلى كيب كينيدي (رأس كافانيرال) لأربع وعشرين ساعة في الأسبوع لقناة سي بي إس التلفزيونية. لقد كان كلارك كاتب خيال علمي، وهو من أرادت أمريكا الإصغاء إليه وليس إلى العلماء، ولم يخيب أملها. حين انطلق أﭘولو 11 في الفلك، قال كلارك: هذا آخر يوم في حياة العالم القديم”.

لم تمحَ قصص كمبوديا وﭭيتنام وكوبا والكوكلوكس كلان والحرب الباردة واغتيالات العام السابق لبوب كينيدي ومارتن لوثر كنغ، لكن القمر كان قصة ما قبل النوم المفضلة، فأسقطت كل مشاكل الأرض من العناوين الرئيسة، وهيمنت عليها قصص عن العالم الجديد.

وحين سمى الرئيس نكسون أسبوع القمر “الأسبوع الأعظم في تاريخ العالم منذ خلقه”، كان يعني ذلك حرفيًا، لكن وصفه هذا، بلا وعي، جُعل بمستوى القصص الأسطورية. ومن هنا كان البدء: كانت أقدم قصة كتبت عن القمر هي قصة لوقيانوس الإغريقي2 في القرن الثاني بعد الميلاد، إذ لم يصور القمر صخرة جرداء، بل “بلدًا عظيمًا في الفضاء، يشبه جزيرة مضيئة”. وقد ظل هذا القول في ذهن توماس مور3 حين كتب عمله الفلسفي يوتوبيا عام1515: “لقد كان لجزيرة يوتوبيا شكل قمر جديد…”

تصور معظم الكتّاب القمر مأهولًا من عرق يتفوق على جنسنا أخلاقيًا. فقد كتب دانييل ديفو -مؤلف روبنسون كروزو- رواية سياسية بعنوان الموحد عام 1705، وكان يمكن فيها السفر من الصين إلى القمر حيث تلقى البطل دروسًا ليكون حاكمًا جيدًا.

لم يعد عصر التنوير يقبل رؤية العصور الوسطى وعصر النهضة للقمر باعتباره مكانًا بعيد المنال، وكوكبًا يدور في الفضاء، إلا أن تصور القمر على أنه مدينة فاضلة ما زال مستمرًا. بعدما أطلق شوسر ترويلوس إلى القمر لينظر إلى عبث الحياة على الأرض – المجاز الذي استخدمه شكسبير ودانتي، بالإضافة إلى سبنسر في قصيدته ملكة الجن– تمكن البارون مونشهاوزن4 في القرن الثامن عشر من اللعب بالتأثير الكوميدي لعزلة القمر، بعيدًا عن الاهتمامات الأرضية.

لاحقًا، أصر كافكا في عمله الفذ فارس بكيت على استخدام فكرة الصعود نحو القمر بوصفه فضاء سعيدًا. وكان لإيتالو كالـﭭينو قصة مدهشة عام 1970- بعنوان ابنة القمر، يتعين فيها على جيش من الربات المتماثلات، اللاتي يجسدن نسخة حديثة من ديانا، إنقاذ القمر من قافلة لعربات القطر تحت جسر بروكلن. وحين حررنه، ارتفع القمر فجأة وذهبت معه كل الربات، وبمقدورك رؤيتهن يتأرجحن حوله إن أمعنت النظر كفاية!

ثمة الكثير من الحكايات الشعبية، من مثل الرجل على القمر، والأرنب الذي يعيش على القمر، والبقرة التي تقفز فوقه، والرجال الحاذقون الذين يحتجزون البدر في بئر، ثم يكتشفون أنه اختفى بعد أسبوعين. لقد كان الجنس البشري مولعًا بالقمر واختلق حكايا عنه باستمرار.

غير أن هذا الدافع لم يصبح مهيمنًا على السرد حتى القرن التاسع عشر. فقد كتب جول ﭭـيرن أكثر قصصه مبيعًا، من الأرض إلى القمر، عام 1865، إذ ينطلق فيها صاروخ من فلوريدا ويصل القمر ويسقط في النهاية في المحيط الهادي، واصفًا ما حدث بالفعل بعد 103 سنوات.

