سحر عبد الله- سوريا-سماورد
لو يقف الدكتاتور، أي دكتاتور عبر العصور للحظة، ويتخيل دوره معكوساً أي أن يكون مهانا ًضعيفاً، محروماً من النوم، ومراقبا ًحتى وهو في فراش النوم، وفي سرير الحب أو تحت دش الحمام. هل سيذرف دمعة؟! أو هل سيتأثر مثلما تأثر المخبر في فيلم حياة الآخرين لحديث الشاعر المخرج؟! أو هل سيتأثر بمعزوفة (بيتهوفن)، التي كان يعزفها المخرج بكل رقة وتأثر قائلا لصديقته: بأنه يستغرب كيف لا يشعر بالحب من يسمع هذا العزف البديع، مستشهدا بمقولة لينين عن عبقرية بيتهوفن حين قال: بأنه لن ينجز الثورة إن استمر بالاستماع لبيتهوفن؟!
اخترت أن أتناول الفيلم، من هذا التفصيل، على أنه باب تعزيزي لقيمة الحياة والحب، مقابل قتل الحياة والجمال، وهي أهم خطين عالجهما الفيلم ببراعة وقوة وتأثير حد البكاء. يبدأ الفيلم باستعراض ذكي لمخبر متمرس يعلم الرفاق كيفية إيصال المتهم لعتبة الانهيار شيئاً فشيئاً، عبر منعه من الراحة والنوم. يعرض عليهم شريط تسجيلي بصوت أحد المتهمين، ويتوقف عند بعض المقاطع مشدداً على ما يمكن تفسيره من نبرات الصوت وشكل الاستجابة، مبيناً الفرق بين البريء والمتورط وبين البسيط والمعقد.
يتم تكليف المحققْ (فيسلر) بمراقبة المخرج (جورج دير يمان) وصديقته (كريستا ماريا)، للتأكد من اتصالات له مع منشقين ومتعاملين مع ألمانيا الغربية؛ فيتم تزنير جدران شقته، من بابها حتى غرفة النوم والحمام، بأسلاك موصولة بجهاز للتسجيل زرع على سطح البناية حيث تتم المناوبة على جلسات التسجيل بين المحقق وبين رفيق ناشئ.
عبر جلسات التسجيل والمراقبة، نلاحظ تأثر المحقق (فيسلر) بمقاطع الموسيقى وأحاديث المخرج (دير يمان) عن بريخت وغيره من كتّاب ألمانيا العظام. وفي اللحظات الحميمية، كان يستغرق بتأثر عميق في لحظات تشبه الغياب، مع لمسة حزن عميقة بعينيه القاسيتين الجامدتين من شدة الحال ووطأة الحاجة لحب وحنان.
ينتحر أحد الشعراء والكتاب المعاصرين في ذلك الحين، وهو من أقرب أصدقاء المخرج (دير يمان)، الذي يتأثر بدوره ويصمم على كتابة تقرير عن معدلات الانتحار، التي ارتفعت بشدة في ألمانيا الشرقية، والتي لم يتجاوزها سوى هنغاريا في دول أوروبا. ويحاول أن يربط ذلك بيأس الناس من تغير الحال ومن حصول شيء شامل يكسر، ليس فقط الجدار، بل يحطم سماء لم تسمح سوى لشمس الاشتراكية بالإشراق.
يتم إنجاز التقرير فيما يخص الانتحار بسرية وحرفية من قبل فريق أصدقاء المخرج، الذين أمنوا له آلة كاتبة دقيقة، كان يخفيها كل مساء تحت عتبة أحد أبواب صالون الشقة، موقناً أن صديقته شاهدته ولو مرة فأخبرها بحقيقة الأمر .
يتم نشر الخبر، في مجلة بألمانيا الغربية، عن معدلات الانتحار. كان التقرير بمثابة فضيحة للمحقق الذي يراقب المخرج؟؟؟ يصبح المحقق تحت المراقبة نفسه، خاصة بعد أن يفاجئه رئيسه بأن صديقة المخرج اعترفت بمكان الآلة الكاتبة التي تم عبر ها نسخ التقرير.
