الترجمة والثقافة

0 904

سوزان باسنيت -بريطانيا

ترجمة: صالح الخنيزي- السعودية*

لماذا اتخذت دراسات الترجمة تحولا ثقافيا؟  

 منذ زمن بعيد، في عام 1990 على وجه التحديد، ساهم معي أندريه ليفيفر في كتابة مقدمة لكتاب يحوي مجموعة من المقالات تحت عنوان الترجمة، التاريخ، والثقافة. أردنا أن نوجه الأنظار إلى التغيرات التي اعتقدنا أنها تزيد في ترسيخ الأبحاث المتعلقة بدراسات الترجمة، تلك التغيرات التي سجلت تحولا بارزا من هيمنة المداخل الشكلانية إلى مداخل أخرى تركز بشكل أكبر على عوامل النص الخارجية. وقلنا بأن أطروحة ممارسة الترجمة قد تقدمت بخطى حثيثة وينبغي أن يكون التركيز عندئذ على مسائل أعم، لها علاقة بالسياق والتاريخ والأعراف وليس مجرد تباحث معنى الأمانة في الترجمة أو ما الذي يعنيه مصطلح “التكافؤ”. لقد تغيرت نوعية الأسئلة التي كانت تثار حول الترجمة:

دائما ما كانت تطرح أسئلة من هذا القبيل في الماضي: “كيف تُعَّلمُ الترجمة؟” وكيف تبحث؟” لقد كان أولئك الذين اعتبروا أنفسهم مترجمين غالبا ما يزدرون أية محاولات لتعليم الترجمة، وأما الذين زعموا أنهم يدَّرٍسُون الترجمة فهم لم يمارسوها في الغالب، لذلك كان لا بد منهم أن يعودوا إلى أسلوب التقييم القديم بوضع نص مترجم قبالة نص آخر وتفحص كلا النصين في خواء شكلي. بيد أن الأسئلة تغيرت الآن، وأعيد تعريف الغاية من الدراسة؛ فالشيء الذي يدرس هو النص المتجذر في شبكته المتضمنة للعلامات الثقافية المصدرية والمستهدفة

 (باسنيت وليفيفر، 1990)

عندما كتبنا ذلك، كنا مدركين تماما لوجود صدع قائم بين مداخل الترجمة اللسانية والأدبية، وارتأينا أن نتحدى تلكما الصعوبتين من وجهة نظر ملحة وإلزامية. في ثمانينيات القرن الماضي، كانت دراسات الترجمة تتطور بوصفها مبحثا مستقلا، عن طريق استخدام منهجيات تعتمد على بحوث اللسانيات والأدب المقارن، وشعرنا حينها، إلى جانب العديد ممن كانوا يشتغلون في مجال الترجمة، بأن الوقت قد حان لتوظيف المزيد من أدوات التاريخ الثقافي والدراسات الثقافية. إذا ألقينا نظرة إلى الوراء، سنجد أن مقدمتنا تبدو ساذجة وبسيطة، فدراسات الترجمة تطورت بسرعة هائلة في التسعينيات، وهي تحتل الآن مكانة راسخة في الأكاديمية بحيث لم تعد هنالك حاجة لالتماس إعادة النظر في قضيتها. ولقد سعينا إلى تقديم بعض الأطروحات ومنها – أن الترجمة تلعب دورا محوريا في تشكيل النظم الأدبية، وأنها لا تتم على محور أفقي (1)، وأن المترجم يشارك في مفاوضات ذات قوى معقدة (في توسطه بين الثقافات، إن جاز التعبير)، وأن الترجمة دائما ما تكون عبارة عن إعادة كتابة للأصل – وقد نوقشت موضوعات أبعد من ذلك بكثير من قبل باحثين أمثال مايكل كرونين، إدوين جنزلر، لورنا هاردويك، ثيو هيرمانز، تيجاسويني نيرانجانا، دوغلاس روبنسون، شيري سايمون، هاريش تريبيدي، إلسا فييرا، لورنس فينوتي وآخرون غيرهم. لقد أصبحت دراسات الترجمة موضوعا أكاديميا مقبولا، وانتشرت الكتب والمجلات المتخصصة وأطروحات الدكتوراة بسرعة أكبر مما يمكن لأي أحد قراءتها. وفي صميم جميع الأبحاث الجديدة والشيقة، أثيرت تساؤلات واسعة حول عدة بحوث مثل الأيديولوجيا والأخلاقيات والثقافة.

في عام 1990 لم نكن بأية حال أول باحثين يناقشان مسألة التحول الثقافي. منذ زمن أبكر كان ثمة توجه لتوسيع هدف الدراسة بعيدا عن إطار النص المباشر، في أعمال جماعة نظرية النظم المتعددة polysystems المستلهمة من ايتيمار ايفن زوهار، جدعون توري، وجيمز هولمز. وقد قُدِّمتْ أطروحات مماثلة في ألمانيا وكندا والبرازيل وفرنسا والهند، وإن كان ذلك من وجهات نظر مغايرة، إذ شرع المترجمون وباحثوا الترجمة بمهمة إعادة تعريف أهمية الترجمة في التاريخ الأدبي، واقتفاء أثر جينولوجيا الترجمة في سياقاتهم الثقافية الخاصة بهم، واستكشاف التداعيات الإيديولوجية للترجمة وعلاقات القوى المتضمنة بوصفها نصا ينقل من سياق لغوي إلى سياق لغوي آخر.

