الديرة..أطياف الحنين المخاتل

ورشة فن-فوتوغراف

0 528

أثير السادة – السعودية – سماورد

هناك في الديرة، حيث النواة الأولى لتشكل الانسان في البيئات التقليدية، تركض بنا الذكريات إلى حيث اختبأت امنياتنا الصغيرة، أفياء الازقة القديمة تشبه التعب الذي تقاسمناه بكثير من الحب في ثرثرة اللعب..فوق كل جدار مصباح يضئ بساتين من الصور التي اعشوشبت في الروح، حتى استحالت غابات من الحنين، حنين مخاتل، يشتهي الرجوع ولا يشتهيه، حنين يتساقط بلا حساب، الا حساب الخوف من آت لا نعرفه.

تضيق بي الممرات وأنا اتجول بين سطور ديرة أخرى، أحمل في داخلي مجاديف السابحين لاكتشاف مكان هو كالمنسي في سفر النوارس، مكان لا يكشف إلا بمقدار ما يكتم من سيرته الأولى..هو حي الديرة بالخويلدية..المكان صغير، والدور التي تلاصقت جدرانها داهمها الصمت في ساعة الظهيرة، ، كانت الشمس وحدها المرشد لأي زائر غريب، تضيء له في مرايا النوافذ، لوعة الطين، ووله الأزقة التي ذابت فيها خطوات العابرين، عيناي تحدق في صنيع الحجارة، ولطخات الاسمنت التي داهمت روح المكان، كأنها انفاس حالم عجوز.

الأزقة أوتار، لكنها خلف نافذة القيظ لا تهمس إلا في أذن الحمام الغافي على  اطلال الأناتن، لاشيء غير هدير المكيفات التي كلت حناجرها من زفير النهارات الطويلة، مفاتيحها التي لا تعرف الاغلاق تحدثك عن سر النوافذ الموصدة، عن مغرب اللاهين في البرحات العتيقة.

تضيع بي البوصلات، فأعثر على زقاق آخر، أمشي معه في سراب الفضول الذي يمد كل أصابعه في دفاتر الذكريات، بكاء طفل يشبه بكائي في ظمأ اللعب الممتد بلا نهاية، في اشتهاء “في العصر” الذي يختبئ طويلا خلف شمس الصيف، فيما تباغت رائحة الطبيخ كل صحو الشبابيك الموصدة.. الرائحة هي دليل العابرين، تعرف سحنة الساكنين من نشيد القرنفل الذي يفيض بأسرار اطباقنا، بهجة الليمون العماني ساعة يطوق الأنوف، كانت البيوت روائح تحاور بعضها، شممت هناك حبات الرز في مشاخيلها، رائحة استفاقت لها كل أواني الصبا، وصورة طفل يتعجل في اكتشاف الطعام، ينادم كل الروائح التي تشبه تعب الأمهات.

الشبابيك أزقة، الشبابيك مرايا، الشبابيك جسور يلتقي على اطرافها التأئقون لنسمة هاربة من وعيد الصيف، تلوح بما تيسر من عشق الأهالي لإضاءة حجراتها بفيض النور الذي ينحني بصعوبة فوق مبان لم تمل هامتها في وجه الريح، متراصة بلا ارتدادات، بلا فواصل إلا تلك السطوح التي تشرف على سماء ملبدة بالوعود.

أبوابها الملونة ترتشف من فناجين الذكريات البعيدة، أبواب للدخول، واقفال ومقابض تهندس العلاقة بين الخارج والداخل، أبواب موصدة أتعبها الوثوق في زمن لا ينام فيه السرّاق، ولا تحرس فيه خصوصيات الناس سوى الأقفال..أبواب من الحديد، وأخرى من الخشب، تراوحت ألوانها بين الأخضر والأسود والبني المتشرب للحمرة، ألوان منذورة لمزاج الناس، لاعتقاداتهم، وربما للزمن الذي رحل ولم ترحل علاماته بعد..بعضها بلا اجراس، وحدها الطرقات تفتح درباً الى قلب البيت.

عتبات ولا عتبات، هكذا تفترق سيرة البيوتات والشوارع المحيطة، يتثاقل العجوز في رفع رجله للدخول الى بيت أخطأ مهندس البناء حساباته فلم يمنح البيت امنيته الأخيرة، لم يذخر شبراً ليدوس عليه الداخل للزوايا العتيقة، يمضي ببطء الى الداخل خشية التعثر في فاصلة العبور، كالجفوة هي العلاقة بين البيت والشارع في غياب العتبات، علاقة مفعمة بالتردد، يصبح فيها البيت كمن يطفو فوق المكان.

يحدث ان يستحيل الزقاق زقاقاً آخراً أشد ضيقاً، محمول هو الآخر على صمت الظهيرة، صدى الاطفال الذي غادروا للتو يبدو مفترشا المكان على صورة دراجات تفرقت اجزاؤها، خربشاتهم على الجدران تشبه نصوصا مشفرة لا مهرب من تأويلها، تقدح في ذهنك كل الأفكار وأنت تطالع الصليب المعقوف، شعار النازية، يتمدد فوق اكثر من جدار..تسأل اي سؤال سياسي اضاع الطريق فتاه في زقاق صغير كهذا..أي نزوة طفولية اشتهت أن تعانق ذروة الخراب السياسي تلك.

ثمة خدار يتدلى ليسدل الستار على شطر من الزقاق، هو طرفه الأخير الذي سيهب البيت اتساعاً بعد ضيق، أشبار قليلة لكنها ستفتح هامشاً لجهاز غسيل الملابس وتجفيفها..خدار آخر في طرف آخر يراد له ان يجفف النظرات قبل ان تصل الى داخل البيت، أكثر البيوت بلا مقدمات، بلا أحواش، لذلك قد يفضح مقبض الباب كل الستر الذي تحمله الجدران ساعة تعانقه يد العابرين الى الداخل.

ولأن النهار كاشف للستر، لن نعرف الحي كما ينبغي، لن تكفي كل خيوط الضوء لاضاءة نص يتوارى خلف ساعات الراحة..لنا ان ننتظر المساء حتى ندرك ظلال الوطن الصغير، خطوات الهامسين في اذن الازقة، فهناك يسرد أهل الحي احزانهم وافراحهم، ونلملم معها صوراً كأنها انقاض ذاكرة، لكنها في هذا المكان تصبح واقعاً لأحلام ذبلت، وخريف أطال المكوث عند أهل تلك البيوت العتيقة.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.