بعد الحرب العالمية الثانية ظهر مسرح العبث واللامعقول المتأثر بالفلسفة الوجودية التي تؤمن “بوحدة الإنسان الوجودية واغترابه في عالم يناصبه العداء، وباستحالة التواصل على أسس موضوعية، وجعلت من هذه الأفكار أرضيتها واطارها المرجعي” ([1]). فالعبث هنا يعتبر حالة تكون فيها أفكار الشخص غير منطقية وليس لها معنى. فالوجود محايد عند العبثيين، والأحداث والقضايا لا معنى لها إلا في نظر الإنسان، وهو الذي يضفي عليها المعاني. أما اللا معقول فتعني أي شيء لا يصدقه العقل ولا يمكن إدراكه لأنه غير متناسق ومنسجم مع العقل، فمسرح اللامعقول يتميز نصه المسرحي بعدم التسلسل والترابط وخلوه من الحبكة المنطقية. وقد نشأ مسرح العبث بسبب ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية ونفسية، فظهر الأدباء العبثيون الذين تأثروا بنتائج الحروب العالمية، وكان الكاتب يوجين يونسكو واحد منهم.
وقد فرق الدكتور سعيد المحنه والدكتور علاء عبد العالي – في دراسة لهم عن مسرح اللامعقول إشكالية المصطلح وتماثل الرؤية والمفهوم – بين مصطلح العبث ومصطلح اللامعقول “فقد يكون الأول أقرب إلى المعنى الفلسفي، في حين الثاني يكون أقرب إلى الأدب على اعتبار أن استعمال مصطلح (اللامعقول) واقترانه بالأدب تمخض عن فلسفة عرفت بفلسفة (العبث)” ([2]).
رفض يوجين يونسكو تسمية (مسرح اللامعقول) أو (العبث) على أعماله المسرحية، قائلا: “(أفضل كلمة الغريب أو غير المألوف على كلمة اللامعقول أو العبث)” ([3])، وكان يسمي مسرحه (المسرح المضاد)، متمردا بذلك على المسرح التقليدي القديم.
حياة يوجين يونسكو ورحلته مع الكتابة المسرحية وأهم أعماله
الكاتب يوجين (أو أوجين) يونسكو مؤلف مسرحي من أم فرنسية وأب روماني، ولد في سلاتينا برومانيا، “في 26 من نوفمبر عام 1909م” ([4])، وقيل في مرجع آخر “عام 1912م” ([5])، ويعد من كبار كتاب مسرح اللامعقول والعبث، المهاجرين من رومانيا إلى فرنسا، وقد عاصر الحرب العالمية الأولى والثانية ورأى أهوالهما، وتنقل بحياته بين رومانيا وفرنسا.
وقد تطرق الدكتور حماده إبراهيم في مقدمة كتابه الأعمال الكاملة ليونسكو الجزء الأول – في حوار مع أوجين يونسكو – لحياة الكاتب وطفولته في باريس، وعودته إلى رومانيا وهو في سن الثالثة عشرة ليعيش مع أبيه بعد انفصال والديه، ومعاناة يونسكو الطفل في تعلم اللغة الرومانية حتى اتقانه لها وكتابة أول قصيدة له بالرومانية، وكان ذلك على حساب اللغة الفرنسية التي اهملها، ولأسباب اقتصادية عاد إلى فرنسا ليعيش مع والدته، ليجد نفسه مضطرا لتعلم اللغة الفرنسية مرة أخرى حتى اتقنها، وواجه تحدي جديد أمامه لتعلم اللغة الإنجليزية حتى يسهل عليه البحث عن وظيفة تعينه على كسب قوته، “هذه التجارب اللغوية كانت الشرارة التي فجرت عنده ملكة التأليف للمسرح” ([6]).
عاش يوجين يونسكو في طفولته متنقلا ما بين رومانيا وفرنسا حيث انتقل مع عائلته إلى باريس، “ولما اعلنت رومانيا الحرب على ألمانيا وإمبراطورية النمسا – هنغاريا، عاد والده وحده إلى بلاده، وانقطعت أخباره وظنت أسرته أنه قتل في الحرب العالمية، ولكنه حصل أثناء ذلك على الطلاق وتزوج من امرأة أخرى” ([7]). وقد لاقت أمه صعوبة في رعايته وأخته، فالتحقا بوالدهما في بوخارست، وأخذا يتعلمان الرومانية.
