الكتابة لأرواح تعذّبها اللغة
غسان... الصُنْدوقٌ المُكْتَظُّ بٱلأوْهام. الوَحيدٌ كَمَعْبَرٍ بَيْنَ أشْجارٍ ذاوِيَة.
عبود الجابري – العراق
عشيّة الإعلان عن فوز الشاعر غسان الخنيزي، بجائزة سركون بولص، عاودتني تلك الفكرة التي طالما اختليت بها، كي أقرر إن كان على الشاعر الذي يتقن ترجمة الشعر من لغات أخرى، أن يعيد كتابة نصوصه القديمة، كلّما عنّ له أن يقرأها ثانية، ومن خلال تجربتي الشخصية، وجدتُ أن أي قراءة جديدة يقوم بها الشاعر لمنتجه في الكتابة، يضعه في حجرة تساؤلات كبرى، عن ماهية ما كتبه، سواء على صعيد المعنى، أم على صعيدي اللغة والمبنى، ذلك أن قراءة الشعر وترجمته، خاضعة لمزاج الشاعر كما لو أنها ( اختبار لحواسه)، وضعضعة للثوابت التي أقام عليها قناعته عندما يضع النقطة الأخيرة عقب الفراغ من كل نص يكتبه.
مثلما وجدتُ في حدسي، أن الفائزين في الجائزة، جميعهم مترجمين شعراء، أو شعراء مترجمين، وذلك يعني لي دائماً، أنّ هناك لغة مبتكرة، تخضع لتشذيب تقوم به الحواس، تبعاً لخزين القراءات، تلك التي تقف لهؤلاء الشعراء بالمرصاد، فالترجمة تبدو كنوع من التعايش بين لغتين، لاسيما عندما يكون الشاعر العربي بارعاً في لغته، نوعٌ آخر من المطاوعة سيتلبس لغتك، مبتعداً عن الصخب، في المعنى، وفي محاولة الوصول إلى قلب ذلك المعنى، تحاول ما استطعت أن تلقي بالمفردات الطاحنة إلى ما وراء النص، وتشحن نصوصك بمفردات، تومئ ولا تجثم على صدور السطور، تستعين بالضوء لتوقد المعنى، بعيداً عن فكرة إشعال النار، في سبيل أن تلفت نظر القارئ، عسى أن يهرول ليطفئ الحريق، مستلذًا بلون اللهب.
وإن كانت الجائزة قد منحت لغسان، كما جاء في حيثياتها، تقديراً لمجمل منجزه الإبداعي، مع التركيز على ترجمته لمختارات من أعمال الأمريكي جون أشبري، أشبري الذي قال يوماً في إحدى قصائده: أنا في حالة حبٍّ مع نافذتك..، وذلك يحيلني الى الحب الذي يجمع الخنيزي مع نوافذ عديدة كانت تسرّب له الضوء، فيمتح من خيوطه ما يروي ميله إلى سكينةٍ شعرية لا يتمتع بها سواه، من حيث الاقتصاد في نشر نصوصه في كتب، وإيمانه المطلق بضرورة إعادة ما يراه الآخرون جاهزاً للنشر من نتاجه الشعري، فكانت حصيلة ما ظهر إلى النور منه، كتابين في الشعر، وكتابين في الترجمة، وتجربة تعدل شاعراً غزير المفاهيم، صوفيُّ اللغة بلا تكلّف، ميال في لا شعوره إلى تكثيف جملته الشعرية، كما لو أنّه يراها على جدار، يلّونها كل يوم، ويعيد تلوينها، وحين يتعب يلقي بها إلى القارئ من باب المغامرة الشعرية.
أولئك الناس الذين يأتون في الضحى“
ينفثون الأرواح في الأروقة،
ويبقى صدى مجيئهم يدوي.
مدوياً يبقى صداهم المائج.
ثم إن طوفانا كبيرا يبتدئ
كي نهرع من سبات الغرفة إلى شمس العلية
نترنح، نرى شعاع الضوء غافيا
نبصر وجوه صويحباتنا توهن قليلا قليلا،
ثم إن أولئك الناس، بمكر، يذهبون،
تاركين اليقظة تلهو بألبابنا… كيف تشاء”
(غسان الخنيزي)
وكما يقول البرتغالي أفونسو كروش؛ ” إنّ القصائد في كل مكان، وفي أغلب الأحيان تفضّل الاختباء في الأماكن الأكثر بساطة”، يأتي المكان ضيفاً خفيف الظل في نصوص الخنيزي، إن كان ذلك فيما يكتب أو فيما يختار ليترجم، انطلاقًا من حيوات عديدة، عاشها متنقلاً بين أكثر من بيئةٍ، إضافة إلى الالتحام الإيجابي في النسب، الأمر الذي قاده إلى توزيع ما في جرابه من الحنين على شكل نصوص إبداعية، ولا يختص الحنين بالناس فحسب، فهو قابل للتشظي في أكثر من هيأة، وتلك الهيئات هي ما يكمن في ثنايا النص، متوثباً لقول ما هو موجع، أو مكتفيًا بالتذكير به بصورة موحية:
” في البدء أظنك تظن أنك عارف ماذا في البدء.. أو لربما كنت مثلي تدركُ أن المعرفة هي ما نتربص لإخفاء الأشياء كي نمارس وصفها الشائن: هنالك الآن مراوغة عظيمة وشائنة أنخرطُ فيها مع عسل الأشياء: مع الرضا.. شفيعي في ذلك كله هو حفظي للنوايا غافية في محملي الجمّ لها إلى أشد المخابئ تلوثاً بالرأفة والحميمية. هكذا هي اشتباكات المعاني والمرجعيات، وهذا هو الوضوح متوّجاً على ظهور خيل تتهاوى في أخبث المدارك وأروعها بلادة وخمولاً.. وأنت؟”
(غسان الخنيزي)
والخلاصة، أنّ غسان الخنيزي، يكاد أن يكون وطناً لذاته، وذلك ما يمكن أن نتلمسه في نصوصه الأخيرة، فالشعر يمكن له أن يكون بلادًا عادلةً، بطغيانٍ عذب ولذيذ، هو طغيان البحث عن اكتمال الجمال، وهي حالة تتلخص ندرتها في البحث الدائب، عن أماكن الخضرة في العالم، واقتطاع عشبة من هنا، وشجرة من هناك، لترسم صورة بستانك اللغوي والمعرفي، بعيداً عن الحنين الكلاسيكي إلى أماكن اللهو، إنّه حنين ضارٍ إلى نقاء الجدار الذي ستعلق عليه صورةً واضحة لسنيّ حياتك، قائلاً للعالم: انظر إليّ، ها أنذا أبتسم من أجلك، وأكتب من أجل أرواحٍ تعذّبها اللغة، مثلّما تعذّبني في عنادها الأزلي، كي نصل معاً إلى ذاكرة أخرى، نودعها شاطئاً بعيداً، ثم نبحر.
” ههنا، حيث تندحر الرغبات إلى البدء. وتقى مليئة بالطلاسم واللعن أماكن أرضية نهفو إليها كل حين. ههنا واحد من هاتيك الأماكن. في الأفق، بعد التقاء النور بالأمواج وزبد البحر، ألق يهرب من بين أيدينا ساعة يتوّج العطش.” (غسان الخنيزي)