الأشياء أحيانا ليست كما تبدو عليه

0 139

نادر كاظم – البحرين

-1-

لا يمكن إنكار الدور الذي لعبه ذلك “التسهيل اللامتناهي لوسائل المواصلات” والاتصالات في تقريب البشر، وتقليص المسافات، وتجاوز الحدود الجغرافية التي كانت تفصل بينهم، إلا أن هذا لا يعني، بالضرورة، زوال عزلة الجماعات؛ لأن الجماعات قد تتساكن وتتجاور في المكان، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة، أنها تتعايش وتتواصل فيما بينها. وبدل العزلة المكانية سنكون أمام عزلة تواصلية. ويمكن لهذه العزلة التواصلية أن تعيد إنتاج نفسها بالتوسل بتكنولوجيا الاتصال والإعلام، وذلك حين لا يجد أبناء هذه الجماعات حاجة ملحة إلى التواصل إلا مع نظرائهم من أبناء جماعتهم فقط، وحين يتوسل هؤلاء بأحدث تقنيات الاتصال لا لشيء سوى خدمة التواصل الخصوصي المغلق فيما بينهم، وتعزيز الروابط أبناء جماعتهم فقط. وعلى الشاكلة ذاتها، فإن المجال العام قد يصبح عديم الأهمية حين يكون مجزّأً بحيث يكون لكل جماعة فضاءاتها وفضائياتها وإذاعاتها وصحفها ومواقعها ومنتدياتها الإلكترونية الخاصة بها. وفي مثل هذه الظروف يمكن لذلك التسهيل اللامتناهي لوسائل المواصلات والاتصالات، ولذلك المجال العام المجزاً أن يؤديا وظيفتهما بطريقة عكسية، فبدل أن يعززا التواصل والانفتاح والعيش المشترك، بما يؤدي إلى زوال الفواصل وكبت الكراهية، إذا بهما يعمقان عزلة الجماعات الافتراضية والمتخيلة، ويعيدان إنتاج الفواصل والتنافر والكراهيات والحساسيات المتبادلة

لماذا نكره، دار سؤال، 2018، ص (19-20)

-2-

إن غياب أدوات التوحيد وبناء الأمة لا يعني أن الناس سيعودون إلى مربعاتهم الطائفية الأولى؛ لأن الطوائف التقليدية لم تعد كما كانت بعد أن خضعت لكثير من التسييس والتثوير العابر للحدود الوطنية. كما أن غياب أدوات التوحيد المعتادة قد يفسح المجال أمام صعود قوة توحيد من نوع آخر وهي موجودة في مكان آخر، وتحديدًا في تلك المصائب اللائي “يَجمَعنَ المُصابينا” عادةً. فقد تقود ضغوط الحياة الاقتصادية، وانخفاض مستويات المعيشة نتيجة التضخم المحلي وتراجع أسعار النفط عالميًّا، والمستقبل المجهول الذي ينتظر أصحاب المعاشات التقاعدية، وينتظر أبناء الطبقة الوسطى والدنيا بعد رفع الدعم الحكومي عن السلع الأساسية وعن البترول والكهرباء، قد تقود هذه الضغوطات و«المصائب» التي ما عادت تميّز بين طائفة وأخرى إلى ضرب من ضروب التوحيد بين «المصابينا»، إلا أن خطر هذا النوع من التوحيد يكمن في أنه عادة ما يكون قوة تدمير لا أداة بناء، قوة تدمير لكل الترتيبات الدولتية القائمة سياسية كانت أم اقتصادية. فإذا كانت المعاناة المشتركة تصنع الأمة كما يقول إرنست رينان، فهل تعيد هذه المصائب المشتركة تلك الوحدة المفقودة بين الجماعة الوطنية التي تقاسمت طبائع الطيبة والأريحية والمسالمة والانفتاح وقبول التنوع المغروس في تكوينها بفعل حقائق التاريخ والجغرافيا؟

ماذا عن حقائق التاريخ والجغرافيا؟ مع الأسف الشديد، التاريخ قابل للنسيان، وحتى إذا ما تمّ تذكره فلإعادة إنتاج الانقسامات، بما يجعله عبئًا على بناء الأمة، وعامل تفكيك لا عامل توحيد وبناء. أما الجغرافيا فقد جرى تحييدها بفعل العولمة والتسهيل اللامتناهي لوسائل الاتصالات والمواصلات، ماذا بقي إذن؟ بقي التذكير بأننا سنصير شعباً إن أردنا كما قال محمود درويش، وبما أن الأمة مبدأ معنوي، فهي تعبير عن إرادة البشر في مواصلة العيش المشترك، وعن مدى التزامهم بالعيش سويّةً في دولة واحدة. إن غياب مثل هذه الإرادة ومثل هذا الالتزام إنما يقرع جرس الإنذار بأننا صرنا أقرب من أي وقت مضى إلى مرحلة تفكك الأمّة، والعودة إلى نقطة الصفر.