قام يوجين يونسكو بدراسة اللغة الفرنسية وأدبها في جامعة بوخارست وتعرف فيها على زوجته التي كانت من أسرة رومانية. “وحصل على منحة دراسية من المعهد الفرنسي في بوخارست لتحضير درجة الدكتوراة في الأدب، فأتاحت له هذه المنحة السفر إلى باريس” ([8]). نشر كتابا باللغة الرومانية بعنوان (لا) تضمن مقالات نقدية تهاجم القيم السائدة في الأدب الروماني، فتسبب بضجة في رومانيا، وهذا ما يفسر تمرده على الواقع.
رجع يوجين يونسكو وزوجته من باريس إلى رومانيا بعد هزيمة فرنسا في الحرب مع ألمانيا النازية، لأنه كان محسوبا على الرعايا الرومانيين التي تحالفت دولتهم الفاشية مع ألمانيا النازية. عمل في هذه الفترة ملحق صحافي وثقافي في السفارة الرومانية، وعاش مع زوجته في مرسيليا ومن ثم انتقل إلى باريس بعد تحررها، وأقام بعدها إقامة دائمة في فرنسا، وقد حصل على الجنسية الفرنسية. وكان قد تعرض في باريس لضائقة مالية شديدة دفعته إلى أن يعمل مصححا لغويا في بعض دور النشر، وبقي يعمل في هذا المجال إلى أن بدأت شهرته وأعماله المسرحية وكتاباته النقدية ودراساته وترجماته تدر عليه ما يعيش به من أموال ([9]).
كتب يوجين يونسكو بعض القصائد الشعرية البسيطة وهو في سن الثالثة عشرة، كما أنه كتب في المرحلة الجامعية بعض الأشعار والقصص والمقالات النقدية في الصحف والمجلات الرومانية، وترأس وهو طالب دكتوراه في باريس بعض الصحف الرومانية وكان يزودها بأخبار الأدب والأنشطة الثقافية. وترجم بعض أعمال الشاعر الروماني (أورموز) إلى اللغة الفرنسية. وبدأ بكتابة أولى مسرحياته بعنوان (المغنية الصلعاء) وأضاف تحته عنوان فرعي هو (مسرحية مضادة) فكانت أول عمل طبقت فيه كل أصول مسرح اللامعقول وتقاليده الجديدة ([10]). عرف بكثرة الانتاج الأدبي سواء مسرحيات أو دراسات ومقالات فقد كتب 30 مسرحية تقريبا من ضمنها مسرحية الرجل ذو الحقائب.
أثر حياة يوجين يونسكو على طبيعة كتاباته
من الملاحظ تأثر الكاتب يوجين يونسكو بالحروب التي عاصرها والتي كان لها دور في طبيعة حياته، بالإضافة للغربة التي شعر بها وهو يتنقل ما بين رومانيا وفرنسا في مسيرة حياته، وبالتالي أثر ذلك على طبيعة كتاباته، فكان من كتاب مسرح اللامعقول الذي عرفوا بنظرتهم التشاؤمية وأعمالهم السوداوية وبحثهم الدائم عن معنى الوجود الإنساني، وكذلك عرفوا بأسلوبهم العبثي الفوضوي البعيد عن المنطق، حتى أطلق بعض النقاد على أعمالهم مسمى (مسرح اللامعنى) كونها بلا حبكة.
تميز أسلوب الكاتب يوجين يونسكو في مسرحه العبثي بالغرابة فمثلا في مسرحية الرجل ذو الحقائب هناك عدة مشاهد وأحداث ليس لها علاقة ببعضها وتداخل في الأماكن والأزمنة، فنجد الرجل الأول مرة في محطة قطار ينتظر ومرة داخل قارب يتنقل ومرة نجده في مشاهد أخرى يتجول في أماكن مختلفة يبحث عن نفسه وعن ماضيه وعن أهله حاملا حقائبه في كل مشهد، حتى جاءت النهاية صادمة بأنه كان يحلم وأن كل هذا كان مجرد أضغاث أحلام.
