“بشطارزي في أمريكا، الرحلة المتأخرة”، الجانب الخفي في سيرة مؤسس المسرح الوطني الجزائري

0 293

إدريس بوسكين – الجزائر

صدر مؤخرا بالجزائر العاصمة كتاب “بشطارزي في أمريكا، الرحلة المتأخرة” للكاتب الإعلامي احميدة العياشي الذي سلط فيه الضوء على رحلة مؤسس المسرح الوطني الجزائري، محي الدين بشطارزي (1897- 1986)، إلى مدينة نيويورك الأمريكية عام 1973، مبرزا من خلاله جوانب خفية في سيرة هذا الفنان العملاق الذي يعتبر مهندس الساحة الثقافية الجزائرية ورائدها بدون منازع.

يفتتح العياشي مؤلفه هذا بالإشارة إلى الظروف التي أحاطت بتلك السفرية التي قادت بشطارزي إلى أمريكا لبضعة أسابيع في آخر سنين حياته، وخصوصا الأوضاع السياسية والأيديولوجية في الجزائر والعالم العربي، نتيجة الحرب العربية الإسرائيلية آنذاك وعداوة العرب لأمريكا ولكل ما يرمز لثقافتها وتوجهاتها الإمبريالية.

ويرى الكاتب أن تلك الظروف قد تسببت في “تحجيم” أهمية تلك الرحلة لدى بشطارزي نفسه في كتابته لمذكراته وأيضا لدى النقاد والباحثين فيما بعد رغم أنها كانت “ذات أهمية كبيرة” في التعريف بجزء آخر غير معروف من مساره الفني والإنساني، حيث أبرزت العديد من الجوانب في شخصيته والتي من بينها “انفتاحه المكبوت آنذاك على الليبرالية”.

يقول العياشي أن الراحل بشطارزي قد تكلم عن رحلته المتأخرة إلى أمريكا “كنص هو أقرب إلى الشذرة، وهذا في الجزء الأخير من مذكراته”، حيث كانت الرحلة “متخفية في ثنايا الفصل الأخير”، مرجعا هذا الأمر للأوضاع السياسية آنذاك، وخصوصا سطوة التيار الشيوعي على الساحة الثقافية الجزائرية والعربية.

ويضيف الكاتب أن هذه السفرية “ظلت مجهولة” لأغلب النقاد والمؤرخين والباحثين “رغم أهميتها البالغة”، خصوصا أنها “تكشف لنا جوانب هامة في شخصية هذا الفنان الرمز” الذي يعتبر “عبقري الفن في الجزائر”، حيث كان مؤلفا وممثلا ومخرجا مسرحيا، وممثلا سينمائيا، ومغنيا أيضا، ومؤسسا لفرق مسرحية وغنائية، وصانعا لأهم رواد الفن في الجزائر.

وعن انطباعات بشطارزي بشأن رحلته تلك يوضح العياشي أنه سرعان ما أعجب بانبهار بنيويورك التي كانت تمثل بامتياز العالم الجديد والتكنولوجيا والحداثة المفرطة والتعدد والتنوع العرقي والثقافي، فقد وجد فيها المدينة التي “تخاطب فيه هوسه بالفن والحياة الثقافية والحياة البراغماتية القائمة على ثقافة الدقة والتنظيم والمنفعة.. “.

وقدم الكاتب نبذة عن مسار الراحل، الذي “عرف بمرجعيته العربية الإسلامية وحبه للتاريخ والثقافة العثمانية”، وخصوصا في فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية والتي عرفت “قطيعة مزدوجة مع الاستعمار الفرنسي، ثقافية وسياسية”، تجسدت في التكامل بين المشروع السياسي والأيديولوجي للحركة الوطنية بقيادة الزعيم التاريخي مصالي الحاج والمشروع الثقافي الفني الاستقلالي الذي تزعمه بشطارزي.

وأوضح العياشي، في هذا الإطار، أن جيل بشطارزي قد عمل على “الإحياء الثقافي وابتكار الوعي الجديد بالخصوصية والانفتاح على الحداثة السياسية وإعادة بناء الذاكرة الجماعية واكتشاف طريق الاصلاحات المتعدد”، بينما رمت الحركة السياسية المصالية في نفس الوقت إلى “الاستقلال والنهضة الروحية والسياسية للأمة الجزائرية”.

