سعاد خليل – ليبيا
لقد كتب كثير عن المسرح والدراما، وعن نظريات رائعة واكتشافات مثيرة حول بنية ومعني الاعمال المسرحية، فكل المهتمين بالفن يلجؤون إلى الدراما كشكل للاتصال، حيث يرون أن الشكل الدرامي هو أفضل من أية وسيلة أخرى للاتصال بالإنسان.
يقول الناقد ايريك بنتلي في كتابه حياة الدراما: “إن كل شكل من أشكال الدراما له علاقته الخاصة بالجنون، فإذا كانت الدراما تعنى بالمواقف القصوى؛ فإن الموقف الأقصى لدى البشر فيما عدا الموت هو ذلك الحد الذي ينطفئ عنده نور العقل.”
وعندما نقول الجنون في المسرح، فإننا لا نعني الجنون بمعناه التقليدي المعروف؛ هذا جنون من نوع آخر درجاته تختلف حسب الظروف والمواقف والأشخاص. منذ العصر الإغريقي، كانت الشخصيات تجد نفسها تورطت لتقوم ببعض الافكار والسلوكيات الغريبة؛ فكان الجنون لعنة تصيبها الآلهة على رأس البطل التراجيدي في بعض الأعمال المسرحية؛ فالآلهة تعاقب الأبطال التراجيديين لما تعتبره خطيئة. وهذا ليس موضوع مقالنا، فهو يختص عدة جوانب للفعل الدرامي.
في كتاب تشريح الدراما لمارتن اسلن، ضمن فصل الوهم والواقع، يقول:
“الدراما أو المسرح عمل إيمائي تقليد للعالم الواقعي باللعب، بالادعاء. والدراما التي نراها في المسرح وعلى شاشة التلفزيون والسينما هي وهم دقيق الصنع. ومع ذلك، فمع مقارنتها بالفنون الأخرى المنتجة للوهم، فإن الدراما بوصفها نصًا دراميًا يُمثَّل تتضمن أعظم عنصر الواقع.”
يقول الكاتب عند مشاهدة لوحة، إنها تقدم وهمَ منظر، أو بيت، أو شبيه بالكائن البشري على شكل رسم، والعناصر الواقعية الوحيدة التي تتضمنها هي الألوان وقماش الكنفا. المسرحية بدورها تقدم وهمًا، مثلًا: هاملت وهو في قلعة السينور لكن هاملت هنا. الشاب الواقف على خشبة المسرح، والذي مات قبل وقت في مسرحية عطيل باعتباره شخصية تاريخية، ولعله لم يوجد أبدًا وإنما هو محض اختلاق من خيال كاتب المسرحية، يصوره شاب، الممثل الذي هو شاب بحق، وها هو جالس على كرسي والكرسي حقيقي. أما الافتراض بأن ذاك الكرسي موجود في قلعة دانماركية قبل قرون مضت فهو الوهم المطلوب منا أن نقبله لكن الكرسي كرسي في كل الاحوال.
وعليه فإن الدراما أثناء أدائها وكنقيض لكل الفنون المنتجة للوهم يمكن القول أنها تحتوي نسبة أكبر من الواقع. إذًا، المميزات الرئيسية للدراما وإحدى مفاتيحها الرئيسة هي المسرحية، وهي تُؤدّى تكون دمجًا لما هو خيالي محض؛ فنتاج خيال الكاتب حالما يثبت يصبح، وإلى الابد بهذا المعني حرفًا ميتًا مع عنصر من الواقع الحي للممثلين ولملابسهم، وللأثاث المحيط بهم، وللأشياء التي يتعاملون بها كالسيوف والمراوح أو السكاكين الخ. إن كل أداء لمسرحية حدثت قبل قرون مضت يمكن مشاهدتها على هذا الأساس كعملية انبعاث، فالكلمات والأعمال الميتة يعاد تجسيدها بالحضور الحي للممثلين. ولا عجب أن تقول اللغة المسرحية عن تقديم مسرحية قديمة أنه احياء لها.
في الدراسة الاكاديمية الصرفة للدراما، يتركز الانتباه وبشكل طبيعي تمامًا على العنصر الأكثر سهولة في التناول للدراسة: النص، المسرحية كأدب، أما نوعية العناصر الأخرى، كالأداء، والاضاءة وسحر الممثلين، فهي اشد مراوغة بكثير، وقد ضاعت تقريبًا قبل إختراع التقنيات، ومع ذلك، هي العناصر التي تلعب الدور الحاسم في جذب الجماهير إلى المسرح أو مشاهدة السينما أو التلفزيون، والتي يتضح أنها – إذا حللنا تأثير التجربة المسرحية في المشاهدين – السبب في المتعة الكبرى التي يستمدها المشاهد من التجربة المسرحية.