وليس مستغرب على الكاتب يوجين يونسكو هذا الأسلوب فقد اعتمد طريقة كتاب مسرح العبث ومسرح اللامعقول منهجا في كتاباته، والمعروفة بالحوارات غير المتسلسلة والمترابطة والحبكات غير المفهومة والخالية من المنطق والمعنى.
وقد ذكرت الدكتورة فاتن سعدون – في دراسة لها عن طبيعة الصراع في نصوص مسرح اللامعقول يوجين يونسكو أنموذجا – بأن الكاتب يوجين يونسكو وكل كتاب دراما اللامعقول لم يهتموا بوحدة الزمان والمكان والحدث، فجاءت شخصيات مسرحياتهم غامضة وغير مفهومة، وهذا ينطبق على عموم شخصيات يوجين يونسكو المسرحية ([11]).
ونلاحظ أيضا الغرابة والغموض في تسمية الكاتب يوجين يونسكو لمسرحيته الرجل ذو الحقائب، فلم يعطي شخصية الرجل هوية، حتى أنه اطلق عليه مسمى الرجل الأول في نصه المسرحي، ولكنه عرفه ووصفه بأنه حامل لحقائبه طوال المسرحية حيث يحمل حقيبتين في يديه، والملفت للنظر أنه لم يفتح هذه الحقائب أبدا واكتفى بقوله (لا أحمل في حقائبي سوى مواد غير ضارة)، وعبر عنها بأنها ثقيلة كأنها ترمز إلى الحمل الثقيل الذي يحمله في داخله وهو يبحث عن هويته ومجتمعه، إلا حقيبته الثالثة التي تحدث عنها في مشهد واحد حيث ظهرت فجأة واختفت فجأة، معبرا أنها أهم حقيبة بالنسبة له، ففي المشهد الثامن دار حوار بين الرجل الأول والرجل ذو المجداف:
“الرجل الأول: كان لدي ثلاث حقائب.
الرجل ذو المجداف: بل اثنتان فقط.
الرجل الأول: ثلاث، ثلاث حقائب.
الرجل ذو المجداف: اثنتان، يا سيدي، اثنتان.
الرجل الأول: أنا أعرف ما أقول، تنقصني أهم حقيبة، الحقيبة التي تحتوي على ملابسي وخاصة على المخطوط الخاص بي.
الرجل ذو المجداف: لم يكن لديك سوى حقيبتين، كنت قد حملتهما كل حقيبة في يد، وليس لدي سوى يدين، لم يكن هناك سوى حقيبتين، أنت تتصور أنه كان معك ثلاث حقائب، أو ربما تكون قد نسيتها في مكان آخر..” ([12])، وهذا يوضح احدى سمات مسرح العبث واللامعقول، فظهور الحقيبة الثالثة واختفائها المفاجئ واصراره على أنها كانت معه طوال الوقت تعبر عن تصرف غير منطقي وليس له مبرر ويشتت تسلسل المسرحية.
أبرز السمات الفنية لمسرحية الرجل ذو الحقائب
تدور أحداث مسرحية الرجل ذو الحقائب حول شخص يحمل حقيبتين وينتظر في محطة قطار بباريس ويريد السفر والانتقال من مكان إلى آخر ليبحث عن هويته وعن ماضيه، حتى وصل إلى أماكن عدة في رومانيا، فيجدها في حالة حرب، وتأتيه مضايقات في كل مكان يذهب إليه. يطلق عليه في المسرحية بالرجل الأول فهي شخصية بدون اسم، فقط مجرد رجل يحمل حقائبه ويتجول مسافرا فيشاهد صرعات وجرائم مؤلمة لا يعرف لها تفسر منطقي.