ولننتقل من النبوءات إلى الغرابة، فقد كتب قس أمريكي موحد يدعى هيل قمر القرميد عام 1869، حيث يطلق قمر من القرميد من صنع الإنسان إلى الفضاء بواسطة دولاب طيار ذي محرك مائي. يعيش الناس داخل هذا القمر بلا جريمة أو كحول ويتعلمون استعمار الفضاء. فتن الرئيس أولِس غرانت بهذا القمر القرميدي بحيث درس إمكانية بنائه، وقد أضفى السفر إلى الفضاء تقدمًا على الروح البشرية، حتى إنه دعي باسم الإنجيل المجنح.

وربما لم يكن هذا بعيد المنال، إذ صمم عام 1969 مهد عيد الميلاد المعروف في ميدان ناﭭونا في روما بتقليعة جديدة يظهر فيها رائد فضاء يركع أمام المسيح الطفل.

استمرت قصص القمر واستمرت، فها هم أول الرجال على القمر عام 1901، لجورج هربرت وِلز، يستخدمون درعًا مضادة للجاذبية للخروج من مدار الأرض. كما عثر الدكتور دولتل على إنسان ما قبل التاريخ يعيش في الخارج هناك عام 1928. وفي الخمسينيات هبط تن تن وسنوي في حفرة غامضة وواجه الدكتور خصومه المعتادين.  وفي روايته قصر القمر الصادرة عام 1978، ينقل ﭘول أوستر فكرة قديمة جدًا عن القمر بوصفه جزءًا من رقٍ كتبت عليه كل الكتب5.

تصف ألِس أوزوالد6 في قصيدة رائعة حديثة بعنوان سرنمة* قرب نهر سيـﭭرن علاقتنا الطويلة الوطيدة بالقمر، القمر الذي ما زال حتى الآن، في ظل كل انشغالات النهار، يمهر خيالاتنا الليلية. والخيال هو كل ما يتعلق بقصة القمر.

يتذكر الجميع قصة القردة العليا، في قصة آرثر سي كلارك أوديسا الفضاء 2001، التي تحلم بلمس القمر. وما زال كتاب كلارك أشهر سرد حديث عن القمر، ولا عجب أن يقول منظرو نظريات المؤامرة إن الأمر كله لم يحدث، وإن ستانلي كوﭘريك قد صوره في صحراء نيـﭭادا، لكن تلك حكاية أخرى!

  1. (1917-2008) كاتب خيال علمي بريطاني.
  2. (125-180)، أديب وبليغ يوناني.
  3. (1779- 1852) شاعر إيرلندي.
  4. جيفري شوسر: (1343-1400) شاعر إنجليزي. ترويلوس: شخصية أسطورية ذكرت في قصة حرب طروادة، وقد كتب عنها كل من شوسر وشكسبير. إدموند سبنسر: (1552-1599) شاعر إنجليزي. البارون مونشهاوزن: شخصية خيالية ابتكرها الألماني رودولف إريش.
  5. (1866-1946) كاتب إنجليزي. تن تن وسنوي: شخصيات كرتونية ابتكرها البلجيكي جورج رومي، والدكتور دولتل: سلسلة رسوم متحركة ابتكرها ديـﭭد دي ﭘاتي وفريز فرلنغ وآخرون.
  6. (1966) شاعرة إنجليزية.

* سرنمة = السير وهو نائم

جنيت ونترسن:

( مواليد 1958) أستاذة الكتابة الجديدة في جامعة مانشستر، كاتبة وروائية بريطانية صدرها ما يزيد على العشرين كتابًا. بالإضافة إلى جائزة ويتبريد الأدبية، كرمت ونالت جوائز في العديد من الدول.

بثينة الإبراهيم:

مترجمة وكاتبة سورية، صدر لها العديد من الأعمال منها الأخلاق في الحداثة السائلة (بالاشتراك مع د. سعد البازعي) عن مشروع كلمة، وأمريكانا لتشيممندا أدتشي عن دار روايات، وصاحب الظل الطويل لجين وبستر عن منشورات تكوين.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.