السينما: البدايات والأفق المفتوح

ورشة فن - سينما

0 208

عبيد لبروزيين – المغرب

          أعلن رولان بارت في عشرينيات القرن الماضي عن ميلاد عصر الصورة، عصر يفكر بواسطة الصور المتلاحقة التي لا تكف عن التدفق، ومنذ إعلان ولادة العصر الجديد إلى كتابة هذا المقال 2024، جرت مياه كثيرة تحت الجسر، إذ أصبح العالم تشكله الصور، بل أضحى الوجود برمته صورا لا تكف عن الظهور دون قدرة على الاختفاء والأفول، والصورة هنا باعتبارها إبداعا زاحمت الأدب والمسرح إلى أن أصبحت مهيمنة على مختلف مناحي الحياة.

          وقد كانت السينما بمفهومها الواسع مجالا من مجالات الإبداع بواسطة الصورة، الأمر الذي يستوجب فهم البدايات، البدايات التي كرست واقعا جديدا من تاريخ ظهور الفن السينمائي، وهي المنطلقات التي نحاول من خلالها فهم الأفق المفتوح لتطور معالجة الصور وتوليفها في خطاب إبداعي حديث نسبيا، لاسيما في العالم العربي.

الأمر الذي أدى بالباحثين إلى الاختلاف في تعريف السينما، لأنها جزء تتشكل منه كل الأجزاء، فتقدم على أنها “ظاهرة علمية، تقنية، فنية، تاريخية، اجتماعية، اقتصادية، سياسية، لكن ينظر إليها ككتلة واحدة”[1]، بينما يعرفها كيفن جاكسون بأنها “فن وصناعة إنتاج الصور المتحركة”[2].

غير أن السينما ليست تقنية أو صناعة أو فنا فحسب، بل يرى البعض أنها جنس أدبي، وهو ما قد يبدو مغالاة، إذ اعتبر الباحثون “السينما في حد ذاتها أدبا إلى جانب كونها آلة وتقنية، وكلما خدمت الآلة إنتاجا أدبيا جيدا كلما خلق ذلك تكاملا فنيا في التعبير عن واقع الشعوب وثقافتها وتاريخها”[3].

ولعل المشترك بين التعريفات التي قدمناها سلفا، أو التي اطلعنا عليها دون ذكرها، هو الاتفاق على تقديم السينما باعتبارها فنا وإبداعا مثلها مثل باقي الفنون الفرجوية التي تعتمد على المشاهدة، وهو ما كان يسعى إليه النقاد والمنظرون منذ بداياتها الأولى، نظرا لكون السينما اقترنت بالترفيه والتسلية أكثر من ارتباطها بالفن والإبداع. كما ارتبط الفن السينمائي بمفهومي “الصناعة” و”التجارة”، الأمر الذي جعل النقاد يصفون الأعمال السينمائية التي تهدف إلى الربح بالسينما التجارية في مقابل سينما المؤلف التي تتضمن رؤيا المخرج  للعالم، والتي تهتم بالجانب الجمالي دون اعتبارات ربحية.

السينما باختلاف أشكالها وأنواعها فن فرجوي يقدم للجمهور فيلما بواسطة الصور، يعني حكاية تتكون من متتاليات من الصور في حركة معروضة على الشاشة، ويرافقها في معظم الأحيان جهاز الصوت (في بدايات السينما)، إنها فن شعبي (الانتشار في المجتمع) وتسلية وصناعة وإعلام، وقد أطلق عليها الناقد ريكتو كانودو Ricciotto Canudo الفن السابع في العشرينيات[4] من القرن الماضي. هذا الفن الذي يختلف تعريفه بين الأجيال وحساسياتها الجمالية.

        السينما شكل من أشكال الخطاب الذي يتكون من عناصر تميزه عن الخطابات الأخرى، وهذا التداخل هو ما يبرر اختلاف تعريفها، غير أني أحب أن أقف مع القارئ عند تمثل السينما في الثقافة العربية من خلال تعريف خالد الخضري الذي يقول: “الفن السينمائي كسائر الخطابات الحكائية، بنية تصويرية دالة.. تشكل عالما ذا كينونة خاصة تتلون فيه الأمكنة والأزمنة والشخصيات الرئيسية والثانوية والأحداث والحوارات.. هذا العالم الذي يبلور الواقع الذاتي والموضوعي الاجتماعي والتاريخي، هذا الواقع الذي يعني تلاحم السينمائي المتخيل بالتجربة الحياتية المعيشة”[5]. وهو التعريف الذي يتساوق مع الأجناس الأدبية التي تتقاطع مع طرق الإبداع السينمائي، والذي كرسته السينما المصرية في العالم العربي.

