ظمأ حوراء الهميلي الأرزق

0 1٬192

علي مكي الشيخ – السعودية

شاعرةٌ تربكُ اليقين بطهارة الشَّكِ، وترمم عافية الكلامِ برائحة الكلام، تتسلقُ الغيبَ بفكرةٍ مغسولةٍ بالكبرياء، تكتب النَّص الشعري في لحظةِ ابتكار المعنى، متحررة مِنَ الأنا الجمعية إلى الذاتية وفضاءِ التأمل؛ تكشف القناع عن تعدد الأصوات داخل النص الواحد، فتتعدد احتمالات التأويل عندها، تتجاوز تقديم الحقيقة وتمثيلها إلى تفسير المعنى وتفجر الطاقة الإيحائية.

شاعرة تستنفزُّ قارئها بمهارةٍ جمالية حيث “نمارس لعبة إرجاء المدلولات إرجاءً أيديًا عن طريق الدال الحر والذي يستحيل إغلاقه فالنص لديها “يتألفُ مِنْ مقتطفات وَمرجعيات وإحالات، وصدى أصوات مختلفة.. فيكتسب النص تعددية المعنى “[1]

شاعرةٌ تنفض عن وجهها رماد أنوثتها، وَتحاول هندسة جراحها وهي تركض في مضمار دائرة اللازمان، وحيث شهيتها للغيب عالية؛ استطاعت أن تهندم الدموع على رفوف الكحل، وهي تحمل بكفّها تأشيرة المنفى، لتصبح كونيةً تسقط مِنْ ثقب المجاز إلى فضاءِ اللانهاية.

شاعرة تُعَرِّي الريحُ فستانها في فضاءِ تأملاتها، تطأُ العرشَ فترتدُّ سماؤها لتكشف خرائط الملكوت حيث تراوغ الممات بنبوءةِ عرشها العاجيّ، متجليةً / خفيَّةً بسَّكِّ المرايا التي تنعكسُ بتساؤلاتها غيبًا، ووميضًا مراوغًا للعدم. تتماهى مع الأثير، فتتكثّف الفكرةُ عندها فوق شحوب الضوءِ المختزَلِ بالمعنى ورعشة الانزياح.

تعبر محيط اللغة باحثةً عن وجودها – الآدمي، فنصنفها رمادٌ وآخرها سؤال غويٌّ، مفتونةُ بالغيب، حيث يرقصُ في دمها مُتصَوِّفًا في رحلةِ عرفانها، تصلب أوهام شكوكها على باب مصيرها الممسوس برهبةِ ظلِّهِ.

بين كل هذا فهي شاعرةٌ تحرسُ النخلةُ قبلها مِنْ تناهيد التعب، فتسندُ المعنى عليها كلما أوقعها الشعر طويلاً تحت شوط الوجد قلبها المحموم بنيران العتب.

 شاعرةٌ تتجدرُ بأرضها حضارةً وامتداد وَعْي يصنعُ مِنْ أسلافِه عجينة الخُصويةِ في حالةِ توليديةٍ وابتكاريةٍ مستمَّرةٍ.

الوعي الشعري:

أود في البدء التوقف عند مفهومٍ دقيقٍ ومهم قبل الدخول في الحديث عن نصوص ديوان الشاعرة حوراء في ” ظمأ أزرق” (الصادر عن النادي الأدبي بالحدود الشمالية – دار الانتشار العربي) ألا وهو مفهوم الوعي الشعري. فماذا نقصد بالوعي الشعري؟! سؤال رغم سهولته وبساطتِهِ إلّا أننا نحتاج الكثير الكثير للإجابة الوافية عليه، وتلمس تجلياته وتباين النقاد حَولَه، ولكنّي سأترك للجميع مدوناتهم وسأكتفي بما أجده في زوادةِ الذاكرة البسيطة وما أراه يخدم ويقنع ذائقتي.

