كيف يقرأ العامّي السعودي الفن..السينما نموذجًا

ورشة فن - سينما

0 229

صنيتان بن وافي – السعودية

أود أولًا أن أسجل إعجابي بالطريقة التي يتلقى بها عامة السعوديون الفن، وهي طريقة نادرة الوجود في عالمنا اليوم، وتعبّر في أصلها عن ذكاء فطري لا ينقصه إلا من يكشف عنه ويحلله، وهذه المقالة هي محاولة أولى لتحقيق تلك الغاية:

لقد درجتْ البشرية منذ بدء الخليقة في التعاطي مع الفن باعتبار أنه تصورٌ إبداعيٌ تتجسد من خلاله صورًا للكمال الأخلاقي، وكانت معاناة البطل (الفني) الذي يتماهى معها الإنسان في أغلبها معاناة في سبيل” الُمثل العليا“، فكان الجمال من هذا المنطلق يدور وجودًا وعدمًا مع الأخلاق، فليس جميلًا إلا ما كان أولًا وبالضرورة متوافقًا مع الخلق الرفيع.

كانت الأمور تسير على هذا النحو سيرًا دائبًا عبر التاريخ، حتى اختلّ هذا الميزان في منتصف القرن الماضي وبرزت نماذج للفن كان من نتاجها أن فصل العقل (الغربي تحديدًا) بين ما هو جمالي وما هو أخلاقي، الحالةُ التي أورثت انفصامًا بين ما يُعبّر عنه جماليًا وما يُعبّر عنه أخلاقيًا.. ونظراً الى أن الإنسان بطبيعته يرفض الانفصام ويميل الى الاتساق اضطرهم هذا المسلك في نهاية المطاف الى الوصول الى النتيجة التالية: وهي أن الأخلاقي أصبح تبعًا للجمالي وليس العكس.

هذا الأمر لم يحدث مع السعودي (العامي) الذي ما زال متحفظًا بقدرته الفطرية في معيَرةِ الفنّ والنتاج البشري ككل وفق منظومة الأخلاق، فلا فرق عنده بين ما هو جمالي وما هو أخلاقي، فكلاهما يحكم على العمل الفني وفق تراتبية يتسيّدها المبدأ الأخلاقي بلا منازعة. إن السعودي إذ ينظر للفن، ينظر إليه باعتباره منضويًا تحت المظلة الأخلاقية، وتقييمه الجمالي يأتي دائمًا تبعًا للتقييم الأخلاقي، فلا تقفز ذهنيته إلى النظر في الشكلية الجمالية حتى تتحقق أولًا من الملاءمة الأخلاقية.. وهذه حالة فطرية تلقائية غير متكلفة. فليس مهمًا مقدار ما يوضع من (جماليات) في الصورة، ومن عاطفةٍ في الموسيقى، ومن روحٍ جيّاشة في التمثيل. كل هذا استثناء، فالأصل هو القيمة الُمعبَّر عنها من خلال كل ذلك، عمّا تعبر؟ (هذا هو السؤال الأول)، فلا يمكن للجمهور أن يتقبل – فضلًا عن أن يتعاطف – مع شخصية أو مشهد خارج عن المنظومة الأخلاقية العليا، مهما أحيط بـ“جماليات“ أو تزويقات من أي نوع.

وربما كان من نتاج ذلك أن السينما السعودية لم تنجح الى الآن إلا في سياق الكوميديا باعتبارها في معظم أحوالها بيئة آمنة لا يُمسّ فيها الجانب الأخلاقي، على خلاف السينما (الفنية) التي يتكلّف فيها الفنانين إبداع شيء خارج السياق الأخلاقي فيقعون في إشكالات عدة، وسبب ذلك في رأيي أنهم لم يدركوا بعد إمكانية تحقيق نماذج فنية رائدة لا تتعارض مع المنظومة الأخلاقية وهذا ناتج عن الافتقار إلى التحليل النقدي والتدقيق النظري.

فالأرضية الأخلاقية بطبيعتها أرضية خصبة (بل هي أكثر الأرضيات خصوبةً على الإطلاق)، فليس بإمكانك فقط أن تُخرج منها نماذج مقبولة فنيًا وإنما بإمكانك أن تنتج أعمالاً فنية رفيعة وغير مسبوقة عالميًا. كلامي هذا لا يعني – كما قد يعتقد البعض – الدعوة إلى أن يكون الفن تدريسيًا توعويًا، ولكن ما أرمي إليه هو أن يراعي الفنان أن يتلاءم محتواه مع منظومة الأخلاق حتى يمكن استقباله من منظور الجمال، وإلا فالنتيجة معروفة جماهيريًا ونقديًا.

إن روح السعودي شجاعة، ناقدة بفطرتها، لا يؤثر فيها تزويق اللفظ، ولا مكيجة الصورة، ولا الترنحات (الفنية) للكاميرا وإنما تعامل المشهد بالفن بصرامة نقدية فطرية ودقيقة لا يغفلها ولا يستهين بها إلا مُكابر.

ولذا فإني أرى أن التعاطي بجدية مع المعيار الأخلاقي باعتباره هو في ذاته أصلُ المعيار الجمالي، وأن التناغم – وهو من مستهدفات الفن – لا يتحقق إلا من خلاله هو الذي سيضمن لنا أن نذهب بعيدًا، وهناك فقط ستتحقق لنا نماذج جمالية فريدة كل الفرادة، غير مسبوقة، لا مقلدة، ولا مقتبسة، ولا مقبوحة، بعبارة واحدة: أصيلة.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.