بدأت المسرحية بالرجل الأول وهو يحاور المصور (أو الرسام) وقد اختلط عليه الزمان ولا يعرف هو في عام 1938م أم في عام 1789م، يقف ينتظر القطار فيخبره المصور بأنه على شاطئ نهر السين، ففي المشهد الأول يصور الكاتب يوجين يونسكو هذا الحوار:
“المصور: لعلمك، أنت هنا في أمان على شاطئ نهر السين، أنت هنا في أمان، ضع عنك إذن هذه الحقائب، ولا تخش شيئا، هذا أفضل مكان لانتظار القطار أو الميترو الذي سيوصلك إلى الفندق.
الرجل الأول: هل تعتقد أن القطار سيصل أو المترو؟.
المصور: نحن في عام 1938م، باريس التي تتدفق حياة وحيوية، أو عام 42 أو عام 50.
الرجل الأول: عام 1959م باريس ميتة.. مازلت لا أرى إذا كنت في عام 1938م أو في عام 1959م.
المصور: 38، فما يزال هناك نظام، أو أنا مخطئ فنحن في عام 50؟” ([13]).
في هذا الجزء من المسرحية يظهر تداخل الماضي والحاضر والمستقبل فتتحطم وحدة الزمان فلم يعد واضح هم في أي عام. حتى عندما يسأل لا يجد إجابة محددة بل إجابات لا منطقية. وهذا التداخل بين الأزمنة والتغيرات التي حدثت في هذه الأماكن هو احدى سمات مسرح اللامعقول، ويبرز لنا إحساس الضياع والتشتت والتوتر وعدم الشعور بالأمان الذي تعيشه الشخصية.
وفي نفس المشهد حوار آخر بين الرجل الأول والرجل ذو المجداف:
“الرجل ذو المجداف: جئت لكي أصحبك أنت والحقائب إلى الفندق.
الرجل الأول: أنت جئت في المركب؟ هل نحن في مدينة البندقية؟.
الرجل ذو المجداف: بالمرة.. أنا أصحبك إلى الفندق، هنا، في باريس، منذ فيضانات عام 1910م ننتقل في المركب من باب الحيطة والحذر، فقد تحول نصف الشوارع إلى قنوات.
الرجل الأول: إذن انتقلت مدينة البندقية إلى باريس.
الرجل ذو المجداف: وكذلك انتقلت باريس إلى البندقية، فالمدينتان صارتا شقيقتين” ([14]).
أما في هذا الجزء من المسرحية يظهر تداخل المواقع فتتحطم وحدة المكان فلم يعد يعرف هو في أي مدينة. فمن وجهة نظر الرجل الأول أن التغيرات التي حدثت في مدينة البندقية وباريس قاربت بين هوية المدينتين فاختلط بها، وهذا يدل على عدم تركيزه لما يحدث حوله وأن أغلب اهتمامه ينصب حول إيجاد هويته الضائعة.
وتمر الأحداث بنفس الأسلوب، إلى المشهد الخامس حين يحاور الرجل الأول المرأة العجوز:
“الرجل الأول: هل سبق لي أن رأيتكما؟ منذ زمن بعيد، من تكونان؟.
المرأة العجوز: نحن جداك من أمك.
الرجل الأول: كلا، أنا لا أعرف هذا المكان، لم يسبق لي أن جئت إلى هنا.
المرأة العجوز: ومع ذلك فهنا كانت أصولنا.
الرجل الأول: لم أعد أدري كيف جئت هنا.
المرأة العجوز: ومع كل فهذا جدك، مازال يدخن غليونه العتيق” ([15]).
في هذا المشهد يعود الرجل الأول إلى بلاده وأصوله ولكن كغريب فلم يعد يعرف أحد ولم يتذكر أحد، وقد جسد هذا المشهد معنى البحث عن الهوية. ويتكرر الموقف في المشهد السادس ولكن مع زوجته التي ظن أنها أمه فتخبره المرأة العجوز بأن أمه ماتت وأبوه أيضا مات، فتختلط عليه الأمور وتتشابك الأحداث. فيأتي المشهد العاشر ليجسد معنى الاغتراب في حوار بين الرجل الأول والشرطي الأول والشرطي الثاني:
“رجل الشرطة الأول: لو تكرمت هل يمكن أن تريني جواز سفرك؟ فلا بد من الإجراءات الشكلية.
