التأليف المسرحي والتأليف القصصي

ورشة فن - مسرح

0 787

سعاد خليل – ليبيا

عندما نقول الأدب المسرحي يعني أن نتناول أوج النشاط الإبداعي في الأدب؛ وذلك لأنه قبل كل شيء عمل قصصي أو روائي يتمثل ويتجسد على المنصة، فلا وسيط بين الجمهور وأبطال الحادثة أو القصة، ولا يمكن تناولهم بالوصف أو السرد، إنما هم أمامنا نشاهدهم ونسمعهم أشخاصا تحركهم حادثة أو موضوع معين فيتناولونه بكل الاختلاف في المشاعر الإنسانية.

لهذا، فإن المسرح هو نشاطان لا نشاطا واحدا. الأول أدبي فني، مهمته خلق الحادثة القصصية أو الروائية بكل شخوصها وأدواتها، وتوظيفها في حوار من صيغة تعبيرية بالكلام المناسب. وهذه من مهام الأديب الكاتب؛ وأما الثاني فهو نشاط فني تمثيلي، من مهام المخرج والممثلين الذين يرسمون ويجسدون الشخصيات المسرحية وخلق الأجواء وأطرها.

هذان النشاطان ليس منفصلين عن بعضهم، الثاني متمم للأول، والأول مرتبط بمراعاة الإمكانات التمثيلية ومقيد بها؛ لكن في الإجماع هما عملان فنيان لكل منهما أصوله. وعليه، لا بد من التمييز بين فن التمثيل، وفن التأليف التمثيلي أو فن التأليف المسرحي، وحين يراجع النقد الأدبي وكتبه أو تاريخ الادب في اللغة يتبين أنه كثيرا ما يشار إلى الواحد باسم الآخر، أما فن الأداء التمثيلي فهو نوع آخر من الإبداع. كيف يتلبس المشخصون مشاعر الأبطال وأعمالهم وهذه من الأمور الصعبة وليس بالآخر الهين الميسور، ولا يتأتى لكل من أراده ورغب فيه، فهو يتطلب تكيفا تاما، وتنازلا عن الشخصية الذاتية أثناء الأداء، ويلزم التدريب المتنوع والقدرة على التشخيص. وليس بموضوعنا في هذا المقال ففن المسرح فن قائم بذاته له تاريخه وتراثه ومستلزماته الفنية والتشكيلية.

في جزئية من كتاب الفن والأدب للدكتور ميشال عاصي عن التأليف المسرحي، يقول حتى يبلغ غايته ينبغي أن تتوافر له جملة عناصر تقتضيها طبيعة هذا العمل. وأول ما ينبغي له في نطاق الحادثة المسرحية أن تكون ممكنة الوقوع سواء انتزعها مؤلفها من وقائع التاريخ البعيد أو القريب، أم استقاها من وقائع المجتمع المعاصر، أم ابتكرها استنادا إلى مجرى الأمور حوله. ذلك أن القاعدة الذهبية في العمل المسرحي، تأليفا وتمثيلا كذلك، هي مطابقة العمل المسرحي للحياة في حركته الداخلية والخارجية معا. وليس مثل هذه القاعدة أساسا ينطلق منه المؤلف المسرحي، والمؤلف القصصي، إلى ايهام رواد المسرح وقراء القصة، بأن الحادثة التي يشهدونها هي من صلب الواقع، ليست مزيفة ولا مفتعلة، وبذلك يتم التأثر من هذه الوجهة، بين العمل الأدبي وبين جمهوره، وفتور المشاعر بإزاء الحادثة المسرحية والقصصية، مثلما تثور ازاء الاحداث الواقعية، بل أكثر لأن الأحداث في الحياة قد لا يتسنى للمشاهد أن يراها كاملة، مترابطة، موحدة في موضوع وفي حيز من المكان والزمان.

فيما هو في القصة المسرحية، أو المروية، يشاهدها، أو يطالعها، منسوجة نسجا عبقريا بمقدماتها وتشابكاته ونتائجها، لا تشتت فيها ولا تباطؤ، خالصة من الهوامش المبتذلة أو العارضة التي تعلق عادة بأحداث الحياة، وتمتد بها أحيانا أزمنة تطول أو تقصر، وامكنة تتباعد أو تتقارب، فلا يستطيع، من جراء ذلك كله، أن يكرس انتباهه لتتبع الحادثة بمثل ما يوفره له المؤلف المسرحي أو القصص، بحيث يوقفه على الحادثة الممكنة الكاملة الواحدة، في أمكنتها وأزمنتها جميعا.