’’تنص نظرية الترجمة التي وضعها هانس فيرمر وكاترينا رايس أن الغرض من الترجمة أو وظيفتها هما ما يحددان الاستراتيجيات التي ينبغي استخدامها’’

كانت نظرية النظم المتعددة تعنى أساسا بالترجمة الأدبية، لكن باحثين آخرين ممن تضمنت أعمالهم موضوعات غير أدبية انتهجوا مسارات متوازية. تطورت نظرية الغرض skopos theory في الترجمة، على سبيل المثال، على يد هانس فيرمر وكاترينا رايس وآخرين. وتنص نظرية الترجمة التي وضعها هانس فيرمر وكاترينا رايس بالإضافة إلى آخرين، أن الغرض من الترجمة أو وظيفتها هما ما يحددان الاستراتيجيات التي ينبغي استخدامها. وعليه، فإن ذاتية المترجم تحظى بالأولية، كما أن الوظيفة التي تهدف الترجمة إلى تحقيقها في الثقافة المستهدفة، تمكن المترجم من اتخاذ خيارات محددة أثناء عملية الترجمة. وهذا المنظور بعيد كل البعد عن نظريات الترجمة التي تركز على الثقافة المصدرية، ويمكن أن يعبر عنها أيضا بأنها تعكس تحولا ثقافيا. في هذا الصدد يكتب إدوين جنزلر ملخصا دراسات الترجمة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي:

إن أبرز تحولين في التطورات التنظيرية لنظرية الترجمة على مدى عقدين هما (1) التحول من النظريات الموجهة للنص المصدري إلى النظريات الموجهة للنص المستهدف (2) والتحول إلى إدراج العوامل الثقافية إلى جانب العناصر اللغوية في نماذج التدريب على الترجمة. وكان أولئك المدافعون عن المناهج الوظيفية روادا في كلا المجالين. (جنزلر، 2001: 70)

ما هو واضح الآن، عند مراجعة الوقائع الماضية، أن التحول الثقافي كان ظاهرة فكرية غزيرة، ولم يكن يحدث بأية حال في دراسات الترجمة فقط. ففي العلوم الإنسانية بشكل عام، كانت الأسئلة الثقافية تكتسب أهمية متزايدة. شهدت اللسانيات كذلك تحولا إلى الثقافة، مع تصاعد تحليل الخطاب، كما عبر دوغلاس روبنسون (2002)، بالابتعاد عن اللسانيات التقريرية Constative Linguistics إلى اللسانيات الأدائية Performative Linguistics. ويمكننا القول بأن تزايد الاهتمام بلسانيات المتون corpus linguistics، تحت ريادة منى بيكر، هو مظهر آخر من مظاهر التحول إلى الثقافة في اللسانيات.

في الدراسات الأدبية، سيطرت المداخل الثقافية منذ زمن بعيد على زمام الأمور، بدءا من المداخل الشكلانية formalist approaches إلى الدراسات النصية textual study. وأما من مرحلة ما بعد البنيوية فصاعدا، فإن الموجات العاصفة لمداخل الأدب الجديدة التي اجتاحت العقود الأخيرة من القرن العشرين، كانت بأجمعها تتسم ببعد ثقافي: كالنسوية، ونقد الدراسات الجندرية، والتفكيكية، ودراسات ما بعد الاستعمار، ونظرية الهجنة. اتخذت الدراسات الأدبية طرائقا من الدراسات الثقافية، مشوشة الخطوط الفاصلة ما بين مجالات البحث التي كانت مميزة في السابق.  خضع التاريخ أيضا لتحول مشابه، مع إيلاء المزيد من التركيز على التاريخ الثقافي والاجتماعي، وتوسيع المجالات التي كانت هامشية في السابق

مثل تاريخ الطب، وتاريخ الأسرة، وتاريخ العلوم. وأما الجغرافيا الثقافية فقد أدت إلى نشوء نهضة في الجغرافيا بوصفها مبحثا. ومع تزايد نطاق هذه الدراسات، أعيدت تسمية أقسام اللغات الحديثة للتأكيد على المدخل الثقافي. وأبانت الأقسام الكلاسيكية عن جيل جديد من الطلاب الذين كان جلّ اهتمامهم بالمبحث مأخوذا بدراسة العلاقة بين الثقافات القديمة والمعاصرة.

وتشير لورنا هاردويك، الباحثة في اللغة اليونانية القديمة ومؤلفة لكتاب يتحدث عن الترجمة ما بين الثقافات، أن فعل ترجمة الكلمات “ينطوي في حد ذاته على ترجمة أو نقل شتلة إلى الثقافة المستقبلة للإطار الثقافي الذي يجّذَّرُ فيه نص قديم. (هاردويك، 2000:22). وتسوق هاردويك حججا واضحة المعالم لصالح الترجمة بوصفها أداة تغيير، وبذلك ينصب تركيزها على طلاب اللغات الكلاسيكية في الوقت الراهن. وتضيف بأن المهمة التي يواجهها مترجمو النصوص القديمة، أن يقدموا ترجمات تذهب لما وراء المعنى المباشر للنص وتسعى إلى الإفصاح بطريقة أو بأخرى (وتستخدم هاردويك استعارة ’ نقل الشتلات’، التي استوحتها من شيلي (2) )، الإطار الثقافي الذي يجذَّرُ فيه ذلك النص. بالإضافة إلى أن الترجمة هي التي تمكن القراء المعاصرين من بناء الحضارات المفقودة. وهي البوابة التي يمكن من خلالها الولوج إلى الماضي.