لا شك أنَّ الشعر لغةٌ جماليةٌ لا تقتصر على الوظيفة التوصلية فقط، وإنما تتكئ على عدة مرتكزات وغايات؛ فالمتعة والدهشة والتأثير والخلق اللغوي والابتكار في الصورة والرؤية مِنْ الأدوات التي لابد منها. وإذا تعدينا فرضية رولان بارت في النص المكتوب/المفتوح، والمقروء/المغلق، وما أسسته جوليا كرستيفا في مفهوم التناص والتعالق النصي، وغيرها مِنْ نظريات المختبر النقدي، وهي مهمة وجادة وتمنح فضاء الكتابة إبداعًا واعيًا، ولها مجالاتها الجادة؛ أرى أن الوعي الشعري يكمن في أن النص الشعري لا بد أن يكون قابلاً للتأويل في أغلب مساحاته.

يقول الأستاذ جاسم المشرف في كتابه مزالق الشعراء ص 60 :” النص المنتج هو ذلك النص الذي كُتب عن تجربة ذاتية منبثقة عن انفعال المبدع ذاته، هو ذلك النص الذي يُقلق متلقيه ويشغله، ويطلق خياله لتداعيات وأفكار ومشاعر، هو ذلك النص الذي يشتبك مع عدد لا نهائي من النصوص فينمو بها ومعها هذا النمو في العلاقة بين ما هو واقعي وما هو متخيل هو ما يحدد هُوية النص وخصوصيته “. مِنْ هنا، أفتح دِرْفَةَ الكلام حول ديوان شاعرتنا الهجرية حوراء الهميلي، وقد استطاعت بتقانة رائعة أن تضع بصمتها على صفحات المشهد الشعري والأدبي. والديوان مليءٌ بالمحطات واللفتات الرائعة ونقف عند بعضها.

أولاً: أسئلة القلق الوجودي

مَنْ يقرأ تجربة هذا الديوان سيتضح له هذه الثيمة والتركيز حولها خصوصًا في القسم الأول من الديوان “تأويل على وجه المرايا”؛ وكأنَّ الشاعرة تحفر في النسق الوجودي باحثة عَمّا يروي نهمها المعرفي عبر وسيلة الشعر الجمالية، فتضع أسئلتها المتكاثرة حول عدة قضايا حول فلسفة الكون والحياة والحبّ والطبيعة، تقول مِنْ نص “ملامح تلبس وحي”:

مَنْ فَسَّرَ الحزن في وجهي وأوله –

ملامحي ربما أزرى بها الولَهُ؟!

– هل الدروب متاهات تَمُرُّرني

نحوي لأعبر إِحساسي وأدخلهُ؟

وتتابع تساؤلاتها ففي نصها “نصفي رماد”:

مَنْ أنا ياتُرى ؟!-

إلى أين أمضي؟!

أرهق الأرض بالسنين الدُّوار؟

 – هل فضول الإنسان .. طبعٌ معارُ؟

وفي نصها ” لغزٌ مُفَرَّغٌ بانزياحٍ كوني “

– هل غربة الإنسان..

سِرٌّ مودعٌ في الروح

مختمرٌ على الوجدانِ؟!

حاولتُ –

فلسفتي بشكلٍ آخر

فالشك برهن مبدأ الإيمانِ

– شكي مفاتيح اليقين

خطيئتي

بابٌ يُشرِّعُ جنَّةَ الغفرانِ

أمشي حقائبي الفضول –

تساؤلي

عقلي به.. في الغيب.. قد أوصاني

حُبلى..