وقد انعكس الاختلاف في تعريف السينما على تفرعاتها الخاصة، إذ نجد تعريفات لما أطلق عليه سينما النوع، مثل سينما المؤلف التي سبقت الإشارة إليها، والتي تعرف على أنها “سينما الفن والجمال والإبداع، تحمل أطروحات المخرج أو كاتب السيناريو تجاه الأحداث المعروضة. أي إنها سينما ذات بعد ثقافي تعطي الأولوية لما هو فني وجمالي وتقني على حساب ما هو تجاري ومادي”[6].

ويمتد هذا التصور الخاص ليشمل أنواعا أخرى من السينما مثل “سينما الرعب” أو “سينما الخيال العلمي”، والمدرسة الفنية كـ”سينما الواقعية الجديدة” أو “السينما الطليعية” وحسب التقنية “السينما الصامتة”. وكلها تجعل السينما عصية على تعريف جامع أو تصور موحد لهذا الخطاب الذي يتطور بتطور العلوم المرتبطة به.

الأمر الذي يجعل مفهوم السينما يثير عدة اختلافات قائمة على قناعات الباحثين والدارسين وميولاتهم الفنية، فهناك من يرفض هذا الفن الذي اتسع تأثيره في العالم بشكل حد من فعل القراءة، وهناك من يعتبره امتدادا لفعل القراءة.. واستشعارا لأهمية الخطاب السينمائي ودوره في المجتمع، أصبحت دول كبرى تخصص له ميزانيات ضخمة لتجسد أفكارها وآراءها، أو لتؤرخ ماضيها بواسطة الصور الفيلمية.

    ويمكن أن نجمل أهم التعريفات المتعلقة بالسينما فيما يلي:

  • وسيلة للتعبير الفني والجمالي.
  • وسيلة للتثقيف والتربية.
  • وسيلة للتجارة.
  • وسيلة للترفيه والتسلية

       وهي تعريفات ترتبط بتشكّل مسار الخطاب السينمائي عبر مراحله المختلفة، حيث تبدأ المرحلة الأولى بالتقنيات البسيطة لتحريك الصور إلى مرحلة السينما ثلاثية الأبعاد في عصرنا الراهن، فكيف هيمنت الصورة السينمائية على حياتنا؟

بدأت الحكاية “في اليوم الثامن والعشرين من دجنبر 1895م، حيث قام الأخوان لوميير – لوي وأوغست- بتقديم أول عرض سينمائي، وكان ذلك بالمقهى الكبير بباريس”[7]، لتعتبر هذه التجربة إعلان ولادة الفن السينمائي من خلال قاعدة تحريك الصور، وهو ما أثار اندهاش الناس مدة من الزمن بعد الاختراع الكبير الذي حققه الأخوان، وبهذا الإنجاز ولدت السينما تدريجيا في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر نتيجة تطوير فن التصوير الفوتوغرافي.

لقد أسهمت هذه الاختراعات في مجال البحث السينمائي التي تعنى بالوهم البصري في ظهور الفيلم، ولعل أهمها ما جاء به جوزيف أنطوان بلاطو  Joseph Antoine Plateau، إذ في “سن الثامنة والعشرين طبق على نفسه تجربة المقاومة المحدودة لشبكية العين. حيث ركز بصره ذات يوم صيفي على الشمس في منتصف النهار، طيلة خمس وعشرين ثانية، حتى أشرف على العمى”[8]، فكان يرى صورة مدة من الزمن، ومن هنا جاءت فكرة الوهم البصري.

وتوالت التجارب بعدها محدثة طفرة نوعية استفاد منها الأخوان لوميير، حيث قام إميل رينو Émile Reynaud (1844-1918م) “باختراع البراكسينوسكوب وهو جهاز يبث رسوما متحركة… ثم أنشأ عام 1888م (المسرح البصري) وبقي عليه أن يحدد الوسيلة التي تمكن من إعادة تشكيل الحركة باستخدام الأشرطة الفوتوغرافية”[9]، وهو ما لم يتأت له، بالرغم من أن المحاولات قبله لخلق صور متحركة توحي بالحركية، إذ “في سنة 1876م قام  Eadweard Muybridge بوضع 12 كاميرا لتصوير حركة حصان أثناء العدو، واخترع جهاز zooprasciscope الذي يعيد تركيب الحركة”[10]، وهناك مصطلح سيطلق على هذه المرحلة بكاملها أي ما قبل 1895م، وهو ما يعرف عند الفرنسيين بـماقبل السينما précinéma.

