الأسطورة في الشعر العربي الحديث

محاولةٌ للتعرف على الأسطورة عن قرب عبر كتاب (فاعلية الخيال الأدبي) لسعيد الغانمي

0 6٬918

مهدي السنونة – السعودية

يبدو أن تكوين القصيدة الشعرية يستطيع رسم أبعادٍ تُخلَقُ أولا في ذهن الشاعر وأطوار تفكيره ويعد تطور الشاعر الفني نتيجةً لتجدد قراءاته ما يستدعي البحث عن حلول وأجوبة لأسئلة جديدة. حين يقف الشاعر على قارعة طريقٍ صاخب فيتمثل سقراط أمامه يلقي حكمته على الناس فيهرب لكتابة قصيدة جديدة، ذلك لأن الأسئلة توجع عقله، فلا يستطيع إلا الكتابة والبحث ثم البحث. لتقريب الفكرة أكثر والعبور نحو الأعماق نبدأ أولاً بتعريف الأسطورة للتفريق بينها والخرافة، فالأسطورة مادةٌ تراثية مُستقاة من العصور الأولى يُعبر بها الإنسان عن واقعه المعاش فيمتزج فيها الواقع بالخيال، وهي عادة ما تكون القداسة إحدى خصائصها وتكوين الخلق أحد ظروفها أو في سياق مروياتها. يستغل الشاعر هذه المساحات ليؤثر على قارئه أو ليعبر بالقارئ عبر الأسطورة الى عالم الماورائيات والإيغال فيها، ويجدر بنا هنا أن نذكر قصيدة أنشودة المطر بوصفها قصيدةً حديثةً تم استخدام الصور الأسطورية فيها بشكلٍ يثير الفضول لدى المتلقي للتفكر في حيثيات الأسطورة ومدى ارتباطها بالواقع، فأجاد الشاعر الكبير بدر شاكر السياب استخدام ذلك إذ يتنقل بالقارئ بين عالمين؛ عالم واقعي ينقل آلام الشاعر وأحزانه في الواقع، وعالم أسطوري؛ يستحضر فيه أساطير غابرة ليبعث فيها الروح من جديد. فيقول فيها:

عيناك غابتا نخيل ساعة السحر

أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر

عيناك حين تبسمان تورق الكروم

وترقص الأضواء …كالأقمار في نهر

يرجّه المجداف وهنا ساعة السحر

كأنما تنبض في غوريهما النجوم…

وتغرقان في ضباب من أسى شفيف

كالبحر سرح اليدين فوقه المساء

دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف ،

والموت، والميلاد، والظلام، والضياء

وهنا يكمن الجانب الأسطوري

 أما الجانب الواقعي فيتجلى في قوله:

 

فتستفيق ملء روحي رعشة البكاء

ونشوة وحشية تعانق السماء

كنشوة الطفل إذا خاف من القمر

كأن أقواس السحاب تشرب الغيوم

وقطرة فقطرة تذوب في المطر…

وكركر الأطفال في عرائش الكروم

ودغدغت صوت العصافير على الشجر

أنشودة المطر …

مطر …

مطر…

مطر

لقد استطاع السياب أن يضفي على أنشودة المطر بعداً أسطوريا على أحزانه. وقد يكون استخدام الأسطورة بحثاً عن أسباب تكوين الخلق وأسراره. ومن الأمثلة على ذلك يقول (حمورابي) “أساطير خلق الإنسان البابلية تجعله يتكون من عنصرين أحدهما أرضي وهو الطين والآخر سماوي وهو دم إله قتيل من الآلهة الثانوية الثابتة تتم التضحية به”.

إن المقاربة بين الأسطورة والإنسان الحديث إنما هي محاولةٌ لجعل الإنسان يشاطر الأسطورة في الفهم والمعرفة، ونحن هنا نحاول البحث عن أسئلة جديدة لتأويل ما تستطيع تأويله أو على الأقل أن تساعد في نضج القصيدة وايصالها لبر الأمان.