وقدم الكاتب، من جهة أخرى، مقارنة رائعة بين بشطارزي ومصالي الحاج، اللذين يشتركان أولا في أن كليهما من أصل تركي، متطرقا بعدها لدورهما الرائد في بعث الروح التحررية الوطنية في شقيها الثقافي والسياسي، لافتا إلى أن الأول كان “صوتا يحيي الروح الساكنة بجماليته ونغماته المعبرة عن تجلي الجذور الثقافية للذات التاريخية”، بينما كان الثاني “يمنح بفيض اندفاعه ورغبته الجامحة في صناعة الحرية بواسطة التحريض الخلاق للوعي الجماهيري بتحرير الجموع من قيودها الخفية وأغلالها اللامرئية.. “.

ويشدد العياشي على أن مصالي “قد عزم على بعث مشروع الاستقلال، وذلك في سياق لحظة التأسيس التاريخي للوطنية السياسية”، بينما “قرر بشطارزي أن يشكل مشروعه الاستقلالي الثقافي الذي ينهل من نبع الثقافة العربية الإسلامية عبر تأسيس ما يمكن تسميته بالوطنية الثقافية.. “، مشددا على أن الاهتمامات الكبرى لبشطارزي كانت في “بلورة الوعي الشعبي إلى وعي وطني”، حيث تميز في هذا الإطار بنضاله في فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا.

ولد باشطرزي بقصبة الجزائر العاصمة (المدينة العثمانية القديمة)، عام 1897، إبان الاستعمار الفرنسي للجزائر، لعائلة برجوازية محافظة، وحفظ القرآن الكريم وهو صغير، قبل أن يدخل عالم الفن من باب الموسيقى رغم اعتراض عائلته، ليبدع بعدها في المسرح والسينما، وقد ناضل من خلال الفن من أجل الحفاظ على الهوية الجزائرية ومن أجل استقلال الجزائر.

وعلى مدار مساره الفني الحافل سجل بشطارزي أكثر من 400 قطعة موسيقية في مختلف أنواع الفن الأندلسي من مدح وصنعة وحوزي وعروبي وغيرها، كما قدم في المسرح ما لا يقل عن 100 عمل، بين ركحي وإذاعي، ما جعل منه أكثر الفنانين الجزائريين غزارة في الإنتاج على مر التاريخ، وأما في السينما فقد كان أيضا من روادها، إذ شارك في العديد من الأفلام قبل وبعد الاستقلال.

ويرى نقاد وباحثون أن ما ميز مسار هذا المبدع في الفن الرابع قطيعته مع الشكل القديم للمسرح الجزائري القائم أساسا على الاقتباس، كما أنه المبدع الأول الذي استطاع نقل المسرح إلى عمق المدن الجزائرية، إضافة إلى أن المسرح معه كان أكثر جمالا وسلاسة ما جعل الناس يتقبلونه ويقبلون عليه.

ويحسب على بشطارزي أيضا أنه الفنان الذي أخرج وكون أشهر رواد الفن في الجزائر، في الموسيقى والمسرح والغناء على حد سواء، على غرار مصطفى سكندراني والهاشمي قروابي وأحمد وهبي وسيدعلي كويرات ورويشد ومصطفى كاتب، كما كان له الفضل في إدماج المرأة الجزائرية في عالم الفن، فمعه برزت رائدات الفن الجزائري ككلثوم ونورية وفضيلة الدزيرية.

وبعد الاستقلال، أشرف هذا المبدع على إدارة المعهد البلدي للموسيقى بالعاصمة مكرسا وقته وجهده لتكوين المواهب الشابة، وهذا إلى غاية عام 1974، لينشر في آخر حياته مذكراته التي صدرت في ثلاثة أجزاء، تناول فيها تاريخ المسرح الوطني.

ويؤكد كبار المسرحيين الجزائريين على مكانة باشطارزي الرائدة إذ يعتبره عميد المسرح الجزائري، طه العامري، “الأب الروحي” للمسرح الجزائري.

وكان بشطارزي قد حاز تكريمات وتشريفات من الجزائر وعديد البلدان عن مجمل أعماله ونظير مساهماته أيضا في التعريف بالثقافة والفن الجزائري، وبعد مسار إبداعي حافل توفي ذات فبراير من عام 1986، وفي عام 1990 تم إطلاق اسمه على مبنى المسرح الوطني الجزائري بالجزائر العاصمة، عرفانا بما قدمه للجزائر من خدمات جليلة.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.