بأسئلة الوجود

هَزَزْتها

سقط المجازُ بكونِهِ الفَتَّانِ

هنا، نحن أمام توظيف لثقافة السؤال بكلِّ أبعاده عبر بوابة تحفيز القارئ وَجَعلُهُ شريكًا في التفكير تطرق الشاعرة ذهن المتلقي بسيل مِنَ الأسئلة الوجودية والتي قد لا يقف الشاعرُ لها على حَلٍّ واقعي أو معرفي بل يجد حلها شعوريًا وعاطفيًا هنا تحيلنا إلى مقولة أبي حامد الغزالي: “إنَّ هناك مِنَ المعرفةِ ما لا يمكن الوصولُ إليه بالتعلم بل بالذوق”[2] وبهذه الطريقة تنجحُ في جعل النص مفتوحًا وقابلاً للتأمل في كلِّ مرةٍ يعاد قراءته، وبهذا تخلقُ قارئًا إيجابيًا منتجًا ومشاركًا للممارسة النصية. حوراء تلفتنا لهذه الظاهرة بمساحات شاسعة مِنْ تجربتها الرائعة.

ثانيًا: تجليات “الأنا الشاعرة”

يقول الشاعر جاسم الصحيح في “جهنمياته الصغيرة”: “وحينما ضاقت الأرضُ مِنْ حولي بعالمها، بنيتُ بيتًا في نفسي وأسكنت العالمَ فيه: وسمَّيْتُهُ القصيدة “

ويقول مِنْ طابقه الخميين:

ولستُ المدعي أني نبيٌّ    ولكن القصائد معجزاتُ

وما تزال (أنا) المتنبي تثبت وجودها بفاعلية، فتمظهرات الأنا المؤثرة في العمل الفني يستدعي حضور الآخر، ولا يمكن للأنا أن تأخذ دورها المنتج إلا بمعادلٍ ضمنيٍّ في المقام، وموازٍ لها. وحين نتحدث عن “أنا” الشاعرة، فهي لابد أنْ تقف بكلِّ عنفوانها لتدافع عن أنوثتها والوجودية. تقول الشاعرة فاطمة عكاشة التونسية: ” الشعر مغامرة أحبُّ أن أعيشها وأن أتجدد وأنا أخوضها وأنْ أُعبِّر بصدقٍ عن جراح المرأةِ كإنسان. أريدُ للمرأة داخلي أنْ تشرحَ ذاتها من قيود الأمثال والتماثل إلى رحاب التعدد “[3]

أما في التجربة الهميلية فإننا سنقرأ (الأنا) بكلِّ تشظياتها وتجلياتها، حيث تتكاثر الذات الشاعرة في مناحي الحياة، وتطفو على سطح القصيدة مغسولةً ببقايا تعالقات نصية، فتأخذ شكلها الجديد الموشى برؤيتها المعاصرة.

تقول حوراء :

أنا والشمسُ مفردة احتراقٍ               أُشيع ذاتها التعبى بذاتي –

أنا في المدى سديمٌ عديمٌ                  مُذْ تشطّيتُ قد فناني المدارُ –

– مَنْ أنا يا ترى إلى أين أمضي؟         أرق الأرض بالسنين الدوارُ ؟

– نفيت إلى الدنيا وأسأل مَنْ أنا            تُرى أي دربٍ يستشفُّ مكاني ؟

-أحاول فهمي فهم بعض مشاعري        أغور عميقًا في ” الأنا ” وأُعاني

لاحظنا فيما سبق أنَّ (الأنا) أنا كونية باحثة، ومستفهمة متشظية، تفنى في المدار لتعجن طبيعتها باحتراق الحقيقة، مصهورةً بوعي المعرفة التي لا يمكن الوصول لحقيقتها إلا بحالةٍ من العرفان والكشف. ونقرأ لها :

أنا عشيقته السمراء يذكرني –

رغم الغياب

أتاني راجلاً ومشى

– أنا ظمأ السراب وأنتماءٌ        تَشَرَّبني وأنبتني كغصنِ

أنا شهقة في الغيب ضاع زفيرها      مخنوقة تحتاج شم هوائك –

هنا، تكشف عن أناها الظامئة التي تتستر بالغياب تارة، وبالسراب أخرى، وفي مرحلةٍ مغايرة تتمظهر (الأنا) بأيقونات متعددة:

-أنا في قوة الأنثى رياحٌ      تعربدُ في الوجود بلا انحسارِ

-أنا يا نبيّ الشعر ظرفُ رسالةٍ      تحتاج في عجلٍ إلى إمضائك

-أنا نصفك المنقوش بالمعنى الذي

لم يحتكم إلاّ لفصلِ قضائك

-أنا مَنْ نسيتُ توقعاتي ربما بالغْتُ فيها كي أُصدْقَ ظني

هنا أيضًا، نتلمس (الأنا) العاشقة، والأنثى المغامرة في دروب الحياة، والتي تحتاج إلى نصفها الآخر بكلِّ عنفوانه.

فمن (الأنا) الكونية والباحثة عن عوالم الماوراء، تظهر علاقة الشاعرة بالكون والفضاء المفتوح والتوحد بالمطلق، ومنها أنويتها المعربدة كالرياح رغم قوتها تحتاج إلى إمضاء نبيِّ الشعر، ونصفها المنقوش بالمعنى والذي يُنسيها توقعاتها لتصدق ظنها، ومع كل هذا المزيج استطاعت أن تخلق لها عالمها الخاص وطعمها المتفرد بأنويةٍ عالية:

أهوى التفرد

إذ لا شيءَ يشبهني إلّاي

أنثى وما مَرَّتْ على رَجُلٍ !!

بيَ استحمت نجوم الضوءِ

تغمرها أنهارُ جفنٍ بفيضِ الحبِّ منسدلِ

ثالثا: النخلة حوراء، وتبادل الأدوار

حضور المكان ورموزه في تجربة حوراء لَه عبقه وفاعليته بطريقة منفردة، فالأحساء وحضارتها العريقة تفرضُ حضورها على كلِّ مبدعٍ نهل مِنْ جمالها، وتنفس طعم السحر في كيانه، ولكنَّ حوراء لم تتغنَ بأمجادٍ مضت وآثار بقيت شاهدة فقط، وإنما تعاملت مع المكان ورموزه بذكاءٍ مرهف، وهو أنها تلبست روح الأرض، وتماهت مع رمز النخلة وما تفرزه مِنْ طاقةٍ وعلاقة بالزمن وشخوصه، فالأحساء والنخلةُ وحوراء مفردات لا تنفصل عن بعضها إذا تقول :

ستذكرني ..-

إذا ما لاحت ( الأحساءُ ) في عينيك ..

إذا ما نخلةٌ رقصت ..

بفستان الهوى العشبي ..

بهمس النخل للنبعِ .. بما أخفيه مِنْ ضلعي .. ستذكرني

تذكّرْ أن لي قلبًا يربِّي النخلَ في جنبيه

يفرش خفيه عقيق تمرٍ خالصٍ بالحبّ ..

ربما .. توأمي النخلةُ .. مذ كنا مقاديرًا بأحضان السماء

زركشَتْ خَصْرَ الصباحات بأعذاقِ الرُّطب

وفي الختام، أترك للقارئ هذه العناوين علها تحفزه للاستزادة حين يلتهم قراءة هذه التجربة الرائعة، وربما استلهم الكثير، فالشاعرة حوراء تجربةٌ شعريةٌ مميزة، واستطاعت أن تحقق مديات شاسعة مِنْ فتوحات اللغة الشعرية المعاصرة، والتي تشي بالمزيد بالإبداع المتفرد فجاءت “بظمأٍ أزرق”

تشير إليه أن كلموه .. وإن كان في المهد .. فيقول إني عبد الله .. آتاني الكتاب وجلعني نبيًا..

[1]– انظر دليل الناقد الأدبي – النص المفتوح – ص 272

[2] – المشاكل والاختلاف – ع  الغذامي – ص 101

[3] التمرد الأنثوي في شعر فاطمة عكاشة – ديوان العرب –

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.