وعليه، يمكن اعتبار التحول الثقافي في دراسات الترجمة بوصفه جزءا من التحول الثقافي الذي كان يحدث في كافة العلوم الإنسانية في أواخر الثمانينيات والتسعينيات، مما أدى إلى تغيير بنية العديد من المباحث التقليدية. ففي دراسات الترجمة، مهدت نظرية تعدد النظم الطريق إلى التحول الثقافي آنذاك، مع أن جذورها تعود إلى الشكلانية، إلا أن القضايا التي أصبحت تحتل مكانة بارزة كانت تتعلق أساسا بمسائل التاريخ الأدبي وحظوة النصوص المترجمة في الثقافة المستقبلة. وكمثال على الاتجاهات الموازية في دراسة الترجمة والأدب، فإننا لا يسعنا سوى أن نفكر في الطريقة التي يمكن أن تحور بها خرائط التاريخ الأدبي عندما ينظر إلى مرحلة ما من نقطة مرجعية بديلة.

شكك أنصار النظريات النسوية feminism في هيمنة الكتاب الذكور على المعتمد الأدبي literary canon مما دفع بهم إلى إعادة تقييم الكيفية التي شيد بها ذلك المعتمد بصورة واقعية. وعليه، لو نظرنا بعين الاعتبار إلى القرن الثامن عشر من منظور الحركات ما بعد النسوية، فلن يغدو يهيمن عليه الكتاب الذكور، وإنما باعتباره الحقبة التي استهلت النساء فيه بتقديم مساهمات رئيسة في الحياة الفكرية.  وإذا نظرنا بذات الطريقة إلى القرن الخامس عشر من منظور دراسات الترجمة، في إنجلترا– التي كانت تعتبر بمثابة أرض مقفرة، عدا قلة من المؤلفات المهمة التي كتبت بعد وفاة شوسر عام 1400 ميلادي – فإننا سنجد نشاطا مكثفا في ترجمة النصوص المقدسة والنصوص العلمانية. إن إعادة تقييم أنصار المرأة للقرن الثامن عشر من حيث إعادة النظر في المعتمد الأدبي وإعادة تقييم نتاج القرن الخامس عشر الأدبي ليس سوى مثالين على كيفية تغيير المعلومات الجديدة لمنظورنا التاريخي. وهكذا أصبح نتاج المرأة غير مرئي، شأنه في ذلك شأن تجاهل أهمية الترجمة. إن إعادة تقييم هاتين الفترتين من التاريخ الأدبي تشتمل على إعادة التفكير في آرائنا المسبقة حول الأعمال الأدبية القيمة. في كلتا الحالتين، حدثت عملية موازية للتشكيك في المعايير المعمول بها، ويمكن اعتبار هذه العملية تحولا ثقافيا واضحا.

كان محور نظرية تعدد النظم كما حدد معالمها إيفن زوهار هو الطعن في المعتمدات الأدبية الراسخة. وقد أبدى زوهار حجته بأن أي نموذج لنظام أدبي معين يحمل في طياته أدبا مترجما، لأن الترجمة كانت في أحايين كثيرة القناة التي يمكن من خلالها الشروع في الابتكار والتغيير: ” لا يمكن لأي محلل تاريخ أدبي أن يتجنب الاعتراف بحقيقة أهمية الترجمات ودورها في رصد التغيرات العبر زمنية diachronic أو اللحظية synchronic في أدب معين (إيفن زوهار، 1978:15). بعد أن أعرب عن رأيه بالأهمية الأساسية لدور الترجمات في النظام الأدبي، سعى إيفن زوهار بعد ذلك إلى تحديد الحالات التي قد تكتسب فيها الترجمات أهمية بالغة. وأوضح أن الآداب يتذبذب احتياجها للترجمات أثناء تطورها. وبالتالي فإن نظاما أدبيا راسخا قد يترجم له بصورة أقل من نظام أدبي يخضع لتغيرات واضطرابات. من شأن الآداب المتطورة حديثا، وفقا لنظرية إيفن زوهار، ترجمة المزيد من النصوص، وقد أثبت هذه الفرضية باحثو الترجمة مثل ماكورا Macura) ، 1990) والمهتمين على سبيل المثال، بآداب شمال أو وسط أوروبا. لقد دعمت الترجمة إلى حد كبير بعض الآداب، كالتشيكية أو الفنلندية، اللتين تطورتا في القرن التاسع عشر في سياق حركة الإحياء اللغوي والكفاح السياسي من أجل الحصول على استقلالهما الوطني. في المقابل، لدينا الصين كمثال، إذ لم يترجم لها لعدة قرون سوى النزر اليسير، لأن الكتاب الصينين لم يكونوا بحاجة إلى تأثيرات خارجية. أما اليوم فثمة طفرة في الترجمة هناك، مرتبطة بالتحديث والتغريب ودخول الصين في الاقتصاد العالمي. يقدم لنا الأدب الإنجليزي مثالا آخر: وهو تباطؤ نشاط الترجمة في القرن الثامن عشر، بعد عدة قرون شوهد فيها إدخال أشكال شعرية جديدة (مثل السوناتة sonnet والأوتافا ريما ottava rima)، وأفكار جديدة، (مثل النظرية السياسية والاجتماعية)، وتحولات ثورية في الدين مع ظهور حركة الإصلاح والمناقشات الكبرى حول ترجمة الكتاب المقدس. وبحلول نهاية القرن الثامن عشر، تضاءلت الحاجة إلى الابتكار من الخارج، وأدت غزارة الكُّتاب الذين يؤلفون نصوصهم بالإنجليزية إلى تضاؤل الترجمة. مما أسفر عن تراجع مكانتها، إذ أصبحت الترجمة إلى الانجليزية في أدنى حدّ لها، ومع استمرار تطور اللغة الإنجليزية بوصفها لغة عالمية، ليس ثمة مؤشرات على استعادة الترجمة للأهمية التي كانت تتمتع بها في عصر شكسبير أو عصر درايدن.