في كتابٍ لسعيد الغانمي عنوانه (فاعلية الخيال الأدبي محاولة في بلاغية المعرفة من الأسطورة حتى العلم الوصفي)، يبدأ الكاتب باستدراج القارئ عبر مطب اللغة وتعريفها لذا أشار أن (دي سوسير) وصف اللغة بأنها الوعاء لجميع مظاهر الكلام، ثم حدد سوسيرالظاهرة اللغوية بذاتها بأنها إنتاج الكلمات من خلال إصدار الأصوات، ثمَّ يشرحُ قدرة الكلمة وقوتها على الإنسان السابق واللاحق. ويستشهد أن أرنست كاسيرر ذكر في كتابه (اللغة والأسطورة) “أن فاعلية الكلمة كانت تغلف حياة الإنسان القديم وتتخلل جميع تفاصيل حياته”، فقد كان للـ (النُذُّر والنبوءة) تأثيرٌ واضحٌ لا مفر منه، ونحن نعبر في التاريخ على قصص العرافين ونبوءاتهم كذلك الأحلام وتفسيرها وكيف كان السابقون من بني الإنسان يحرصون على تفسير الأحلام وزيارة العرافين لقراءة الكف أو (الفال)، لمعرفة ما يخبئ المستقبل لا سيما إذا كان ملكاً أو صاحب شأن رفيع.

يمكن تفسير هذه الظاهرة بارتباط الغيب ارتباطاً وثيقاً في حياة الإنسان ما يغريه -أي الإنسان- للبحث الحثيث عما يكتنزه هذا الغيب من أسرار تخفف وطأة جهله بها. ولا يزال للكلمة تأثيرها القوي في يومنا هذا، الكلمة بكل أصنافها فعلاً أو اسماً أو صفة. هكذا يقول الكاتب عن لسان كاسير أثناء دراسته لسحر الكلمة ومبدأ الاسم “إذ لا توجد في عالم هذا الفكر، يعني الأسطوري تسميات مجردة بل تتحول كل كلمة مباشرة الى شكل اسطوري معين هو إله او شيطان”. ثم يحيلنا الكاتب لقصص أسطورية تحولت لاستعارات شعرية واستخدمت لأغراض شعرية كما هو الحال مع أسطورة هبوط إنانا للعالم السفلي أو أسطورة الإله القتيل أو أسطورة هبوط عشتار للعالم السفلي وتعلقاتها بتموز إله الخصب وكيف أن بطل الأسطورة الخارق نصف إلهٍ نصف إنسان.

يجدر بنا الإشارة بأن الأسطورة ليست حكراً على الشعر العربي الحديث، وإنما تواجدت في الشعر الجاهلي، ومن الأمثلة على ذلك الصورة الأسطورية للكواكب إذا أخذنا اعتبارها آلهةً تعبد في الزمن الجاهلي كالشمس والقمر والنجم، نستطيع الوصول لفهمٍ شبه متكامل حول استخدام الصورة الأسطورية للكواكب في الزمن الجاهلي ويجدر بنا أن نذكر صورةً أسطورية أخرى ألا وهي الحصان. تذكر ليندا مصطفى شلة في (صورة الفرس في الأدب الشعبي الفلسطيني) حول ارتباط الفرس بالسماء “ولأن السماء عالية لا تطالها اليد ولا تعلم كنهها العين، كان الإنسان قديماً يحاول تقريب السماء عن طريق ربطها بأشياء محسوسة ملموسة ليفسر كثيراً من تلك الظواهر المنتشرة في الفضاء”، كما يرى الدكتور علي البطل بأن الجياد كانت الحيوان المقدس الذي ينوب عن إله الشمس. ما يوصلنا لنتيجة أن الأساطير واستخدامها في تطور مقترن بارتفاع مستوى المعرفة الإنسانية للتاريخ والأمم السابقة. و من الامثلة المثيرة للاهتمام قول امرؤ القيس “مكرٍ مفرٍ مقبلٍ مدبرٍ معا:::كجلمود صخرٍ حطهُ السيلُ من عل“، فاللمسة الأسطورية التي أضفاها امرؤ القيس على الخيل وربطها مع السماء في منظر خياليٍ متداخل من الواقع يؤكد أن الأسطورة ليست بالأمر الدخيل على الشعر أو محصورةً بالحديث منه.