من هذا الجانب، في المسرح الحي، إن دمج عنصر ثابت (النص) مع عنصر متدفق (الممثلون) هو ما يجعل كل اداء للعمل قطعة فنية قائمة بذاتها، حتى ضمن عرض طويل الأمد لمسرحية واحدة بنفس طاقم الممثلين، والمناظر والإضاءة الخ. ولو أخذنا مثالًا، المسرح الصيني الكلاسيكي، حيث كل النصوص القيمة معروفة لدي المشاهدين، وهي ايضًا طويلة جدًا – لذا لا تمثل الا مقاطع من النصوص الكاملة – نجد المشاهدين الذين يتقبلون النصوص جدلًا يأتون أساسًا ليشاهدوا كيف سيؤديها بعض الممثلين المعنيين. بنفس الطريقة في تجسيد الدراما الكلاسيكية كنصوص شكسبير، نرى أن حكم المشاهد على الممثلين لأنه مهتم برؤية كيف يختلف اداء ممثل لأخر.
’’الدراما التي تنبض بالحياة والتي تنتج عن العقل والعاطفة والخيال هي التي يحتاجها المسرح الحي’’
إن المهمة الاساسية لبنية الدراما هي استخدام أبسط العبارات وأقربها للفهم، هذا بالنسبة لمن يهتم بتقديم أي نوع من الدراما ولأي جمهور كان، لجذب انتباهه وشده طوال المدة المطلوبة. لتحقيق هذا الغرض، لينا تحقيق الأهداف العليا الأرفع منزلة: ايصال الحكمة والبصيرة، الشعر والجمال، التسلية والاسترخاء، التنوير وتطهير المشاعر. إذا فشلنا في جذب انتباهه يعني أخفقنا في جعله يركز على ما يحدث، على ما يقال، فيضيع كل شيء.
إن خلق الاهتمام والتشويق هو اساس كل الصرح الدرامي. يجب إثارة التوقعات ولكن يجب أن لا يتم تحققها تمامًا إلا مع اسدال الستارة الأخيرة؛ يجب أن يبدو كأن الحدث يقترب من الهدف لكن دون أن يبلغه تماما قبل النهاية؛ وفوق كل ذلك، يجب أن يتوفر باستمرار تنوع في الوزن والايقاع، والرتابة من أي نوع جديرة بأن تصرف الانتباه وتغري بتسرب الملل والنعاس.
أما الاهتمام والتشويق لا تخلقهما بالضرورة أدوات الحبكة فقط. على سبيل المثال، نأخذ بداية الباليه نجده بلا حبكة، يكفي جمال الراقصين لإثارة الاهتمام وتوقع المشاهدين برؤية سلسلة كاملة من الخطوات توفر إثارة كافية لتعزيز التركيز لمدة طويلة. هناك أنواع كثيرة من التشويق: قد يكمن التشويق في سؤال مثل ما الذي يحدث بعد ذلك، لكنه قد يوجد أيضًا في سؤال (أنا اعرف ماذا يحدث ولكن كيف؟ أو أنا أعرف ماذا يحدث ولكن ما هي ردة فعل على ذلك؟) وقد يكون من نمط مختلف تمامًا. ما يهمنا من عنصر التشويق هو السؤال الأساسي في وقت مبكر جدًا في شكل درامي، بحيث يتمكن المشاهدون كما يحدث عادة، عن وضع يدهم على عنصره الرئيس في التشويق. كل العروض لها عدة توقعات من المتلقي؛ من ناحية أخرى، لا يكفي عنصر تشويق رئيس واحد لشد انتباه النظارة على امتداد مسرحية كاملة على ذاك القوس.
في كتاب تشريح الدراما، يوضح لنا الكاتب أن أي مشهد أو قسم من الحدث المسرحي يحتاج إلى عنصر تشويق، يركب على الهدف الأساس أو على الزخم المثير للمسرحية كلها. يجب على المخرج والممثلين في أية مسرحية كانت أن يعوا هذه الاهداف الرئيسية الاستراتيجية والثانوية أي التكتيكية داخل المشهد التي يتعايشون فيه معًا ويتشاركون في دعم بعضهم بعضًا.
هناك عنصر تشويق ثالث، وهو محلي محض مصغر في أية لحظة من أية مسرحية متقنة التأليف، نستطيع تسميته التشويق المصغر لمسار الحوار أو لتفصيل صغير في عمل ما يكون الممثلون منغمسين فيه في تلك اللحظة. التشويق حدث رئيس يعتمد على وجود حلين على الاقل للمشكلة الرئيسة في المسرحية: هل سيتم اكتشاف المجرم أم لا؟ هل سيتزوج الفتي الفتاة ام لا؟ والتشويق في كل مشهد يجب ان يعتمد تشابهًا على نتيجتين نعم أو لا. إن التشويق في أصغر الوحدات المكونة للحوار أو للعمل يجب ان يتألف بالتالي من عدة اجوبة محتملة لكل سؤال مفترض أو تقرير يصرح به في الحوار، أو تجاه أي أداء مسرحي أو حتى في الايماءات التي تظهر في تشكل المشهد.