ثمة من يذكر عنصرا ثالثا، بالإضافة إلى عنصري المحاكاة والوحدة الموضوعية، هو عنصر الوحدة المكانية والزمانية للحادثة، وأول من استخرج هذه العناصر أرسطو وتبعه فيها كثيرون بعده. أما حدود الوحدة الزمانية كما أقرها أرسطو للمأساة دون الملهاة، فهي أن تجري الحادثة خلال مدة أقصاها أربع وعشرون ساعة، أو دورة واحدة للشمس على حد تعبيره. أما وحدة المكان فإن أرسطو لم يشر إليها ولكن الدارسين استنتجوها من وحدة الزمان، باعتبار أن هذه المدة لا تسمح للأشخاص في تلك الأزمنة القصية، بأن ينتقلوا بعيدا عن المكان الذي تجري فيه الحادثة، وبالاستناد كذلك إلى وجود الجوقة التي تمثل الشعب أو المملكة في صلب الحادثة. إن وحدة المكان والزمان سادت في المسرح لمدة طويلة والتزمتها أعظم المسرحيات الكلاسيكية العالمية، ولقد شذّ عنها كتاب ومسرحيون كبار، وجاءت خلوا منها مسرحيات عالمية ناجحة كمسرحيات شكسبير، ومسرحيات الرومنطيقيين الفرنسيين في القرن التاسع عشر والمسرحيات الحديثة، وما تزال وحدة المكان والزمان مثار أخذ ورد حتى يومنا هذا.

إن العناصر الرئيسية التي يجب أن تتضافر في إنجاح الحادث في التأليف المسرحي ليبلغ المسرح غايته منها هي، قبل كل شيء عنصر وحدة الموضوع وترابطه وتصعيده في الحدث المسرحي، وعنصر الإيهام بوقوعه. ففيهما وحدهما يكمن سر النجاح أو الإخفاق في خلق الحادثة ونسجها. أما وحدة المكان والزمان، فمسالة لم تعد ذات شان في تقنية المسرحيات الحديثة، وقد كان وجوبها أو عدمه يتعلق بعملين اثنين: هما الوقت الذي يستغرقه العمل المسرحي أمام الجمهور، والعصر الذي تجري فيه الواقعة المسرحية. ذاك أن الحادثة التي تجري في وقت قصير نسبيا مدة نصف ساعة على سبيل المثال، لا يمكن ان تتحمل انتقالا بعيدا في حدود المكان والزمان من غير أن تؤدي في جانب من الجانب عملية الأيهام بالواقع، تلك التي لا يكون المسرح ب دونها مسرحا ناجحا. كذلك حين تجري الحادثة المسرحية في عصر بعيد لم يعرف وسائل النقل السريعة، وجب أن تلتزم وحدتا الزمان والمكان، حفاظا على مقايسة الواقعة المسرحية بواقع عصرها من كل الوجوه، هذا بالأقل إذا كانت الأعمال المسرحية من نوع القصص الواقعية، أما إذا كانت من النوع الذي تداخله الأسطورة والخوارق فلا ضابط عندئذ يستند إليه الكاتب لالتزام الوحدة الزمانية والمكانية. فله أن يفعل أن شاء وله أن لا يفعل إن أراد، شرط أن يبدع ملتزما في كل حالة وحدة الموضوع وإمكان حدوثه فضلا عن أهميته بين المواضيع المصيرية والإنسانية.

هذه باختصار بعض مقتضيات خلق الحادثة المسرحية، ولا حصر لموضوعاتها التي تعج بها الحياة الحاضرة والماضية، فما على الكاتب إلا أن ينتقي ويحبك فنيّا، أو يبتدع  مخيلته على غرارها ما شاءت له مخيلته  أن تبتكر، وتبدع شريطة أن يتوخى دائما إمكان تمثيلها على مسرح أمام الجمهور وأن لا يتجاوز قاعدة الإيهام بالواقع ومطابقته، وأن يثير الاهتمام بأبرز قضايا الانسان ويجيد تكثيفها وتركيزها على أدق جوانب تلك القضايا وحركتها وصيرورتها وتناقضاتها في إطار الواقع التاريخي وواقع الوعي الذي يقابله في ذهنية الأشخاص ونفوسهم ضمن هذا الواقع.

 وفي الكتاب، أيضا، عن الأديب القصاص فهو لا يتخلى تماما عن أشخاص قصصه، بل يظل يلاحقهم بالتريف والاشارة والوصف الداخلي والخارجي لأعمالهم على أن الأولوية ليست لهم أي لحركتهم ولسلوكهم النفسي والطبيعي في إطار الحادثة وجوانبها الصراعية وليست له، أي ليست للكشف عن ذاته الشخصية وانفعالاته الخاصة بإزائها. إنه لا يختفي كليا عن نظر القارئ وسمعه إلا حين يواجه الأبطال بعضهم بعضا في حوار. فالحوار وحده يستر الكاتب سترا كاملا واذا كانت المسرحية تتم حادثتها بالحوار من ألفها إلى يائها فإن المؤلف المسرحي مطالب بأن يخلق أبطاله بحسب ما تقتضيه ظروف الحادثة، وبحسب ما يعرف من طبائع الناس المختلفة، وبحسب ردود فعلهم النفسية؛ فأشخاص الرواية المسرحية جزء لا يتجزأ من تلك الوحدة الموضوعية العضوية، التي سبقت الإشارة إليها، حين تناولنا الحادثة المسرحية بالكلام فهم جزء منها لا يتجزأ. بهم تحيا وبها يسعون، وعلى نفخ ريحها تسير أشرعتهم إلى حيث تحملهم الريح، كلّا إلى شاطئ، بمقتضى طبائعهم وعقائدهم ومنطلقاتهم النفسية والإيديولوجية وتفاعلها الجدلي مع الحادثة.