’’بحلول نهاية القرن الثامن عشر، تضاءلت الحاجة إلى الابتكار من الخارج، وأدت غزارة الكُّتاب الذين يؤلفون نصوصهم بالإنجليزية إلى تضاؤل الترجمة. مما أسفر عن تراجع مكانتها’’

تبدو مقولة ايفن زوهار (1978) التي مفادها أن الثقافات تترجم وفقا للحاجة واضحة اليوم، ولكنها كانت تمثل بيانا بالغ الأهمية آنذاك، لأن الآثار المترتبة على نظريته في التغيير الثقافي كانت هائلة. لقد ارتأى زوهار أن الحالة التاريخية ستحدد كمية ونوع الترجمات التي يمكن إجراؤها. وأن هذه الترجمات قد تتبوأ مكانة مرموقة أو هامشية وفقا لموقع الثقافة المستقبلة. لذلك من الممكن أن يكون العمل ذا شأن عظيم في الثقافة المصدرية، وعند ترجمته يصبح بلا تأثير يذكر في الثقافة المستقبلة، أو على العكس من ذلك، يمكن لترجمة ما أن تغير شكل النظام الأدبي المستقبل لها. وتعتبر حالة جاك لوندون، الروائي الأمريكي الأقل شأنا بين مجايليه من الروائيين الأمريكيين، والذي يحظى بمكانة معتمدة في الأدب الروسي ودول الإتحاد السوفيتي السابق، خير مثال على الكيفية التي تحدث فيها الترجمة تغييرا جذريا في حظوظ كاتب ما. ثمة حالة مشابهة بالنسبة للروائية البرازيلية كلاريس ليسبكتور Clarice Lispector، التي نقل أعمالها إلى الإنجليزية والفرنسية، مترجمون أكفاء، في ثمانينيات القرن الماضي. جاءت هذه الترجمات في فترة كانت فيها أمريكا الجنوبية محط انبهار الأوساط الأدبية الأوربية، إذ احتفي بعدة كتاب آنذاك، ومنهم على سبيل المثال، بورخيس وغارسيا ماركيز وماريو فارغاس يوسا. ملأت ليسبكتور احتياجا خاصا في اللغة المستقبلة: إذ كانت أنثى، برازيلية، أبرز جماليات أعمالها ضمن عدة كتاب آخرين، المترجم جيوفاني بونتيرو Giovanni Pontiero. ونتيجة لذلك، كانت أعمالها تقرأ على نطاق واسع وأصبحت تشغل مكانة مرموقة في صناعة الأدب البرازيلي Brazilian letters أكثر مما كانت تتمتع به داخل بلدها الأم.

ومن الأمثلة الأخرى على التحول الثقافي في دراسات الترجمة اتساع البحث في المعايير المتحكمة في استراتيجيات وتقنيات الترجمة. وقد سعى جدعون توري (1978؛1995) وأندرو تشيسرمان (1993)، وثيو هيرمانز (1999) على وجه الخصوص إلى استكشاف المعايير الترجمية، ليس فيما يتعلق بالأعراف النصية فقط، ولكن من حيث التوقعات الثقافية أيضا. إن توري واضح بشأن أهمية المعايير في الترجمة:

ينبغي اعتبار أنشطة الترجمة بأنها ذات أهمية ثقافية. وبالتالي، فإن وظيفة المترجم” تقاس أولا وقبل كل شيء بقدرته على لعب دور اجتماعي ما، أي أن ينجز مهمة قد صنفها المجتمع – إلى نشاط، وممارسيه، و / أو منتجاتهم – بطريقة تعتبر مناسبة ضمن أطرها المرجعية. وعليه، فإن اكتساب مجموعة من المعايير لتحديد مدى ملائمة هذا النوع من السلوك والمناورة بين جميع العوامل التي قد تشكل بدورها عائقا، هو شرط أساسي لتكون مترجما في بيئة ثقافية ما (توري، 1978:83).

في الآونة الأخيرة، كان ثمة اهتمام متزايد بدراسة معايير المساءلة التي تعمل داخل سياق معين، كما تحول الاهتمام في دراسات الترجمة إلى التركيز بقدر أكبر على القضايا الأخلاقية في الترجمة.

في الوقت الذي أنهيت فيه مع ليفيفر كتابنا المشترك بناء الثقافات (باسنيت وليفيفر)، انتابنا محض شعور بأن لدى مقر الترجمة عدة صروح الآن. لقد أدركنا حجم العمل الجبار الذي جرى تنفيذه في جميع مظاهر الترجمة، وفي نظرية الترجمة وتدريب المترجمين، كما أدركنا أيضا التأكيدات المتنوعة التي وضعها عدد كبير من باحثي دراسات الترجمة في مظاهر الترجمة المتعددة. وقد اقترحنا في مقدمة كتابنا (باسنيت وليفيفر 1998:6) بأنه لم يحدث أعظم تغيير في مجال الترجمة عندما أضيفت المزيد من المجالات البينية أو الفرعية (كالأدبية، والأنثروبولوجية، والثقافية، إلى آخره) إلى المجالات الألسنية، بل إن هدف العمل قد اتسع نطاقه في المجال نفسه:

في السبعينيات، ليس ثمة مجال للشك أن الترجمة كان ينظر لها بوصفها ” أمرا ضروريا للتفاعل بين الثقافات “. وما فعلناه هو أخذ هذا البيان وقلبه رأسا على عقب. إذا كانت الترجمة بالفعل ضرورية للتفاعل بين الثقافات، فلماذا لا تتخذ الخطوة التالية في تعليم الترجمة، ليس لتدريب المترجمين فقط، ولكن لدراسة التفاعل الثقافي على وجه التحديد (باسنيت وليفيفر 1998:6).

