السينما والأدب، علاقة جدلية شائكة بين التداخل والاستقلال الفني، لأن بنية كل منهما تختلف عن الآخر، لكن الواقع الفني يكشف عن ارتباط السينما بالأدب منذ بداياتها الأولى، حيث سعى صانعو الأفلام إلى اقتباس أو تكييف النصوص الأدبية مع خصوصية الخطاب السينمائي، بل كان المخرجون يعتقدون أن تحويل الروايات المتميزة إلى أفلام سينمائية باستخدام تقنيات الكتابة الفيلمية سيؤدي إلى نفس النجاح والتميّز الذي يحققه العمل الأدبي.
غير أن التجارب أظهرت عكس ذلك؛ فعلى سبيل المثال، “رغم الإعداد السينمائي الذي قام به فون شيترنبك عن رواية “الجريمة والعقاب”، يحتوي الفلم على بعض المشاهد الممتازة، إلا أن العمل بمجموعه أدنى من أعماله السينمائية الكبيرة التي كانت تستند إلى مصادر أدبية غير متميزة نسبيا أو إلى سيناريوهات أصيلة”[1].
ليس الاقتباس أو إعداد سيناريو عن رواية ناجحة يؤدي بالضرورة إلى فيلم سينمائي جيد وناجح، لأن تقنيات السينما في إظهار الجوانب النفسية للشخصيات يختلف عن إظهار نفس الجوانب في الرواية والعمل الأدبي لأن السينما تعتمد على الصورة والمشاهدة، بينما تعتمد الرواية على الرموز اللغوية.
لقد كانت السينما تتفاعل باضطراد مع الأدب منذ مراحلها المتقدمة، وحاولت أن تستعين بالطرائق الأدبية لبلورة خطاب فلمي متطور، إذ “إن المقابل السينمائي (لصوت) الرواية في الأدب هو (عين) آلة التصوير، وهذا الاختلاف مهم. في الرواية الفرق بين الراوي والقارئ واضح، فهو يشبه أن يقوم القارئ بالاستماع إلى صديق يروي له قصة، في الفيلم يقرن المشاهد نفسه بشخصية العدسة وهكذا يتجه للامتزاج بالراوي”[2].
كما أن الأعمال الأدبية التي انتقلت إلى السينما كان عليها أن تتحول إلى أشكال تتناسب وطبيعة الخطاب السينمائي عن طريق الانتقال من المجرد والمحسوس إلى أشكال مشهدية أو لها القدرة على أن تكون مرئية ومعاينة، و”من الأفلام التي تقع تحت هذا الباب فلم كوروساو (عرش الدم) الذي يحول مسرحية شكسبير ماكبث إلى قصة مختلفة تماما تدور في يابان القرون الوسطى، رغم أن صانع الفيلم يحافظ على العديد من عناصر الحبكة كما في الأصل الشكسبيري”[3].
وقد تواصلت محاولة بعض الدارسين ربط السينما بالأدب عن طريق خلق معادلات للوحدات اللغوية السردية، إذ “تستطيع السينما وحدها – دون سائر الفنون التي تستخدم الصور البصرية- أن تركب صورة شخص كأنها عبارة phrase تحتل حيزا في الزمان”[4]، الأمر الذي جعل جون كوكتو يقول: “كل الفنانين “شعراء” سواء كتبوا بالكلمات أو الصوت أو الصورة…الشاعر الفيلمي هو الذي يكتب بمداد ضوئي”[5]، هكذا يتساوى عند كوكتو الشاعر والرسام والمخرج باعتبارهم شعراء كل بلغته ومداده، وهنا تكمن شعرية الفيلم السينمائي.
ويكاد يكون الاهتمام بالأدب في السينما مرحليا، ينتعش تارة وينتكس أخرى في علاقة جدلية مستمرة، ومع مرور الزمن أصبح الخطاب السينمائي أكثر استقلالية وقدرة على التأثير والانتشار، فقد كان دائما أداة تعبير وتغيير، وإبداء المواقف من قضايا المجتمعات وفق رؤية إبداعية خاصة، حيث “أشار عدد من المؤرخين والنقاد إلى فلم ستان براكاج (ديسست فلم) على أنه نقطة تحول. صنع هذا الفيلم عام 1954م ووصف بأنه أول فلم من أفلام (البيتنيك) إذ يعكس أخلاقيات جديدة تعتمد على العفوية والاهتمام بالشباب والتأكيد على العناصر الحسية البحتة مقابل الاهتمامات الأدبية والسايكولوجية للمرحلة السابقة من الموجة الطليعية”[6].