والكاتب المسرحي ملزم في كل ذلك أن يتناسى ذاته الخاصة وشخصه ليخلق شخصياته وينطق بلسانهم وهو ملزم بأن ينطلق من شخصه واختياراته وملاحظاته الدقيقة للناس والحياة حتى يستطيع أن يخلق أبطاله أحياء واقعيين.

إن المؤلف المسرح والقصاص في هذا الأمر سواء، على أن مهمة المسرحي أشق، وطريقته أصعب وأبعد، لأن أشخاص المسرحية وحدهم يسعون ويتكلمون، بلا وسيط أو مرشد، مواجهة للجمهور، وهكذا يجب أن تكون عبقرية الكتاب المسرحيين الذين يعتبر عملهم أرفع الأعمال الفنية في الادب لأنه الخلق العملي الأكبر والأوسع والأدق والأبعد من إطار الرؤى الذاتية المغلقة إلى مواقف تتطلب خلق (السوي) ابتداء من (الأنا) وتستدعي الغيرية الذاتية.

إذن هناك فرق بين النص القصصي وبين النص المسرحي؛ فالمسرحي نص قصصي حواري مصاحبا بمناظر ومؤثرات.

 كما ذكرت في البداية هناك جانب مكتوب وجانب تمثيلي الذي ينقل النص المكتوب إلى مشاهدة حية على الخشبة بعناصر المسرحية التي تتكون من البناء والحوار والصراع، وكذلك العناصر المشتركة بين المسرحية والقصة التي تتمثل في الحدث والشخوص والفكرة والزمان والمكان. أيضا الحوار المسرحي الذي يعتبر هو العملية  الأدبية في البناء المسرحي، أما بقية العناصر التي ذكرناها فخارجة عن نطاق الإبداع الأدبي بالكلمة، لذلك في الكتابة المسرحية يجب توفير الحبكة فهي العنصر الأساسي في الأجزاء والكيفية الذي تحدث عنها ارسطو في كتاب فن الشعر في معرض تحليله لتركيب المأساة اليونانية والمقصود بالحبكة هو التنظيم العام للمسرحية ككائن متوحد إنها عملية هندسة وبناء الأجزاء المسرحية وربطها ببعضها، بهدف الوصول إلى تحقيق تأثيرات فنية وانفعالية معينة.

وعلى هذا فكل مسرحية حتى لو كانت عبثية لا تخلو من الحبكة أي من الاشتمال المرتب على شخصيات، واحداث ولغة، وحركة، موضوعة في شكل معين. ومن ثم فإن الحبكة لا يمكن فصلها عن جسم المسرحية إلا نظريا فقط لأنها هي روح العملية الدرامية. والحبكة المسرحية أو العقدة في المفهوم الارسطي لها بداية، ووسط، ونهاية، والاتصال بين حادثة وأخرى ينبغي أن يُبنى على المعقولية والاحتمالية، وإلا كانت المسرحية غير مترابطة وبها خلل بنياني.

إن الفنية الجمالية في الأدب المسرحي تستكمل عناصرها، باستكمال عناصر النجاح في حبك الحادثة وخلق الأشخاص وبناء الحوار كما ذكرنا وبهذا يرتفع البناء المسرحي شاهقا بين أبنية الفن الأدبي وسائر الفنون الجميلة الأخرى.

إن الأدب المسرحي عمل معد قبل كل شيء ليمثل لا ليقرأ. وكل أدب مسرحي لا يمثل بنجاح ليس أدبا مسرحيا ناجحا، قد يصح أن يكون أدبا قصصيا رائعا بأسلوب الحوار المسرحي ولكنه ليس أدبا مسرحيا أصيلا بحال من الأحوال وإن تزيا بزيه. إن محك الادب المسرحي هو التمثيل لا القراءة، القراءة محك الأدب القصصي، لأنها واسطة غير مباشرة إلى تمثل شخصي تخيلي للأبطال والأحداث لا تمثيل عمل حي كما هو المسرح.

 *بعض المصدر من كتاب الفن والادب :الدكتور ميشال عاصي

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.