في لحظات خاطفة، يتمكن المحقق (فيسلر) المتعاطف بطبيعة الحال مع (ديريمان) أن يدخل الشقة، ويأخذا الآلة الكاتبة، ليخيب سعي المحقق الأكبر مع فريقه في عدم العثور على أكبر دليل على أن المخرج هو من أعد التقرير. حين ترى (كريستا ماريا) المخبرين يفتشون الشقة، واقتربوا من المكان الحقيقي الآلة الكاتبة وسيكشف أمرها، بأنها وشت بحبيبها خرجت مسرعة من الشقة باكية يغمرها العار. تسقط أما معجلات شاحنة مسرعة لتموت بثوان. يركض صديقها خلفها ليجدها جثة هامدة غارقة في دمائها.
كانت تلك نهاية الممثلة والمحقق ومهمة المراقبة. يعاقب المحقق (فيسلر) على أثر فشل المهمة حيث يتم تعيينه في دائرة لفتح الرسائل البريدية، وتفتيشها، وقراءتها، ثم إعادة إلصاقها.
يسقط جدار برلين، وتتغير الأحوال إلى أحوال يستطيع (دير يمان) أن يعيد مسرحيته للحياة. في حفل افتتاح العرض، يكون المخرج حاضراً، مع أحد رجالات الدولة الذين كانوا ضد موهبته أيام ما قبل الجدار. حين تبدأ الممثلة بحوارها، يخرج المخرج من العرض باكياً مقهوراً لأنه تذكر صديقته المغدورة، والتي كان مفترضاً أن تكون هي صاحبة الدور. خلف الكواليس يلتقي المخرج بأحد المخبرين الذين كانوا يبتزون الممثلة الشابة، فيسأله المخرج بحرقة هل كنت مراقباً؟؟
يقول له، ببرودة وسخرية، نعم وحتى هذه اللحظة. ويخبره عن مخطط سير أسلاك التجسس. في لقطة تالية وسريعة نرى المخرج يسحب أسلاك التسجيل والمراقبة ليرى بأنها تلبس جدران غرفته كطلاء الجدران نفسه، الأسلاك مزروعة في كل زاوية.
بعد انهيار الجدار، تكرمت الدولة بوضع سجلات التحقيق والمراقبة في متحف للبشر، أو لنقل للضحايا كي تقرأ حياتها ويومياتها من وجهة نظر الأخ الأكبر. يطلع المخرج على مجمل الأوراق التي رصدت فترة مهمة من حياته ليعرف اسم المحقق ؟؟؟ يراقبه عن كثب مرة ليعرف كيف آلت حاله إلى موزع رسائل بريد بائس بوجه جامد فارقته كل ملامح الحياة.
في مشهد ختامي آخر، يعبر المحقق الشارع ليرى إعلان رواية جديدة للكاتب (جورج دير يمان) اسمها (سوناتا) للرجل الطيب ، يشتري الكتاب بشغف ويبتسم ابتسامة رضا وحنان حين يقرأ إهداء الكتاب بأنها ل ج .ف وهي رمز المحقق (فيسلر) نفسه.
أعطانا الفيلم شخصية المحقق الإنسانية، التي تتأثر وتشعر وتحس بالقهر والحب والحنان والحاجة لكل المشاعر البشرية والإنسانية، والوجه الآخر القبيح الذي يبيد كل ما يقف بوجه سلطته.
تخيلت، وبترف، لو أن دكتاتوري الوطن العربي شاهدو الفيلم، مع أسرهم وأطفالهم، ولو أن جرأة خرافية تدفع بهم للقول لأسرهم بأنهم يفعلون كل ذلك، وما هو أقبح كي يبقوا على كراسيهم.
متى سيتحطم جدار يفصل بين شعوبنا والحياة ولو في فيلم؟؟
دراما ألماني 2007 البطولة لأولريتش موهي بدور المحقق (فيسلر)، و(سيباستيان كوتش) بدور الكاتب، والمخرج المسرحي (جورج دير يمان) والممثلة (مارتينا غيديك) بدور صديقة المخرج (كريستا ماريا). مدة الفيلم 137 دقيقة. حاز على جائزة أفضل فيلم لفيلم بلغة أجنبية بمهرجان هوليود. حاز جوائز بألمانيا مثل جائزة أفصل مخرج وأفضل ممثل وأفضل ممثل مساعد وأفضل عرض.