الرجل الأول: ليس معي جواز سفر، معي بطاقة، بل اثنتان، بطاقة زيارة وبطاقة شخصية بمعنى الكلمة، ها هما.
رجل الشرطة الأول (لرجل الشرطة الثاني): أنا أعرف هذا الأستاذ، فهو صديق ومواطن.
رجل الشرطة الثاني: في بطاقة الزيارة اسمك فيلا والمهنة ناموسية وفي البطاقة الشخصية مارتي أو مارلي لست أرى جيدا أو ماردي.
الرجل الأول: أعتقد أنه مفتي أنا نفسي لا أعرف..” ([16]).
حتى يأتي المشهد الثامن عشر، ليكتشف في النهاية أنه كان يحلم، فيختلط الحلم والوهم بالحقيقة والواقع.
وتخبره زوجته كل ذلك حين تقول له: (أنت تستيقظ من وقت لآخر في هذه الحياة التي لم يكن لك فيها غير النوم طوال الوقت). فيجيبها: (استيقظ في الحلم.. لن أنام بعد الآن وأنا أحلم).
وهكذا كانت نهاية المسرحية، حيث ختمها الكاتب يوجين يونسكو بإحساس الحيرة والقلق من العالم المحيط بالرجل الأول بطل مسرحيته الرجل ذو الحقائب.
ظاهرة الاغتراب والبحث عن الهوية في مسرحية الرجل ذو الحقائب
هناك عدة أنواع للاغتراب، ومنها الاغتراب النفسي وهو شعور الإنسان بالعزلة بنفسه عن الآخرين، واغتراب مكاني وهو أن يعيش الإنسان في بلد غير بلده فلا يشعر بالاستقرار كما حدث مع يوجين يونسكو في حياته وكذلك شخصية الرجل الأول في مسرحية الرجل ذو الحقائب.
فقد كتب يوجين يونسكو في المشهد الخامس عندما سأل الموظف الرجل الأول عن المرأة العجوز قائلا (هل كانت تنتمي إلى جنس مضطهد؟ أي جنس مدان؟ في هذه الحال يجدر ألا تبحث، فالاضطهاد قد تكون له عواقب، ونتائج سيئة على سلالتها)، وكان جواب الرجل الأول: (أريد أن أعرف أصولي، أريد أن أعرفها بأي ثمن) ([17]).
فيوجد علاقة بين معنى الاغتراب في شخصية الرجل الأول في مسرحية الرجل ذو الحقائب ومعناها في حياة يوجين يونسكو، كونه تغرب عن بلاده فترة من الزمن وعاد إليها غريبا ثقافيا واجتماعيا ثم هاجر منها نهائيا. فالتجارب الشخصية والظروف الحياتية التي مر بها يوجين يونسكو ساعدته على اتخاذ أسلوب اللامعقول في كتابة مسرحياته.
أما الهوية فهي السمة التي تميز شخص عن غيره أي حقيقته وصفاته، والبحث عن الهوية يعني بحث الفرد عن أدواره في الحياة كما افتقدته شخصية الرجل الأول في مسرحية الرجل ذو الحقائب.
كما كتب يوجين يونسكو في المشهد السابع حوار بين الرجل الأول والشاب عندما سال الشاب (ماذا تريد؟) فاجابه الرجل الأول (مرشدا) فأعاد الشاب سؤاله (ماذا تريد؟) فقال الرجل الأول (أريد أن أعرف طريقي، وهدفي الحقيقي أيضا) ([18]).
وكذلك في المشهد الثالث عشر حوار بين القنصل والممرضة يتحدثون عن الرجل الأول:
“الممرضة: يا له من مسكين.
القنصل: اعطيته أوراقا مختلفة، لم يشأ أن يخبرنا بهويته الحقيقية.
الممرضة: هو لا يعرف هويته.
القنصل: وهل نعرف هويتنا؟ نعرفها بشكل اجمالي بفضل وظائفنا” ([19]).