واقترحنا أن الترجمة تقدم “حالة مخبرية” مثالية لدراسة التفاعل الثقافي، لأن مقارنة النص الأصل والنص المترجم لن تظهر الاستراتيجيات التي يستخدمها المترجمون في لحظات معينة فحسب، بل ستكشف أيضا عن مكانة النصين في نظمهما الأدبية المتعددة. وبصورة أعم، ستكشف عن العلاقة بين النظامين الثقافيين المتجذر فيهما هذين النصين.

رأس المال الثقافي والشبكة النصية

لقد اقترحنا أداتين بالغتي الأهمية، استقيناهما من العمل الذي قام به بيير بورديو (1994)، وتعتبر هاتين الأداتين منهجيتين للمشاركة في هذه العملية: وهما فكرة رأس المال الثقافي ومفهوم الشبكة النصية. ويعرف رأس المال الثقافي عموما بأنه الضرورة التي تجعلنا ننظر إلى أحد الأفراد بوصفه منتميا إلى “الدوائر الصحيحة” (3) في المجتمع. حين اقترح كمال أتاتورك فكرة عملية تغريب قومية من شأنها أن تقرب تركيا من أوروبا، فقد تكفلت إحدى خطط ترجمة الأعمال الأدبية الأوروبية الكبرى من وصول القراء الأتراك إلى رأس المال الثقافي الغربي. في كتاب بناء الثقافات (باسنيت و ليفيفر 1998)، يناقش ليفيفر المكانة المتغيرة لإنيادة فيرجل بوصفها رأس مال ثقافي، مشيرا إلى أن الانظمة التعليمية هي الوسيلة الأساسية للتحكم في تشكيل وتداول رأس المال الثقافي. ويمكن أن يترتب في انخفاض معدل دراسة لغة ما كاللاتينية، على سبيل المثال، تداعيات كبيرة في القيمة المنوطة بالأدب اللاتيني وتداعيات أخرى مماثلة تتعلق بدور الترجمة، عندما لا ينفذ إلى ذلك الأدب سوى قلة من القراء. لقد تغيرت قيمة الآداب الكلاسيكية تغيرا جذريا بوصفها رأسمال ثقافي.

تتساوى أهمية الشبكة النصية في دراسة وإنتاج الترجمات، بل ربما هي تفوقها أهمية. لقد أشرنا عند صياغة مفهومنا للشبكة النصية (باسنيت وليفيفر، 1998:5) إلى أن بعض الثقافات (مثل الفرنسية والألمانية والإنجليزية) تشترك في شبكة نصية مستقاة من التقاليد المسيحية والإغريقية الرومانية. وأما بعض الثقافات (مثل الصينية واليابانية) فتشترك بصورة أقل مع بعضها. بيد أن الشبكات النصية توجد في جميع الثقافات بطرائق تسبق مجيء اللغة. فالشبكات عبارة عن بنى، تعكس أنماطا من التوقعات، يستبطنها أفراد ثقافة معينة. لقد اقترحنا “أن يولى طلاب الترجمة اهتماما أكبر مما كانوا عليه في الماضي، سواء أكانوا يرغبون بتعلم تقنية الترجمة، أو بتحليل الترجمات ودورها التي تؤديه في تطور الثقافات” (باسنيت وليفيفر، 1998:5).

وتعتبر فكرة الشبكات النصية مفيدة في تحليل الترجمة. طور اندريه ليفيفر في مقال لاحق تصوره حول فكرة الشبكات النصية، مؤكدا على ” أن المشاكل في الترجمة ناجمة على الأقل بسبب الفروقات في الشبكات المفاهيمية والنصية بالإضافة إلى الفروقات فيما بين اللغات”. وأن المشاكل تتجلى بوضوح عندما تحدث الترجمة بين الثقافات الغربية والغير الغربية. يقول ليفيفر بأن الثقافات الغربية ساهمت في بناء ثقافات غير غربية عبر الترجمات، إذ تعتبر مجرد عملية تشويه وتزوير لتلك الثقافات:

وهذا يقودنا بطبيعة الحال إلى أهم مشكلة في جميع عمليات الترجمة وفي جميع مساعينا الرامية للتوصل إلى فهم عابر للثقافات: هل يمكن للثقافة “أ” أن تفهم حقا الثقافة “ب ” وفقا لشروطها الخاصة بها؟ أو هل تحدد الشبكات دوما الطرق التي تمكن الثقافات من فهم بعضها البعض؟ وهل هو شرط أساسي في فهم الشبكات كلها، لو وضعت في تصور أقوى مما ينبغي ان تكون عليه؟

(ليفيفر 1999:77).

