معطف النصوص الجميلة الحمّالة الأوجه الحاضرة بعمق دون تسلّط

0 259

 

جاسم الحاجي – البحرين

كتب كثيرة تصدر كل يوم، والمطابع نار لا تشبع في شرق الأرض وغربها، لكن القليل من هذه الكتب يستطيع شدّ القراء إليها شدًّا لا فكاك له، وتوجيههم نحو مساحاتها الخاصة، وخلق ذلك الرابط المشترك معهم، وذلك بحكم رصانة الطرح، وقوة الحجج، وسلاسة الأسلوب وجماله، والقدرة الاستثنائية على إثارة الجدل والنقاش، فتكون كمن يُلقي حجرًا في بركة ماء راكدة. وكتب د. نادر كاظم من هذا النوع.

التقيته في العام 1996 حين انضم إلى سلك التدريس في ثانوية أحمد العمران بالمنامة، قبل أن يلتحق بعمله التحريري والأكاديمي في جامعة البحرين، وكان وقتها يعدّ أطروحة الماجستير تحت عنوان “المقامات والتلقي”، وحصل بفضلها على درجة الماجستير بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف الأولى من جامعة البحرين. ومن يومها وهو أقرب أصدقائي حتى اليوم، وعشت معه سيرة أحلامه كلها تقريبًا. فبعد الماجستير صوّب نادر كاظم نظره تجاه الدكتوراة. وكانت بعنوان “تمثيلات الآخر: صورة السود في المتخيل العربي الوسيط”. وهي الأطروحة التي تحوّلت إلى الكتاب العمدة من بين كتب نادر كاظم، فهو القاعدة التي سوف تتأسّس عليها بقية الكتب والمشاريع. كل من قرأ الكتاب وقف مشدوهًا أمام ضخامة الجهد الذي بذله، فقدّم من خلاله عرضاً متقنًا وموثقًا ونقديًا ضد صورة السود النمطية في المتخيل العربي في العصور الوسطى. رسم هذا الكتاب رؤية نادر كاظم واضحة المعالم لخطواته المقبلة ولغاياته البعيدة ومراده. كان هذا الكتاب هو الحجر الذي رماه في تلك البركة الراكدة، فاتسعت حلقاتها وتمددت، فكانت كتبه اللاحقة عبارة عن حلقات يتصل ببعضها ببعض، وتبقى كلها على قرب وثيق بما قبلها وما بعدها.

هذا هو المشروع الذي تبناه منذ بداية طريقه، ولم يحد عنه حتى اليوم، وعلى أساسه تمكّن من خلق قاعدة متينة مستندة إلى دعائم صلبة. ومن هنا يأتي اهتمامه بالأقليات المضطهدة والمجاميع المهمشة، والكونية الإنسانية، والفضاء العام ومساحات التلاقي المشترك، والعيش السمح المشترك بين مختلف الإثنيات والديانات، وحقوق الآخر، وبناء الدولة الحديثة، والأمة وتكوينها وانهيارها، و”استعمالات الذاكرة”، و”تاريخ الأشياء”، و”كراهيات منفلتة”، و”إنقاذ الأمل”، و”خارج الجماعة”.

تقدّم كتب نادر كاظم معالجة رصينة ومنهجية موضوعية تزيح الالتباس، وتطيح بالكثير من المسلمات والموروثات الاجتماعية والثقافية والسياسية وغيرها من القضايا الشائكة التي تهتم بقضايا الإنسان بشكل عام، والإنسان العربي بشكل خاص. والمتتبع لكتبه والناهل من فيضها يدرك جيدًا أنه أمام فكر تنويري أصيل ورصين.