           كل هذه الأبحاث جاءت منذ أن “استطاع رجل فرنسي يدعى (جوزيف نيسيفور نيبس) ـ الذي حجب اسمه الصعب باسم شريكه اللاحق أويس داغور نظرا لأنه اسم حسن الوقع على الأذن- أن يبتكر صورة فوتوغرافية أولية ولكن دائمة في الوقت نفسه”[11]، فكان اكتشاف التصوير الفوتوغرافي هو اللبنة الأساسية لظهور السينما.

          ومنذ 1895م، أي بعد عرض الأخوين لوميير في المقهى الكبير ستنتشر السينما محدثة ثورة عظيمة في فنون الفرجة، و”سيجيء (جورج ميليس  George Miles) (1861-1938م) الذي سيبتكر الفن السابع، سيخترع كل شيء: الخدعة السينمائية، السيناريو، السينما الهزلية والخيالية. ويعتبر فيلمه “رحلة إلى القمر” من أول الأفلام الكلاسيكية العظمى”[12].

لقد تطورت السينما بشكل كبير بعد الإضافات التقنية لجورج ميليس، وإليه يرجع الفضل في تطوير الخطاب السينمائي الذي استفاد من التطور التكنولوجي، وقد أدى انفتاح السينما على العلوم إلى ظهور الألوان سنة 1935م، وأخذت أشكالا جديدة حسب وسائل الإنتاج المعتمدة، لأن الاختراعات التكنولوجية الجديدة سمحت للتقنية من تطوير أساليب الاشتغال التي أعطت ولادة سينما تجريبية تمتح من التاريخ والأسطورة والأدب والإيديولوجيا…إلخ، إضافة إلى ابتكار طرق جديدة في تركيب الصور، ورغم تضافر مجهودات مختلفة في إبداع الأفلام إلا أن الفيلم السينمائي يبقى “رؤية شخصية لمبدعها الرئيسي: المخرج”[13].

يضم تاريخ السينما أحداثا كثيرة ومهمة أسهمت في ظهورها وبلورتها، غير أني فضلت الاختصار في الجانب التاريخي، رغم أهمية هذه المرحلة التي تعد من المراحل الأولى لولادة السينما، والتي بشرت بدورها بعالم تهيمن عليه الصورة.

يتبع…

[1]–  L’encyclopédie roger boussiment du cinema, A-E. bordas, paris 1989, P 515.

[2]– كيفن جاكسون، السينما الناطقة، احياء لذكرى تشارلزكادن 1928 1996 ترجمة ع لام خصر، منشورات وزارة الثقافة المؤسسة العامة للسينما في الجمهورية العربية السورية، دمشق 2007، ص: 86.

– خالد الخضري، موقع الأدب المغربي من السينما المغربية، مكتبة المعارف للنشر ةالتوزيع، ط 1، 1989، ص: 101.[3]

[4] Fr.wikipedia.org/wiki/cinéma 15/07/2012 11 :28

[5] – خالد الخضري، موقع الأدب المغربي من السينما المغربية، م س، ص: 19.

[6] – جميل حمداوي، مدخل إلى السينما المغربية، من السينما الوطنية إلى السينما الأمازيغية، مكتبة المعارف، ط 1، 2010، ص: 183.

[7]– موسوعة المعارف الحديثة، أشرف على إخراج الطبعة العربية لهذه الموسوعة عبد القادر وساط،  ترجمة المجلد الثاني محمد الشركي، ومبارك وساط، وعبد  القادر وساط، ومصطفى الهاشمي، وعبد الحق بالقاضي، منشورات عكاظ 1998، ص: 84.

– موسوعة المعارف الحديثة، ص: 84.[8]

– نفسه، ص: 86.[9]

[10] Fr.wikipedia.org/wiki/cinema 15/07/2012 11:28

– كيفن جاكسون، السينما الناطقة، م س، ص: 8.[11]

– موسوعة المعارف الحديثة، م س، ص: 87.[12]

[13]-David Bordmell, l’art du film une introduction, de boek, 18/vovembre, 1999, P 637.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.