لم يذكر الكاتب يوجين يونسكو أسماء شخصياته في المسرحية بشكل صريح بل اكتفى بذكر وظائفهم أو صفاتهم، فمثلا الشخصيات التي ذكرها بوظائفها: الرسام (أو المصور) – الموظف – رجل الشرطة الأول – رجل الشرطة الثاني – المرشد – الطبيب – الممرضة – الشرطي – الجندي – القنصل – المأمور – القاضي- رجل الشرطة – الساقي.
أما الشخصيات التي ذكرها بصفاتها مثل: الرجل الأول – الرجل ذو المجداف – المرأة – المرأة العجوز – الرجل – الرجل العجوز – السائح الأول – السائح الثاني – السائحة الأولى – السائحة الثانية – الرجل الآخر – الرجل ذو الزي الرسمي – العجوز الأول – العجوز الأولى – العجوز الثاني – العجوز الثانية – الشاب – الشابة – المرأة المسنة – المرأة الأولى – المرأة الثانية – المرأة الأولى الأخرى – المرأة الثانية الأخرى – الرجل ذو الزي الروماني – المرأة الشعبية – السيد – السيدة – الرجل الثاني – الرجل الثالث – الرجل في النافذة – المرأة الشقراء – الزوج.
وكلها شخصيات مبهمة وهذا الأمر يوضح أسلوب الكاتب يوجين يونسكو العبثي في كتابة مسرحية الرجل ذو الحقائب، واعتماد اللامعقول للتعبير عن شخصياته في المسرحية، وهذه سمة مسرح اللامعقول وهي عدم انتماء كتابه إلى مذهب أو مدرسة أدبية محددة. وقد يكون تعبيرا على أن الإنسان ليس مجرد اسم بل أن وجوده كإنسان مربوط بعمله ووظيفته وهي هويته في هذه الحياة.
علاقة مسرحية الرجل ذو الحقائب بثقافة يوجين يونسكو ومجتمعه
من أبرز العوامل التي تربط مسرحية الرجل ذو الحقائب بالكاتب يوجين يونسكو هي عامل الثقافة والغربة، كونه كان يعاني من غربة ثقافية في بلدين مختلفين كان سببها حاجز اللغة وجاءت غربة المكان كونه في الأصل من رومانيا وعاش متنقلا بين رومانيا وفرنسا منذ طفولته ومرورا بشبابه حتى هجرته واستقراره في فرنسا إلى وفاته “في باريس في 28 مارس عام 1994م” ([20])، وقد عاصر حربين عالميتين شهد فيهما اضطرابات سياسية واقتصادية ونفسية، إلى جانب ما مر به من مشاكل عائلية بسبب انفصال والديه، واختلافه مع والده كونه يريد التحكم في مساره الدراسي فوالده كان يريده مهندسا ولكن يوجين يونسكو أراد دراسة الأدب ([21])، بالإضافة إلى قسوة والده عليه وصعوبة التعامل معه بسبب طبعه الحاد جعلت العلاقة بينهما سيئة لدرجة أنه لم يرى والده بعد أن قرر الهجرة من رومانيا إلى فرنسا حتى مات والده ولم يرثه رغم مروره بضائقة مالية. وهذا ما نجده ظاهر في شخصية الرجل الأول في مسرحية الرجل ذو الحقائب الذي لا يعرف أين هو ولا من أين أتى ولا كيف وصل إلى ما وصل إليه، فالرجل الأول رجل مجهول يجول مسافرا في البلاد يبحث عن نفسه وعن أرضه ووطنه وعن أصله وأهله. فتقاربت رؤية مسرحية الرجل ذو الحقائب ورؤية الكاتب يوجين يونسكو.
وظهر ذلك واضحا في المشهد الحادي عشر من مسرحية الرجل ذو الحقائب، حيث دار حوار بين الرجل الأول والمرأة حين قالت له (أنا لا أفهم ما تقول)، فكان رده (أقول إنني أبحث عن سفارتي، أنا لا أفهم هذه الكتابات لأنها باللغة اللاتينية، كنت أعرف اللاتينية في الماضي، ولكنني نسيت كل شيء، إذن أرشديني إلى الطريق)، فتقول (أنا لا أفهم كلمة واحدة، ماهي اللغة التي يتحدثها هذا الرجل؟ أنت أجنبي ولا شك)، فيرد عليها (سائح أجنبي، جئت من باريس، في الواقع لا أعرف ما إذا كنت أجنبيا أم لا) ([22]).