أمة لا اسم لها، دار سؤال، 2022، ص 350-351.

-3-

صحيح أن كل المدارس النقدية الحديثة من بنيوية وما بعد بنيوية، كان لها إسهامها المميز في انفتاح موضوعات الاشتغال النقدي، إلا أن الصحيح كذلك أن كل الذي أنجزه هذا الانفتاح هو تحويل الظواهر والأحداث والأشياء والأفكار والخطابات إلى مجرد نصوص، الأمر الذي يعني انتزاعها من حضورها المادي الفعلي، فصار بإمكان أي ناقد أن يكتب عن «الإرهاب بوصفه نصًّا»، أو عن «داعش بوصفها نصًّا»، أو عن «المذبحة بوصفها نصًّا»، أو عن «حرب غزة بوصفها نصًّا»، أو عن «انتفاضات الربيع العربي بوصفها نصًّا»… إلخ. صار كل هذا ممكنًا، إلا أنه لم يسهم إلا في إغراق هذه الوقائع الخطيرة والمؤلمة في نصوصية ناعمة ورقيقة، ولعوب حدّ العبث والخواء والتفاهة.

تنبّه والتر بنيامين وهو يختم مقاربته الرائدة حول «العمل الفني في عصر الاستنساخ الآلي»، إلى أن الدولة الفاشية -وهي المعادل الغربي للدولة العربية التسلطية- تلجأ من أجل حماية ملكيتها للثروات والسلطة إلى «تنظيم الجماهير البروليتارية الحديثة النشأة دون التأثير على بنية الملكية التي تتوق الجماهير إلى تصفيتها» وبدل من أن تتنازل هذه الفاشية للجماهير عن حقها في تغيير علاقات الملكية، فإنها تعمد إلى إعطاء هذه الجماهير الفرصة للتعبير عن نفسها، وذلك من باب التنفيس وبما يمكّن الفاشية من «الاحتفاظ بالملكية» في حين تتلهّى الجماهير بتمتعها بفرصة التعبير الممنوحة لها.

و «النتيجة المنطقية» لهذا هي «إدخال الجماليات إلى الحياة السياسية»، وهو ما يتجسّد عادةً في تجميل السياسة والعالم، وتنصيص الحياة والواقع والتجارب والأحداث، أي التعامل مع كل ذلك على أنه مجرد نصوص!”

يعكس هذا النوع من “تجميل العالم” وتنصيص الحياة والواقع، حالة جديدة من برودة الشعور، وفقدان الحس، وانعدام الإحساس بالعالم خارج الكتابة. وإلا كيف يستطيع أي ناقد أن يكتب “عن جماليات المكان في الرواية الفلانية”، دون أن يقول شيئا حول ما يجري في هذا البلد من انتهاكات ومعاناة؟ هل يستطيع أحدنا أن يتخيل ذلك؟ نعم، يستطيع ذلك! وذلك إذا كان الناقد فاقد الإحساس أو لامباليًا بمن حوله وبما يجري حوله!

هذه عزلة تؤسس لضرب من اللامبالاة تجاه العالم وحوادثه المؤلمة، وتجاه البشر ومعاناتهم القاسية. إلا أن هذه اللامبالاة ستصبح سيدة الموقف في هذا النوع من المثقف وكأن اللامبالاة هي النتيجة الحتمية لتلك الجمالية المفرطة والنصوصية المعممة.

من حوار مع مجلة الكلمة (العدد 111، ربيع 2021)

-4-

«التمثيل» و«المتخيل» و«مسألة الآخر» هي مفاهيم تحتفظ بدرجة عالية من الترابط، غير أن محاولة تعريف أي منها محاولة محفوفة بالمخاطر والصعوبة. ولكن لا مناص من توضيح مقصودنا من هذه المفاهيم. أما التمثيل فهو ضرب من العمليات التي تدور حول طريقتنا في النظر إلى أنفسنا وإلى الآخرين، وطريقتنا في عرض أنفسنا وتقديم الآخرين أو عرضهم أو استحضارهم كما تصورتهم الثقافة التي تمارس التمثيل، أما وسائل التمثيل فهي متعددة ولكن أبرزها وأخطرها الكتابة والقول، أي الكتابة عن هذا الآخر بالنيابة عنه والتكلم باسمه، وهو ما يعني مصادرة تاريخ هذا الآخر وثقافته وحقه الطبيعي في الحديث عن نفسه أو في تمثيل ذاته بذاته.