تعتبر نظرية الترجمة في فترة ما بعد الاستعمار مثالا آخر على كيفية تطور البحوث في مجال الترجمة بالتزامن مع البحوث في الدراسات الأدبية والتاريخية بشكل عام. في الهند وكندا والبرازيل، على سبيل المثال لا الحصر، طرحت ثلاثة مراكز مختصة بأنشطة الترجمة في فترة ما بعد الاستعمار أسئلة حول علاقات القوى الغير متكافئة عندما يترجم نص ما، من التاميل أو الكاندا (4) إلى اللغة الإنجليزية، لغة القوة الاستعمارية. وقد اعتبر البعض، ولا سيما تيجاسويني نيرانجانا (1992)، فعل الترجمة نفسه بوصفه عملية استيلاء. تقول نيرانجانا ان الترجمة عبارة عن نشاط تواطئي يشارك في تثبيت الثقافات المستعمرة في قالب تصممه السلطة الأكثر نفوذا. وعلى نحو مماثل، يؤكد إريك شيفيتز (1991) أن الترجمة كانت عنصرا بالغ الأهمية للاستعمار الأوروبي في القارة الأمريكية. يركز كل من شيفيتز ونيرانجانا على مسألة عدم التكافؤ بين الأنظمة الأدبية والثقافية، إذا يتحول نشاط الترجمة، في نظرهما، إلى عمل عدواني. إن موقفهما متطرف، فالنتيجة المنطقية لمثل هذه الحجة هي الصمت، لأنه إن لم تكن الترجمة عن طريق ثقافة مهيمنة شرعية أبدا، فستكون بالتالي شكلا من أشكال السرقة الثقافية، وهو عمل مناف للأمانة ولا ينبغي حدوثه. والطريقة الوحيدة لتصبح الترجمة شرعية هي أن تحدث من اللغة المهيمنة إلى لغة أخرى أقل منها قوة: وعليه تتحول الترجمة من الإنجليزية إلى الكيبيكية Quebecois أو من الألمانية إلى الأسكتلندية إلى بيان سياسي يؤكد على رفعة مكانة اللغة التي جرى تهميشها في السابق.

لقد مارس كل من نيرانجانا وتشيفيتز الكتابة التنظيرية في أوائل تسعينيات القرن الماضي، في الوقت الذي كان التركيز فيه قائما على التصورات حول الترجمة في فترة ما بعد الاستعمار، متأثرين بفكرة ادوارد سعيد (1978)، القائلة بعدم التكافؤ بين علاقات القوى، وبالتالي وُصفَ أوائل مترجمي النصوص الشرقية بأنهم كلاب الاستعمار الأليفة. وقد طعن في هذا الموقف مع ازدياد المعرفة حول تاريخ الترجمة. فعلى سبيل المثال، ثمة ترجمات لا حصر لها بين اللغات الهندية، أو من الإنجليزية إلى اللغات الهندية، وينبغي أن تؤخذ هذه الحقيقة بعين الاعتبار عند إجراء أي تقييم للنموذج الهندي في الترجمة. كما لا يمكننا أن ندين بشكل قاطع جميع المترجمين المستشرقين. لقد كان الكثير من المستشرقين الأوائل، مثل السير ويليام جونز، مدفوعين بشغف حقيقي بالأعمال التي ترجموها، ولكن الإطار الذي كتبوا من خلاله تكفل بعدم دخول أيا من ترجماتهم للاتجاه الإنجليزي السائد آنذاك. ولكي نفهم هذا الإطار، علينا ألا نأخذ بعين الاعتبار العوامل الاجتماعية – السياسية فحسب، بل أيضا العوامل الجمالية والأسلوبية والأخلاقية واللغوية. لقد أدت مقاومة الأدب الإنجليزي للأشكال والأجناس الجديدة وغير المألوفة في القرن التاسع العاشر إلى عدم تمكن المترجمين المستشرقين، بغض النظر عن كفاءتهم، من إنتاج نصوص ذات تأثير ملموس على النظام الأدبي المستقبل. ولكن من الغريب أن نصاً واحداً غير غربي كتب له النجاح، ليصبح الترجمة الأكثر نجاحا في الأدب الإنجليزي: إذ تعتبر ترجمة إدوارد فيتزجيرالد (1859) لرباعيات الشاعر الفارسي عمر الخيام نصا إنجليزيا معتمدا. إن الأسئلة التي يتعين علينا طرحها ليست: لماذا قدّر لهذه القصيدة أن تنجح مع القراء الإنجليز فحسب، بل أيضا لماذا فشلت عدة ترجمات أخرى لنصوص غير غربية؛ وللإجابة على مثل هذه الأسئلة، يجب علينا أن نتفاعل مع السياق الثقافي الأوسع التي كانت تحدث فيه الترجمة، وأن نأخذ بعين الاعتبار المعايير وتوقعات القارئ، وما الذي كان يحدث في الشعر الإنجليزي في اللحظة التي ظهرت فيها الترجمة بالضبط، وما الاستراتيجيات التي استخدمها المترجمون للوصول إلى قرائهم. ومن الجدير بالذكر أيضا: على الرغم من مقاومة القراء الإنجليز للشعر المترجم في القرن التاسع عشر، إلا أنهم كانوا يقبلون بنهم على المسرحيات والروايات المترجمة، وبالأخص عن الفرنسية والروسية. وحتى لو سلمنا بضعف ترجمات السير ويليام جونز وأقرانه من المترجمين، فكيف نفسر هذه الظاهرة الغريبة التي مفادها: أن قراء اللغة الإنجليزية اليوم يتهافتون، بحماس منقطع النظير، لشراء أعمال الكتاب الهنود الذين يكتبون بالإنجليزية، (فيكرام سيث، أو سلمان رشدي، أو أرونداتي روي على سبيل المثال)، في حين أنهم لا يلتفتون للأعمال المترجمة القابعة فوق أرفف المكتبات والتي تعود لكتاب هنود معاصرين ومبدعين؟ ولمحاولة فهم هذه الظاهرة، علينا أن نتعمق أكثر في كيفية تشكل الذائقة داخل ثقافة ما، وفي كيفية تسويق الناشرين لمؤلفيهم وفقا لتغير أنماط التفضيل وفي كيفية ابتكار ثقافة ما لأسطورتها من ثقافة أخرى:

تتميز الميثولوجيا الثقافية بقوة هائلة. فلو أخذنا الصين بوصفها مثالا واضحا في الترجمة، فسوف نلاحظ وجود ازدواجية مثيرة للاهتمام. فمن جانب، لدينا كاثاي Cathay، الصين المتخيلة التي أنشأها المترجمون الأوائل كعزرا باوند Ezra Pound وآرثر والي Arthur Whaley من خلال أسلوب من اللغة الشعرية التي أصبحت بحد ذاتها عرفا سائدا. وذلك العرف متأصل جدا إلى الحد الذي شاع استخدامه حتى في السينما، عند دبلجة الأفلام من الصينية إلى الإنجليزية. تتضمن أسطورة كاثاي الحنين إلى الماضي، والخسارة، والعاطفة، والحس الجمالي العالي، إنها الصين الخيالية من ماض بعيد متخيل، أنشئت في شكل شعري متعارف عليه، عبر لغة مبنية بأسلوب مصطنع. ولكن من ناحية أخرى، وعلى الرغم من الاهتمام الغربي الهائل بالصين الحديثة اليوم، إلا أن الاهتمام بالأدب الصيني المعاصر مازال ضئيلا. واليوم لا يجد روائيو المذهب الواقعي المتمرسين في الصين جمهورا متفاعلا معهم في الغرب. هل هذا بسبب حساسيات ما بعد الحداثة الغربية، أم أن كتاب النزعة الجديدة لا ينسجمون مع الصين الأسطورية / كاثاي التي أنشأها منذ أكثر من قرن شعراء إنجليز وأمريكيين؟ إذا كان الأمر كذلك بالفعل، فعلينا أن نفهم كيف يمكن لبنية أسطورية أنشئت من خلال الترجمة أن تكتسب وتحتفظ بهذا القدر الهائل من القوة.

لا يزال هناك الكثير مما ينبغي القيام به في دراسة عمليات التبادل الثقافي وفهم المزيد حول كيفية بناء الثقافات المختلفة لصورها عن الكتاب والنصوص. من الممكن أن تكون نظرية رأس المال الثقافي وأنظمة الشبكات النصية مفيدة هنا، ومن المهم ارتباط أحد مجالات المبحث الأحدث مع مجموعة من المباحث المختلفة التي لها صلة وثيقة بدراسات الترجمة، من اللسانيات إلى الأنثروبولوجيا، لاستكشاف مسائل مماثلة. وأشير بالطبع لدراسة مذكرات السفر. فإن أدب السفر كما يشير عدد متزايد من الباحثين، يشبه الترجمة، إذ يتيح للقراء الوصول إلى نسخة معدلة من ثقافة أخرى، وهي عبارة عن بناء من تلك الثقافة الأخرى. وكاتب السفر يبتكر نسخة معدلة من ثقافة أخرى، منتجا ما يمكن وصفه بأنه شكل من أشكال الترجمة، ومحولا ما هو مجهول وغير مألوف إلى صيغ يمكن للقراء استيعابها وفهمها في أوطانهم. إنها إحدى نماذج التدجين المهيمنة، في جعل الوصول إلى ما هو غير مألوف ممكنا عبر مجموعة من الاستراتيجيات التي تمكن القارئ من السفر بشكل غير مباشر عن طريق الاسترشاد بما هو مألوف. يعمل كاتب السفر في فضاء هجين، فضاء فيما بين الثقافات، تماما مثلما يعمل المترجم في فضاء ما بين اللغات، وهو فضاء انتهاكي خطر يشار إليه غالبا بـ ” المنطقة المحرمة” (5).

في كتابة الرائع الذي يستكشف مذكرات السفر والترجمة، يذكرنا مايكل كرونين (2000:150) بأن المترجمين والمسافرين يشاركون في حوار مع اللغات ومع الثقافات الأخرى. ويناقش أوجه التشابه بين المسافر والمترجم مستخدما مصطلح حياة البدو الرحل، فكلاهما يحول الغيرية otherness إلى شكل مقبول ليستفيد منها القراء المستهدفين:

إن المترجم الفوري والمترجم التحريري، المتنقلان بين المباحث، بين لغة الثقافة العامة التلميحية allusive ولغة التخصصات الفرعية المحكمة، هما ممارسان بمفهوم ثقافة السفر الموسوعية، لثقافة ثالثة لا تشتمل فقط على قطبي العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية الكلاسيكيين، وإنما على العديد من مجالات المباحث الإنسانية الأخرى. في عصر يضيق بأفق التفكير، يصبح الرجل الثالث والمرأة الثالثة (6) أشبه بمترجم أو كاتب سفر ذا قيمة معتبرة كبدوي يجلب لنا الأخبار من مكان آخر.  (كرونين، 2000:150)

يعتبر كاتب مذكرات السفر والمترجم عنصران رئيسان في تشكيل منظور ثقافة ما من ثقافة أخرى، ومن المثير للاهتمام أنه لم تجرى حتى الآن سوى القليل من الأبحاث حول العلاقة بين السفر والترجمة. وتعد تلك الدراسات التي استهلت ولا بد أن تزدهر، مؤشرا على كيفية انفتاح التحول الثقافي في الترجمة على آفاق كبرى. ومن المرجح أن تولي الأنثروبولوجيا المزيد من الاهتمام لمشاكل الترجمة، حتى في الوقت الذي نشهد فيه توظيف المزيد من المناهج الاثنوغرافية والأنثروبولوجية في دراسات الترجمة. لقد انتقلت أبحاث كرونين (2003) إلى التركيز على الجوانب المتعلقة بالترجمة والعولمة، وسار على نهجه آخرون.