فشخصية الرجل الأول في المسرحية وشخصية الكاتب يوجين يونسكو متشابهتان، فكانت شخصية الرجل الأول تعاني صراع مع المجتمع فلا يعرف نفسه ولا حتى اسمه، كأن يوجين يونسكو أراد التحدث عن نفسه في هذه المسرحية، وإظهار شخصيته ومعناته مجسدة في شخصية الرجل الأول، بطريقة عبثية وفوضوية وغير منطقية.
تعرفنا على الأثر الثقافي لمسرحية الرجل ذو الحقائب وحياة الكاتب يوجين يونسكو، وعرفنا معنى الاغتراب والبحث عن الهوية في شخصية الرجل الأول في مسرحية الرجل ذو الحقائب، حيث يؤدي ضعف الانتماء إلى الشعور بالاغتراب، كما يؤدي الاغتراب إلى فقد الإنسان لذة الوجود، وربط ذلك المعنى بحياة يوجين يونسكو، وأثر ذلك على كتاباته لنصوص مسرحياته.
ظهرت نقاط الالتقاء بين مسرحية الرجل ذو الحقائب وحياة يوجين يونسكو، فظهر التشابه بين شخصية الرجل الأول في مسرحية الرجل ذو الحقائب وبين شخصية الكاتب يوجين يونسكو في أرض الواقع، فكلاهما يعيش حالة من الاغتراب في نفسه وفي مجتمعه، وبرز ذلك في مشاهد المسرحية والأحداث التي مرت بها شخصية الرجل الأول في المسرحية، التي تشبه إلى حد كبير ما مر به الكاتب يوجين يونسكو في حياته. فالاغتراب الثقافي الذي كان يعاني منه الكاتب يوجين يونسكو جعله من أبرز كتاب مسرح العبث أو اللامعقول. ونلخص من خلال ذلك كله إلى وجود علاقة بين طبيعة حياة الكاتب يوجين يونسكو وطبيعة كتاباته التي لها أثر على نص مسرحية الرجل ذو الحقائب.
المصادر:
([1]) نهاد صليحة: المسرح بين الفن والفكر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1986م – ص 81.
([2]) سعيد المحنه وعلاء عبدالعالي: دراسة مسرح اللامعقول إشكالية المصطلح وتماثل الرؤية والمفهوم، جامعة القادسية، الديوانية 2016م – (المصطلح والمفهوم والرؤية) ص 2.
([3]) يوجين يونسكو: الرجل ذو الحقائب ورحلة إلى عالم الموتى، ترجمة نادية كامل، دراسة نقدية محمود المقداد، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، من المسرح العالمي العدد 376، الكويت 2015م – ص 25.
([4]) يونسكو: مرجع سابق – ص 26.
([5]) حماده إبراهيم: الأعمال الكاملة ليونسكو (الجزء الأول)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2006م – ص 9.
([6]) إبراهيم: مرجع سابق (الجزء الأول) – ص 9.
([7]) يونسكو: مرجع سابق – ص 26.
([9]) نفس المرجع – ص 25 – ص 29.
([10]) يونسكو: مرجع سابق – ص 30.
([11]) فاتن سعدون: طبيعة الصراع في نصوص مسرح اللامعقول يوجين يونسكو أنموذجا، مجلة لارك للفلسفة واللسانيات والعلوم الاجتماعية العدد 21، الكوت 2016م – ص 371.
([12]) يونسكو: مرجع سابق – ص 94 – ص 95.
([13]) حماده إبراهيم: الأعمال الكاملة ليونسكو (الجزء الثاني)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2006م – ص 347.
([15]) إبراهيم: مرجع سابق (الجزء الثاني) – ص 353.
([17]) يونسكو: مرجع سابق – ص 81.
([18]) يونسكو: مرجع سابق – ص 89 – ص 90.
([19]) المرجع السابق – ص 145 – ص 146.