أما المتخيل فهو مفهوم معقد وذو مدلولات متسعة، وله امتداداته في كل من النقد الأدبي والأنثروبولوجيا وعلم التاريخ الحديث (أي ما يعرف بتاريخ العقليات) وعلم النفس الاجتماعي، ويرى البعض أنه مفهوم تم بلورته كرد فعل على التطرف المادي الذي يميز الماركسية التقليدية في دراسة التاريخ وعلاقات البشر، فليس الاقتصاد أو العامل المادي هو وحده الذي يحسم حركة التاريخ ويحكم العلاقات بين الأفراد والجماعات والطبقات والثقافات، فالعامل الرمزي أو المتخيل يلعب دوراً لا يقل أهمية في ذلك. والمتخيّل كمفهوم يشير إلى شيء متشكل تاريخياً في اللاوعي الثقافي للأمة، وهو قابل للاستثارة والتحريك كلما دعت الحاجة إلى ذلك. وهو بحسب عبارة كاستورياديس، “لا يعني الأوهام، إنه يعني الدلالات الكبرى التي تجعل المجتمع يبدو متماسكاً ككل”. والمتخيل لدى بول ريكور هو رديف الأيديولوجيا، أي الأيديولوجيا بوصفها نسقاً من الأفكار والتمثيلات الجماعية التي تحمل الوهم والزيف، والإشارة إلى الواقع في الوقت ذاته. أي إنها بمثابة “الواقع الوهمي” كما يقول التوسير. وإذا أردنا تحديد مفهوم “المتخيل” فإننا نقول إن المتخيل كما نستخدمه هنا هو عبارة عن نسق مترابط من الصور والدلالات والأفكار والأحكام المسبقة التي تشكلها كل فئة أو جماعة أو ثقافة عن نفسها وعن الآخرين. فكل جماعة تشكل صوراً وأحكاماً عن الجماعات الأخرى ويتم ترسيخ هذه الصور والأحكام في الوعي أو اللاوعي الجماعي بمرور الزمن وبالقوة المادية أو الثقافية التي يتمتع بها التمثيل.

أما الآخر فهو الكائن المختلف عن الذات، وهو مفهوم نسبي ومتحرك؛ ذلك أن الآخر لا يتحدّد إلا بالقياس إلى نقطة مركزية هي الذات، وهذه النقطة المركزية ليست ثابتة بصورة مطلقة، فقد يتحدّد الآخر بالقياس إليّ كفرد، أو إلى جماعة معينة قد تكون داخلية كالنساء بالقياس إلى الرجال، والفقراء بالقياس إلى الأغنياء، أو خارجية بالقياس إلى المجتمع بصورة أعم وما يعنينا هنا ليس الآخر في الواقع بقدر ما هو صورة الآخر في المتخيّل، ومعروف أن صورة الآخر ليست الآخر، صورة الآخر بناء مشكل في المتخيّل وفي الخطاب، أما الآخر فهو الكائن الذي يتحرك في الواقع. والصورة ليست هي الواقع، غير أن الصراع حولها من رهانات الواقع. إن الصورة اختراع واختلاق وتلفيق وفبركة، والواقع ليس كذلك إلا حينما يتم تصويره وتمثله وتمثيله وتخيله. وليس معنى ذلك أن المتخيّل هو النقيض الحاسم للواقع، فالمتخيل، في أحد أبعاده، جزء مندغم في الواقع وبُعد مكوّن الميدان الممارسة إلى درجة يصعب فيها التمييز بينهما، فكثير من الثقافات تعيش في الواقع بواسطة المتخيل، وأخرى تعيش في المتخيّل الذي يعاش كواقع، أو هو الواقع المتخيل.