إن التنبؤ هو موت التشويق وبالتالي للدراما. الحوار الجيد لا يقبل لتكهن. والأسطر التي لا تظهر إلا الأجوبة المتوقفة، والايماءات التي تتطبق مع ما نقل لتنبئ بوسيلة أخرى، هي ميتة ويجب الغاؤها.
هناك كتاب عظام مثل: شكسبير ونويل كوارد واوسكار وايلد. هم عمالقة في كتابة المسرحيات؛ وهذا تعبير آخر لمعني عصيانهم على التوقع وامتلاكهم لعنصر المفاجأة، وبهذا يركز الحوار الذي يخدم الهدف التكتيكي المباشر للمشهد أو المقطع المعطي، دعامة ثالثة، عنصر تشويق ثالث: إن كل تركيبة مفاجئة، كل لباقة في التعبير، كل لمحة ذكاء أو صورة لفظية أصيلة تساهم لصالح الحوار وتحافظ على عنصر المفاجأة فيه، وعلى شد الانتباه.
هذا نجده أيضًا في الدراما السينمائية والتلفزيونية من خلال تخلقهما حركة الكاميرا والبراعة البصرية، والمتع التصويرية تؤدي نفس العمل بالضبط. الكلام نفسه يصح حول تعابير الممثلين وحركاتهم على خشبة المسرح وعلى شاشة السينما؛ يصبح ما يبدو مجرد سطر ميت مفعمًا بالتشويق من خلال نظرة غير متوقعة يرميها أحد الممثلين، إلى آخر وميض يسطع في عيونهما.
إن المسرح فن وشكل وصور متعددة. لقد أصبح المسرح يتطور من الداخل وينبع من البيئة مثلما يصل فيها.
أقول إن الدراما والمسرح شيئان إثنان ينبغي أن يكونا شيئًا واحدًا؛ ووحدتهما هي التي تؤدي إلى وجود فن مسرحي على الحقيقة، وليس امرًا يسيرًا خلق ذلك التزاوج بين الدراما والمسرح، فيجب ضرورة توحدهما معًا لأن أحدهما بدون الآخر لا يتسنى له وحده خلق الفن المسرحي الذي ينبض بالحياة.
نعود إلى كتابنا تشريح الدراما، وإيقاظ وشد انتباه النظارة، من خلال التوقع والاهتمام والتشويق – كما ذكرت – أكثر جوانب البناء الدرامي بدائية وعادية وأكثر مشاكل الشكل تعقيدًا ودقة تقوم على هذا الأساس. يمكننا أن ننظر للمسرح أيضًا أنه رياضة للمشاهد. عند متابعة ممثل عظيم جدًا؛ نرى أنه باستمتاعه الواضح بالنواحي الجسدية من التمثيل وهو يتعامل مع أدواته والتلاعب بصوته وجسده إنما يهدف إلى التأثير في المشاهد. إن الممثل هو حجر الأساس في الدراما وسيبقي كذلك دائمًا.
إن عنصري الواقع والوهم إنما يجتمعان في الممثل، وقد أعطينا مثلًا في أعمال شكسبير حيث الممثل يعطي خيالًا إضافيًا وابتكارًا شاعرياً جديدًا بتعابير الوجه والجسد والإيماء والحركة وتموجات نبرة الصوت والتوقيت، وهذا يختلف من مسرحية إلى أخرى؛ فهناك عمل مسرحي ثمة شعرًا فيه إلى جانب شاعرية خاصة بالمسرح، والشاعرية في المسرح هي اللغة الشعرية التي يبتدعها الكاتب المسرحي، لكن أغلب شاعرية المسرح تنبع من مكان آخر غير النص: من نظرة، دخول، وقفة صمت… إلخ. وهي في الأغلب إبداعات الممثلين والمخرجين.
الدراما التي تنبض بالحياة والتي تنتج عن العقل والعاطفة والخيال هي التي يحتاجها المسرح الحي، الذي يستطيع أن يمثّل ويعبر ويرقص ويغني ويفعل كل شيء. تفسير ذلك فنيًا وتاريخيًا أن الدراما نبعت من التراجيديا الإغريقية النابعة بدورها عن الشعائر الديونيزية، التي كانت دينية وموسيقية، ولكنها كانت في الوقت ذاته مسرحية بكل ما في هذه الكلمة من معني.