 وإذا انتقلنا للزمن الحاضر فإننا نجد الكثير منهم يستخدم الأسطورة استخداماً سلساً إذ لا يقحم الأسطورة أو قصتها لمجرد القول أن الشاعر قارئٌ نهم يستطيع ذكر أسماء الأساطير و(حواديتها) عن ظهر قلب.

يقول الشاعر إبراهيم بو شفيع في قصيدة (وعودٌ فارهة) من ديوانه (يأكل الشعر من رأسي) مخاطباً حبيبته:

” أما قلتِ لي إن صدرك من بعض بابل سحرٌ

يثير عفاريت (أور) الأول؟

لماذا إذن جاء شيطان شعري ليسجد بين يديك

امتثالاً وذل”

ينقلنا الشاعر هنا لبابل المدينة المزدحمة بالنقوش والحكايا و (أور) المدينة المقدسة للآلهة إنانا عبر حبيبته دون فرض المكوِّن الأسطوري على البيت الشعري إنما جاء منساباً عفويا. وهنا إذ نستشهد بشاعرين في عصرين مختلفين كلياً نجد اختلافاً جلياً في الطريقة الفنية لاستخدام صورتين أسطورتيين ما يجعلنا هنا نطرح سؤالاً مهماً هو التالي:

كما نلاحظ أن الأساطير إنما هي بناءٌ فلسفي لمقاربة الواقع والخيال معاً يصدر عن حقبة زمنية أو حضارة معينة ويتعين على الشاعر أو الكاتب التواصل مع تلك الحقبة الزمنية عبر القراءة والاطلاع أو استكشاف الأماكن التي وفدت عليها تلك الحضارة. والسؤال هنا هل تستطيع حقبتنا الزمنية ووقتنا الحاضر والحضارة التي نسعى لتشييدها تصدير أساطيرٍ يستخدمها الشعراء بعد 100 عام من الآن؟ أم أن الأمر توقف عند الحضارات البابلية واليونانية إلخ؟

إن السؤال الأهم هو ما الذي يريد الشاعر قوله حين يلقي بشخصية يونانية أو إغريقيةٍ أو عربيةٍ أسطورية في قصيدته، حينما يستدعي عشتار أو سيزيف أو تموز إلخ. هل يريد تكثيف المعنى وإدخال الصورة الفنية في القصيدة منعرجاً آخر أم هو مجرد إقحام للتباهي بقصيدةٍ حديثة؟ إنما هو حبلٌ ممتد من الأسطورة القديمة لواقع اليوم والشاعر يحاول ربط الحبل بأبهى صورة فإما أن يلتف الحبل حول قصيدته فيخنقها أو أن يصعد باستخدامه لقمم الشعر.

المصادر:
  1. صورة الفرس في الأدب الشعبي الفسطيني، شلة ليندا,2016
  2. توظيف الأسطورة في الشعر العربي الحداثي، حسين فتحية
  3. فاعلية الخيال الأدبي محاولة في بلاغية المعرفة من الأسطورة حتى العلم الوصفي، الغانمي سعيد,2015
  4. الرمز في الشعر العربي، خلف جلال,مجلة ديالى العدد الثاني و الخمسون
  5. البطل، علي: الصورة الفنية في شعر العربي، ص151
  6. يأكل الشعر من رأسي، بوشفيع، إبراهيم، ديوان شعري
قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.