لولا ازدواجية المسرح (عظمة احتمالاته) في تعاطيه مع مواده الفنية وشتى أنواع الفنون الجامع لها، لاتفق الجميع على أن الشكل الأسمى في التعبير عن شخصية المسرحية هو الأدب، تلك الازدواجية التي من شأنها أن تجعلنا خارج الحياد، خصوصاً بعد تمرد الفنون على اللغة في عصر الحداثة وما بعدها، وعلو كعب التعبير بالصورة ومدلولاتها، ودون قصد ننتقل في تجاربنا بين أشكال نتحمس لها وأخرى نشعر أمامها بالعجز ربما أو بانحسار الشغف، تعبر بنا أقدار قرارتنا رغم لانهائية خياراتها وتعود للشكل الفني الأدبي سيف المسرح ودرعه الحصين، بل وجهه من خلف القناع. و بما أن الأدب مكنونه الإبداعي نهج التعبير بالأبلغ و الأفصح، كما أن تعريفه الحرفي هو “التعبير والإنشاء، وخلاصة التجارب الإنسانية المزركشة بجمال الألفاظ والمزدانة بجلال المعاني، بوشي من خيال وحلة من عاطفة”، فإن ضرورية التمرس عليه واقع لا مفر منه بالنسبة للفنان والمسرحي، ولأن تعبيرنا عن ذواتنا وعما في جعبتها ينطلق بهدف نراه جلياً، سنتجاوز (وهم الأدب) وأشباحه السفسطائية أو هرطقة التعبير بغية إشباع الثرثرة دون وجهة واضحة، عندها فقط ستبدأ رحلة البحث الروحية الحقيقية لدى الكاتب، فيبحث في لغة عمرها ثماني آلاف سنة برصيد ثري يفوق الستة عشر ألف جذر لغوي، يؤرقه فيها غير المطروق من الألفاظ طمعاً في بلاغة التعبير بشكل أدق وأعمق. يا لها من نعمة ويا له من فوز بمفردة أو اثنتين تلك التي حين يجدها تزف له بشارة إحساس الآخر بمشاعره وفهمه لأفكاره، نعم الأجدر بنا جميعاً أن نحث بعضنا على التنافس بارتياد مثل هذا المضمار بتروي وبحكمة واختبار مدى الإبداع الذي يمكن لنا الوصول له من خلال التراكيب اللغوية شكلاً ومضموناً موقفها وتوقيتها الصحيح، وأن نحرص على تحليل المفاهيم في تعبيرنا عن الأشياء واتجاهها إلى أن يصل كل منا لأسلوبه الخاص. لن تنتهي رحلتنا مع الكلمة فهي دهرية فعلا؟. نحذر من الوقوع في الخطأ وتصحيحه حتى ولو افترضنا الوقوع في شَرك التنميق فلن يتطلب الأمر منا سوى التفاتة للصدق، حتما سينقذنا عبر فن صياغة البوح، سيجدنا في مونولوج تتقدمه دمعة سقطت بكلمة بلا تفكير تسقط قرباناً للسمو البشري من محجر يرى جموح خيال الآخر كما يحب أن يرى خياله، تأخذنا التصاوير، ننحت بها أثر الحياة في فصول القصص، وبجمل وقع أثرها على النفس كالبلسم، تعاضدنا المشاعر وإيقاعها لا يُسمع له همس، بيد أنه يطرب الفؤاد، ومن سيدة اللغات (اللغة العربية) لسيد الفنون وأبيها نترك الباقي للمسرح فهو يحب جمع الشتات وربط الأفئدة عندها فقط تصبح نجوى الكاتب نجوى الناس فما أعظمه من تعبير عن الذات وصاحبها حين يشعر الناس بمجازك حقيقة.
وحين نتكلم عن استراتيجيات النفاذ للمتلقي أستطيع القول أن السهل الممتنع لم يكن يوماً سهل أو ملقى على قارعة الطريق، فآلية اختزال الأفكار والمعاني تحتاج بالإضافة إلى جهود التبسيط إلى آلة اللغة. اللغة التي يمكن لها قتل المعاني على حساب معان أخرى، والعجب كله تفعل كل ذلك من خلال جملة أو سطر يعج بالدهشة رغم سلاسته.
أعزائي، نحن وللأسف لا نخرج من منطقة راحتنا ونواجه المشكلات بحلول تقبل الاحتمالات كلها، دائما نتحدث ولدينا خيار واحد فقط ندافع عنه، بالطبع اتفق في أن علمنة الفنون ومنها الأدب، يفاقم من هوس تدوين وصفاتها السحرية الفعالة، كما يسهم في اتخاذ شكل وبرواز واحد راسخ وثابت في وعي الصُناع.
نعم هناك تنميط ورتابة وكسل لكن من وجهة نظري القاصرة، أن السبب يكمن في وجود مسافة بين الأذن واللسان تفاقمت في اتساعها وفي طريقها للتحول إلى هوة، لذا يجب أن نقف عندها قطعاً كي لا نتوه ما بين مستمع بارع ضاق ذرعاً في صبره حتى فقد القدرة على التعبير، وبين متحدث لا يسمع إلا صوته. لن تتسع آفاقنا أصدقائي ونحن ننفر ونهجر لغتنا التي بالكاد نستخدم عُشراً من مقدارها العظيم وبكوارث نحوية وإملائية لا أزكي نفسي منها، ستُسجن هويتنا وتُختزل باسم الصدق، ما دمنا نبتعد عن الأجدر والأصعب والأهم تحت أي ذريعة، لهجاتنا العامية لا تنفك من اللغة في شيء علينا أن ننهل منها أولاً عبر المَلكة المجانية التي قيل عنها أنها مَلكة أو براعة راسخة في النفس، كما أنّها سِجّل لتراث الأمة من علومها ومعارفها عبر مد العصور .