الأفكار مهمة في كتب نادر كاظم، لكن الأسلوب لا يقل أهمية عنها، فتراه ينتهج أسلوبًا أدبيًا سلسًا حتى يستطيع الوصول القارئ، فيكون حينًا سهلًا ممتنعًا كما في كتابه “لا أحد ينام في المنامة”. وهو كتاب حفر اسمه في قلب المنامة، ناسًا ومكانًا وتاريخًا، ورجع فيه إلى سجلات وأرشيفات كثيرة من الأرشيف البريطاني إلى الشهادات الحية، إلى الصور الفوتوغرافية التي اجتهد في الحصول عليها، إلى الخرائط. وأحيانًا تأخذ كتب نادر كاظم منحى فلسفيًا وتنظيريًا ككتابه “أمة لا أسم لها” الذي أصّل فيه لمفهوم الأمة، وبنائها وتفككها، مع تطبيق ذلك على حالتي بناء الأمة في العراق والبحرين.

يدرك القارئ جيدًا أن مؤلفات كهذه بحاجة إلى قراءة معمقة، وتمعن من الغلاف إلى الغلاف، ولأني أعرف مدى حرصه حتى على تصميم أغلفة كتبه، فهو لا يترك صغيرة أو كبيرة في كتبه لتقدير الآخرين.

يمكن النظر إلى كتب نادر كاظم على أنها نصوص جميلة، فهي قادرة على فرض حضورها في ذهن المتلقي، لكن لكنها نصوص حمّالة أوجه، وعلى القارئ أن يكون قادرًا على تحمل عناء التأمل، والتعمق في مضامينها، فهي تثير الكثير من الجدل والنقاش فور صدورها، كما أنها تقدّم نفسها أمام القارئ دونما دكتاتورية وتسلّط، وهي تخلو، على جمالها وسلاستها، من حشو المعلومات، والتعبيرات الإنشائية الفضفاضة التي تضلل القارئ، وتدبّج الجمل وراء الجمل دون أن تقول شيئًا مفيدًا.

“بانيان البحرين: عن التاريخ والتجارة والدين والحياة المدنية” هو الكتاب الأخير الذي انتهى نادر كاظم من كتابته، وقد يرسله للطباعة قريبًا، وهو عن واحدة من أهم الجماعات التجارية في تاريخ البحرين الحديث. وأعرف أنه يعكف حاليًا على كتاب بعنوان “ما الأمة؟”، وهو كتاب سيضم النصوص المرجعية الأساسية حول قضايا الأمة، والتي يقوم بترجمتها، وتقديمها في كتاب سيرى النور عما قريب.

يدرك المتتبع لمؤلفات نادر كاظم أنها كتب “دسمة” وثرية وجدلية وسلسة. وهذه في رأيي وصفات نادر السحرية في كتبه، وجواز مروره إلى شريحة كبيرة من القراء، لا في الخليج فحسب، بل يتعدى ذلك إلى القارئ العربي من العراق إلى المغرب. وقد شكّلت كتب نادر كاظم لنفسها قاعدة قرائية متينة وواسعة في العالم العربي، فيحرص قراؤه على ملاحقة إصداراته بشغف واهتمام كبيرين.

تُرجم له حتى الآن كتاب “لا أحد ينام في المنامة”، إلى اللغة الإنجليزية لكن طريق نادر كاظم إلى العالمية يمرّ من خلال الطبعة الإنجليزية من كتابه الكبير “تمثيلات الآخر” الذي سيصدر قريبًا عن دار نشر كندية محترمة، وسوف يعرف قرّاء العالم فكره النقدي المتميز ونتاجه الغزير والإنساني العابر للإثنيات والحواجز المصطنعة. “كلنا خرجنا من معطف غوغول”، هذه واحدة من أشهر المقولات في تاريخ الأدب الروسي، وتنسب عادة إلى فيودور ديستوفيسكي. وبالنسبة إلى نادر كاظم، فإن “معطف غوغوله” الذي خرجت منه جميع إصداراته أو جلّها هو هذا الكتاب الذي كان بمثابة الرحم الأول لبقية الكتب!

 

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.