تمثلات الآخر: صورة السود في المتخيل العربي الوسيط، المؤسسة العربية للراسات والنشر، 2004، ص (19-21)

-5-

علينا أن ننتبه إلى قضية تأسيسية لتعديل نموذجنا التفسيري للموالاة والمعارضة، وهي أن نشوء الموالاة والمعارضة كمواقف سياسية يفترض وجود موقع سياسي ثابت نسبياً إلا أنه يتعرض لمضايقات تأتيه من أطراف إما أنها تهدد وجوده بالزوال بالقوة وهذا ما يفعله المتمردون والثوار والطامعون في الحكم، أو إنها تضغط من أجل إصلاح نظام سياسي قائم أساساً على الشرعية المعترف بها، وهذا ما تفعله المعارضة. ونتيجة لهذين التهديدين الداخليين فإن هذا الموقع السياسي يجد نفسه مضطراً إلى تحفيز جماعات – ربما تكون نائمة – لتنشط في الفعل السياسي بشرط أن تكون هذه الجماعات مستعدة لبيع ولاءها وتأييدها مقابل مكاسب وامتيازات تتحصل عليها، وهذه هي الموالاة.

وبناء على هذا فكل نظم العالم السياسية الشمولية والديموقراطية تعرف ظاهرة المعارضة بالضرورة، إلا أن أنظمة الحكم الديموقراطية تتفرّد بكونها لا تعرف شيئاً اسمه الموالاة على خلاف أنظمة الحكم غير الديموقراطية. لأن الديموقراطية لا توجد إلا في سياقات متغيرة باستمرار، فالرئيس يتغير، والحكومة تتغير والسياسات تتغير، مما يعني أن هذا الموقع السياسي ليس ثابتاً بل هو متغير بتغير الرئيس أو الحكومة أو السياسات، وإذا كان هذا الموقع السياسي متغيراً فإنه لا يرقى لأن يكون مرجعية سياسية دائمة، ولهذا تنعدم الحاجة إلى وجود جماعات موالاة، لأن الموالاة تفترض ثبات الموقع السياسي من أجل ضمان استحصال المنافع والمكاسب والامتيازات والخيرات بصورة دائمة. وهذا ما نعنيه حين تقول بأن الموالاة هي عملية استثمار طويل الأجل، وستوضح – لاحقاً – أن الموالاة أكبر من كونها عملية استثمار طويل الأجل؛ إذ إنها تؤول مع الزمن لتصبح بمثابة استيلاء مقنع على الدولة بخيراتها العامة؛ وذلك لأنها تحاول أن تخفي طابعها الطفيلي والنفعي والانتهازي أقول “طفيلي” لأن الموالاة ليست حالة طبيعية ولا هي ضرورية في النظام السياسي، ولأنها في الغالب لا تنشأ بصورة ذاتية مثل أي تطور طبيعي للأشياء، ولأنها تعتاش على ما تربحه من امتيازات مقابل ما تبيعه من ولاء. وأقول “نفعي وانتهازي” لأن أساس وجود جماعات الموالاة أنها تتحصل على منافع ومكاسب وامتيازات مقابل بيع ولائها فقط، وإذا ما أراد الموقع السياسي – الحاكم أو الحكومة – أن يتحقق من هذه الحقيقة فليجرب أن يمنع عن هذه الجماعات ما تتحصل عليه من عدد الامتيازات والخبرات العامة. ومن المؤكد أنه لو حصل هذا فسوف ينكشف ما بهذه الجماعات من طفيلية ونفعية وانتهازية تسعى إلى التستر عليهما من خلال دعاوى فارغة وزائفة من قبيل حماية النظام السياسي ضد محاولات الاستيلاء على الحكم من قبل هذه الطائفة أو تلك الجماعة. أقول إن هذه دعاوى مزيفة لأنها تخفي وراءها حقيقة أخرى وهي أن الموالاة باقية ببقاء ما تتحصل عليه من امتيازات فقط.

استعمالات الذكرة في مجتمع مبتلى بالتاريخ، مكتبة فخراوي، 2008، ص (49-5)

-6-

ليس مصدر الخطر في هذا أن المستقبل المحتمل أصبح مجهولاً بالنسبة إلينا كما كان حاله طوال التاريخ البشري، بل على النقيض من هذا، أصبح مصدر الخطر يكمن في كون المستقبل أصبح معلوماً، وربما معلوماً أكثر مما ينبغي. الأمر الذي دفع بنا إلى الاعتقاد بأننا صرنا على أعتاب تحوّل جذري في علاقتنا مع الزمن، وتحديداً في علاقتنا مع حاضرنا الماثل بكل ثقله وبؤسه، مستقبلنا الذي كنا ننتظره بتوق رومانسي كبير. لقد كانت الأجيال السابقة (تعيش وتفهم وتتعامل) مع حاضرها على أنه لحظة انتقالية ومحطة عبور باتجاه مستقبل تتوقع أنه سيكون أفضل. ربما كان هذا الحاضر طويلاً وشاقاً، إلا أنه لا يمكن أن يكون رازحاً ومتوقفاً ومتجمّداً إلى الأبد؛ لأن الأبد هو آخر نقطة على مسار مستقبل لا يكف عن مفاجأتنا دائماً. بل يمكن القول بأن كل الفعل البشري الخلاق في التاريخ الحديث على الأقل، كان مسكوناً . بهم إنجاز الحاضر بوصفه عبوراً وانتقالاً – وانتقالاً متلهفاً ومشبوباً – إلى مستقبل أفضل قادم لا محالة، ويتجدد باستمرار، وتُعلّق عليه كل الآمال الكبيرة. فهل فقد المستقبل سحره حقاً؟ وهل تحوّل إلى كابوس؟ ثم ما معنى أن يفقد المستقبل سحره أصلا؟