 لا تزال هناك أصوات جانبية معارضة تزعم بأن الترجمة، مما لا شك فيه، تتعلق أساسا باللغة لا بالثقافة، وأن العمل الصحيح لدراسات الترجمة هو التركيز على المظاهر اللسانية في عملية الترجمة. وللرد على هذه الأصوات، سأجيب: بأنه لا شك أن على باحثي الترجمة التركيز على اللغة، لأن الترجمة، في نهاية المطاف، تتعلق بنقل نص من لغة إلى أخرى. ولكن فصل اللغة عن الثقافة يشبه الجدل القديم ” من الذي جاء أولا البيضة أم الدجاجة”. فاللغة بطبيعتها متجذرة في الثقافة والأفعال اللسانية تحدث في سياق ما وأما النصوص فتنشئ في تسلسل متصل وليس في فراغ. وبما أن الكاتب هو نتاج زمن محدد وسياق محدد، فالمترجم هو أيضا نتاج زمن آخر وسياق آخر. صحيح أن الترجمة تتعلق باللغة، ولكنها تتعلق كذلك بالثقافة، وهما شيئان لا يمكن الفصل بينهما. كما أشار جنزلر وتيموكزو (2002) في تقديمهما لمجموعة من المقالات حول الترجمة وعلاقات القوى، أن الترجمة كامنة في عمليات التحول والتغيير الثقافي.

إن التحول إلى الثقافة في دراسات الترجمة هو انعكاس للتحول إلى الثقافة في المباحث الأخرى، وهو نتيجة حتمية للحاجة إلى تحقيق مزيد من الوعي بين الثقافات في عالمنا الراهن. وهو أمر يستحق ما يليق به من الترحيب، لأنه يهبنا أفضل فرصة لفهم المزيد عن تعقيدات نقل النصوص، وما يحدث لها أثناء انتقالها إلى سياقات جديدة وعن أنماط التفاعل الثقافي المتغيرة بسرعة في العالم الذي نعيش فيه.

الهوامش

  • Horizontal Translation: يعرف فولينا الترجمة الأفقية بأنها ترجمة “بين لغتين لهما بنية متشابهة وبينهما صلة ثقافية متينة”.
  • (1792-1822) Percy Bysshe Shelley: شاعر إنجليزي رومانتيكي
  • Circle: المجموعة أو الدائرة الاجتماعية: مجموعة تتكون من شخصين أو أكثر يتفاعلون مع بعضهم البعض ويشتركون في خصائص متشابهة، ويكتسبون شعورا جماعيا بالوحدة (الانتماء).
  • Kannada and Tamil: لغتان شائعتان في القارة الهندية.
  • No-man’s land: منطقة في محل نزاع من قبل طرفان تركاها دون احتلالها لأسباب تعود للخوف أو الشك. ومن أوضح الأمثلة عليها، خلال الحرب العالمية الأولى حيث استُعمل هذا اللفظ لوصف المنطقة التي تقع بين خنادق طرفين متحاربين وكانت الأطراف المتنازعة تخاف السيطرة على المنطقة المحرمة أو التحرك فيها خشية تعرضها لهجوم من قبل العدو.
  • Third Culture: مصطلح يشير إلى الأشخاص الذين ولدوا أو نشأوا في سنواتهم التأسيسية الأولى في ثقافات غير ثقافاتهم الأصلية التي ينسبون إليها وراثيًا عن طريق آبائهم. ويطلق عليه هذا المصطلح “أطفال الثقافة الثالثة”. تشير بعض المصادر على أن الثقافة الثالثة هي مزيج بين ثقافتين.

*صالح الخنيزي

شاعر ومترجم سعودي حاصل على شهادة البكالوريوس في الأدب الإنجليزي من جامعة الملك سعود بالرياض عام ٢٠٠٧م

صدر له “رسائل بددتها الريح”، مجموعة شعرية، ٢٠١٠

 “محاكاة أشجار غارقة في النوم: مختارات من الشعر الأمريكي المعاصر”، ٢٠١٧

ومؤخرا “عارية أمام المرآة الطويلة: قصائد تانكا للشاعرة يوسانو أكيكو”،٢٠٢٠

نشر عدة مقالات تعنى بالأدب والترجمة.

سوزان باسنيت
(مواليد 1945) بروفيسورة محاضرة ومنظرة وباحثة متخصصة في دراسات الترجمة والأدب المقارن حصلت عام  2007 على زمالة في الجمعية الملكية للآداب والتي أسسها ملك المملكة المتحدة وهنوفر الألمانية وقتها الملك جورج الرابع  عام 1830 احتفاء بالأدباء المميزين والموهوبين. تحاضر حاليا في جامعة غلاسكو أكبر جامعات سكوتلاند. صدر لها أكثر من 20 كتاب مقدر في مجالات النقد والأدب المقارن.
قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.