وهكذا بقيت السينما والأدب في علاقة تفاعل وتجاذب مستمر باستلهام بعض آليات الأدب في بناء الحدث السينمائي، حيث “إن واحدة مما اعتبر من العناصر المميزة لفن التتابع والبناء الفيلمي ألا وهي (العودة إلى الماضي) flash back إنما يعود استلهامها واكتشافها كإمكانية سينمائية إلى الأدب، على ما يقر به الرائد السينمائي “جريفيث” في مقابلة معه نشرت عام 1917م حيث يؤكد على أنه استعار هذه الإمكانية من تشارلز ديكنز”[7]. يتبين أن السينما تأثرت بالأدب والرواية، خاصة في مجموعة من طرائق معالجة المواضيع رغم اختلاف الوسائل والتقنيات (تقنية الفلاش باك-الاسترجاع والاستباق…).
وبالرغم من أن السينما والأدب ظلا في تجاذب مستمر، في تأكيد لعلاقة التفاعل بينهما إلا أن البعض يفصل بينهما مثلما “يستبعد ثراكاور أيضا أغلب الأفلام المعدة عن أصول أدبية ومسرحية لأنه يعتقد بأن الأدب يهتم في نهايته “بالوقائع الداخلية” وليس الفيزيائية الخارجية”[8]. بينما كان البعض الآخر يحاول الاقتداء بالأساليب الروائية كما فعل “فون ستروهايم عندما أخرج فلمه الجشع عن رواية فرانس نوريك فقد كان يبحث عن مقابل سينمائي صوري لكل كلمة في الرواية”[9].
أما بالنسبة لعلاقة السينما المغربية بالأدب، فقد عرفت خلال تطورها التاريخي، بضعف ملحوظ، حيث انتظر الفن السابع المغربي أربعة وعشرين عامًا قبل أن يظهر أول فيلم مغربي يتناول الأدب، وهو فيلم “حلاق درب الفقراء” الذي أُنتج في عام 1982 وأخرجه محمد الركاب، والنص الأدبي الذي استلهم منه الفيلم هو مسرحية “حلالق درب الفقراء” للكاتب يوسف فاضل. بعد ذلك، جاء فيلم “بامو” من إخراج إدريس المريني، والذي اقتُبس من رواية تحمل نفس الاسم للروائي أحمد زياد. ومن ثم، تتابعت الاقتباسات بشكل متقطع، حيث ظهرت أفلام أخرى مثل “الزفت” للطيب الصديقي و”الخبز الحافي” لرشيد بنهادج.
ويرجع إدريس خوري سبب القطيعة بين الروائي والسينمائي في المغرب إلى:
- انعدام العلاقة بين الروائي والسينمائي.
- اعتماد الثقافة الفرنسية لجل السينمائيين والعربية لجل الروائيين والقصاصين.
- عدم اطلاع المخرجين السينمائيين على كل ما هو منشور بالعربية في مجال القصة والرواية.
- رغبة المخرجين في كتابة أعمالهم وإخراجها[10].
إن العلاقة بين الأدب والسينما تستلزم رؤية عميقة لاستجلائها، ولكننا نشير إليها لأنها تشكل جزءا من البناء الخاص للخطاب الفيلمي ولتأثير الأدب في الصناعة السينمائية، ونظرا لعلاقة الانصهار هذه، فإن الأدب يدخل في خانة الخصائص التي تشكل الشعرية الفيلمية رغم الاختلاف الكبير بين النقاد السينمائيين.
المراجع:
– لوي ديجانيتي، فهم السينما، السينما والأدب، ترجمة جعفر علي، منشورات عيون المقالات، 1993، ص: 12.[1]
– لوي ديجانيتي، فهم السينما، السينما والأدب، م س، ص: 69.[2]
– يوري لوتمان، سيميوطيقا السينما، ترجمة نصر أبو زيد، ضمن كتاب، مدخل إلى السيميوطيقا، منشورات عيون، ج 2، ص: 113.[4]
– لوي ديجانيتي، فهم السينما، اتحاهات طليعية، م س، ص ص: 26-27.[5]
– لوي ديجانيتي، فهم السينما، اتحاهات طليعية، م س، ص: 39.[6]
– د. مدكور ثابت، النظرية والابداع في سيناريو وإخراج الفيلم السينمائي، م س، ص ص: 24- 25.[7]
– لوي ديجانيتي، فهم السينما، نظرية السينما، م س، ص: 7.[8]
[9]– آرثر نايت، قصة السينما في العالم، من الفيلم الصامت إلى السينيراما، ترجمة سعد الدين توفيق ومراجعة صلاح أبو سيفـ،، دار الكاتب المغربي، القاهرة 1967، ص: 118.
– إدريس خوري، عن الروائي والسينمائي، الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، (16.05.85) ص: 5.[10]