[….]

 ربما اكتسب المستقبل كثيراً من سحره من غموضه ومن كون البشر عاجزين عن توضيحه ومعرفة الكثير عنه، وبتعبير آخر، اكتسب المستقبل سحره من وجوده ،تحديداً، خارج إطار عملية العقلنة والتوضيح التي تحدث عنها ماكس فيبر إلا أن هذا لن يطول، فالمستقبل لن يبقى بمنأى عن عملية العقلنة المتصاعدة، كما أن التفكير في المستقبل وإخضاعه للفحص لمعرفة ما يمكن أن يستمر أو يتغيّر أو يستجد فيه من أحداث واتجاهات ومتغيرات، إخضاع كل هذا للدرس والتحليل والتفكير العقلاني كان في صلب اهتمام فرع مستجد من المعرفة، وهو فرع كثر الحديث العربي عنه بدءاً من ثمانينات القرن العشرين، وهو «علم المستقبل» أو «دراسات المستقبل» أو «المستقبليات» أو «الدراسات المستقبلية». إلا أن هذا النوع من عقلنة المستقبل وإزالة الغموض الذي كان يمنح المستقبل الكثير من سحره الخاص، بقي محدوداً ومعزولاً وبعيداً عن التوسع العمومي القادر على تشكيل مزاج عامة الناس، وذلك بحكم انكفاء هذا المجال المستجد إلى مجال منغلق على لغة تقنية واختصاصية وملغزة ومعنية بالدرجة الأولى، بالبرامج والإجراءات والسياسات والسيناريوهات والبدائل العملية ذات الطابع الجزئي والدقيق.

لكن العامل الأهم في «إزالة السحر عن المستقبل»، يكمن في تآكل السرديات الكبرى التي كانت تملأ أرواح البشر بالأمل الكبير في قدرتهم على بلوغ أهداف عظيمة ستتحقق في المستقبل: التنوير، الثورة، التغيير، العدالة، الديمقراطية… إلخ. راسل جاكوبي يشخص هذه الظاهرة على أنها حالة من تلاشي الروح اليوتوبية في الزمن الراهن. وجاكوبي يدرك أن كلمة «يوتوبيا» قد تعرّضت لسوء فهم جعل منها، في أذهان الكثيرين، قرينة الجنون والانفصال عن الواقع حيناً، وقرينة الأنظمة الشمولية والديكتاتوريات حيناً آخر؛ ولهذا يسارع إلى تحديد ما يقصده بهذه الكلمة، فاليوتوبيا تعني، بكل بساطة، “الاعتقاد بأن المستقبل يمكن أن يتجاوز الحاضر بصورة أساسية” . هذه الروح اليوتوبية إما أنها تلاشت وإما أنها آخذت في التلاشي تحت ضغط «الإجماع الجديد» الذي يعمّم الاقتناع بأن التاريخ قد وصل إلى نهايته، وأنه لم يعد ثمة من بدائل أخرى، وأن المستقبل صار صورة طبق الأصل من الحاضر، ومن ثم فلا جديد ولا مفاجآت تنتظرنا في هذا المستقبل. وهذا إذا كنا محظوظين ولم ينزلق هذا المستقبل إلى ما هو أسوأ من الحاضر نفسه، بحيث يكون القادم أسوأ! لم يعد المستقبل لأنه يوتوبيا بل انقلب إلى عالم مضاد لليوتوبيا أو عالم من اليوتوبيا المقلوبة أو الديستوبيا dystopia.

إنقاذ الأمل، مسعى للنشر والتوزيع، ٢٠١٣، ص ص (٢٧١، ٢٧٣-٢٧٤).

 

 

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.